هذه سيدة جليلة من نساء البحرين في الزمن الجميل من أولئك اللواتي عشن ما بين المحرق والرفاع يوم أن كانت الأولى عاصمة البحرين وتعج بالحركة والنشاط وينبعث من جوانبها عبق التاريخ المضيء للبلاد، فيما كانت الرفاع -بحسب قولها- منطقة شبه خالية من البناء ويسودها الهدوء وتحيط بها مساحات شاسعة بلا سكان أو بيوت، لذا كانت تفرح كثيراً عندما تنتقل إلى المحرق، حيث الحياة الصاخبة والفرجان العتيقة والجيران الطيبون وأطفال في سنها يركضون ويلعبون في «السكيك» و«الدواعيس» الضيقة، وحيث الصيادون وروائح الأكلات الشعبية المنبعثة من البيوت الشعبية البسيطة.
ولدت الشيخة هيا بنت علي بن عبدالله آل خليفة في فريج الباسي (نسبة إلى نوع من السمك كان الرجال يصطادونه وتتولى النساء بيعه في السوق) بمدينة المحرق، ابنة لوالدها الشيخ علي وحفيدة للشيخ عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة (ولد بالمحرق عام 1883 وتوفي في الرفاع عام 1966. والأخير (أي جدها) تربى في كنف والده الشيخ عيسى بن علي آل خليفة الذي حكم البحرين وتوابعها من عام 1869 حتى وفاته عام 1932) وتلقى تعليمه على أيدي معلمين خصوصيين بالبحرين وأكمله في مدينة البصرة العراقية، قبل أن يشغل المناصب التالية: رئيس بلدية المنامة من 1919 إلى 1920 ثم من 1938 إلى 1956؛ رئيس بلدية المحرق من 1927 إلى 1937؛ رئيس مجلس التعليم والمدارس العامة من 1919 إلى 1931؛ رئيس القضاة من 1931 إلى 1938؛ عضو المجلس الإداري من 1956 إلى 1961 ثم عضو مجلس الدولة من 1961 إلى 1966 ورئيس دائرة المعارف من 1960 إلى 1961.
والمعروف أن جدها المباشر الشيخ عبدالله، الذي اشتهر بولعه برحلات القنص في السعودية، صاحب إسهامات كثيرة في تاريخ البحرين الحديث منها قيامه بتأسيس أول مدرسة لتعليم البنات بالمحرق عام 1928 (مدرسة خديجة الكبرى) وإرساله أول بعثة من الطلبة للدراسة على نفقة الحكومة في الخارج عام 1928، ناهيك عن قيامه بالعديد من الإصلاحات أثناء توليه رئاسة بلدية المحرق مثل توسعة الشوارع وتنظيم الأسواق التجارية.
من ذكريات الشيخة هيا عن جدها -طبقاً لما ورد في كتاب من ذاكرة البحرين لمؤلفه الدكتور عبدالحميد سالم المحادين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/ الطبعة الأولى 2007/ الصفحات من 285 إلى 306)- أنه كان يقيم في فريج الشيوخ بالمحرق، وأنها كانت تذهب مع الصغار للسلام عليه في المناسبات والأعياد فكان يوجهها ويسأل عن دراستها. وتذكرت في السياق نفسه جدتها لولوة ابنة أحمد بن علي (أخو الشيخ عيسى بن علي الكبير)، وهي شاعرة نبطية مقلة، والطبيبة والمدلكة الشعبية «أم بدر»، وغيرهن من النساء اللواتي قالت عنهن إنهن كن يتزاون ليلا مستعينات بواحدة تسير أمامهن وهي تحمل فانوساً لإنارة الطريق المظلم. كما تذكرت «مارجوري» زوجة مستشار حكومة البحرين سير تشارلز بلغريف التي منحتها ساعة يد كهدية تشجيعية لمشاركتها في النشاط المسرحي المدرسي.
التحقت الشيخة هيا بادئ ذي بدء بمدرسة خديجة الكبرى في مبناها القديم بالمحرق، وكانت مديرتها آنذاك السيدة سلوى العمران زوجة مدير المعارف الأسبق أحمد علي العمران، وتلقت العلم في هذه المدرسة على أيدي نخبة من أوائل المدرسات البحرينيات من أمثال: حصة الزياني، منيرة هجرس، شيخة هجرس، سكينة القحطاني، لولوة الزياني، تاج الزياني، هيا الزياني، سامية العمران، هيا قاسم، ثاجبة بوحمود، ومريم الشيراوي. في هذه المدرسة درست حتى الصف الرابع الابتدائي، ثم انتقلت للدراسة بمدرسة الإرسالية الأمريكية بالمنامة التي تعتبر أول مدرسة في البلاد تدرس اللغة الإنجليزية منذ الصفوف المبكرة، وكانت تقودها آنذاك مديرة أمريكية تتقن العربية. في هذه المدرسة درست هيا الإنجليزية والإنجيل لأول مرة إلى جانب طائفة من المواد العصرية مثل الحساب والجغرافيا والتاريخ على أيدي مدرسات من الديانات السماوية الثلاث، كما زاملت طالبات من ديانات وجنسيات وأعراق وطبقات مختلفة فتعلمت عدم التعصب والتسامح والقبول بالآخر واحترامه، وزادت قناعتها بأن «الديانات كلها من مصدر واحد، وإنْ اختلفت الطرق والوسائل، لكن الإسلام أعم وأشمل ووحدانية الله واضحة فيه» بحسب قولها. وفي هذه المرحلة قررت أسرتها الاستفادة من إجازة مدرستها الأسبوعية في أيام السبت والأحد فأرسلتها لدراسة القرآن الكريم عند مطوعة تدعى عائشة الباز، فتخرجت على يدي الأخيرة حافظة للقرآن. أما الإنجليزية، فبسبب تأخرها عن دراسة هذه المادة، خصصوا لها معلمة تدرسها اللغة خلال أوقات الفسح، وكانت يهودية عراقية اسمها «سمحة».
أنهت الابتدائية في مدرسة الإرسالية، وتخرجت فيها في عام 1951. ووقتها لم تكن هناك مدارس للمراحل ما بعد الابتدائية كي تكمل مشوارها، لكن تم افتتاح صف واحد بمدرسة الزهراء الحكومية بالمنامة كي يكون نواة للمرحلتين الإعدادية والثانوية، وأطلقوا عليه «الصف الخاص» وكانت مدرسات الصف يأتين من خارج المدرسة في أيام محددة ويتولين تدريس مواد اللغة الإنجليزية والتدبير المنزلي وبقية العلوم. تقول هيا إن المادة التي درسها في هذه الفترة، ولم تعد تدرّس، وكان لها تأثير إيجابي عليها في حياتها التالية هي مادة «تربية الطفل منذ الحمل وحتى سن الخامسة».
في نهاية 1953 تركت هذه المدرسة وهي في حالة حزن شديد لوفاة ثلاث من أعز صديقاتها في حادث تحطم طائرة خلال رحلة عودتهن إلى البحرين من الخارج وهن ليلى حسين يتيم وراشيل خضوري ونانسي خضوري. وقتها كانت على وشك الزواج من الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله آل خليفة بأمر من جدها الشيخ عبدالله بن عيسى، لكنها أرجأته إلى بداية العام التالي، وكيلا تضيع عليها سنة دراسية فقد التحقت في عام 1954 بمدرسة القلب المقدس التي كانت تدرس كل موادها باللغة الإنجليزية وتديرها راهبات كاثوليكيات على خلاف مدرسة الإرسالية التي كانت تحت إدارة راهبات بروستنتيات.
تزوجت هيا ودخلت عالماً مختلفاً أبعدها عن زميلاتها والتعليم، رغم شوقها لإكمال دراستها، ورغم مساندة زوجها لتلك الرغبة، ورغم مساعدة جدها لها لجهة استثنائها من قانون كان معمولاً به آنذاك وهو حظر قبول المتزوجات في المدارس. وهكذا جعلت هيا مواصلة تعليمها مشروعاً مؤجلاً والتهت بالحياة الزوجية والإنجاب.
وتمر الأيام وتنجب خمسة أبناء لتقرر بعدها وبموافقة زوجها إيقاف الإنجاب واستئناف الدراسة التي انقطعت عنها من عام 1954 إلى 1962. ففي عام 1963 التحقت بالصفوف المسائية التي كانت تقبل كل خريجات الابتدائي وتقيم لهن امتحانا كل سنتين، واجتازت الامتحانات، التي كانت وقتها تأتي من مصر وتصحح فيها أيضاً، بنجاح ونالت شهادة الثانوية العامة على الرغم من كل أعبائها الأسرية.
غير أن امرأة طموحة مثل هيا آل خليفة لم يكن سهلاً عليها الاكتفاء بالشهادة الثانوية، فقررت مواصلة تحصيلها الجامعي. ولأن انتظامها في الصفوف الجامعية كان يعني سفرها وبالتالي تخليها عن واجباتها تجاه زوجها وأبنائها، لم تجد حلاً سوى الانتساب إلى جامعة بيروت العربية والدراسة عن بعد في تخصص التاريخ.
أما لماذا مادة التاريخ تحديداً؟ فليس لأنها مادة يمكن دراستها عن بعد بسهولة، وإنما أيضاً لأنها مرتبطة بالآثار، والآثار كانت تشكل مسألة تؤرقها منذ سنوات دراستها الابتدائية حينما كانت تخرج في رحلات داخل البحرين مع النساء الأجنبيات، وتشاهد كيف أنهن يقمن بالحفر والاستيلاء على كل ما يجدن من كنوز البلاد الأثرية، مستفيدات آنذاك من قلة وعي المواطنين وعدم وجود قانون ينظم الآثار ويحميها من السرقة والاعتداء.
حصلت هيا على ليسانس التاريخ بمجهودها في أواخر الستينات، فيما تحمل زوجها الكثير من الأعباء الأسرية في تلك الفترة كي تحقق زوجته ذاتها. وعلى إثر ذلك التحقت بالعمل في وزارة التربية والتعليم زمن وزيرها الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة رحمه الله (توفي عام 1981)، وكان من حسن حظها أن ذلك تصادف مع إنشاء قسم للآثار بالوزارة سنة 1968 فعملت فيه وتمكنت من خلاله إقناع وزير التربية بالسعي لدى الحكومة من أجل استصدار قانون خاص بالآثار ينظم التنقيب عنها ويحول دون العبث بها أو سرقتها، فصدر القرار عام 1970، وبالتالي صار التنقيب يجري بتصريح وتحت إشراف الحكومة ومن قبل أناس متخصصين، وباتت العلاقة بين البعثات الأجنبية والبحرين تحكمها نصوص قانونية.
وفي عام 1972 تم تعديل مسمى وظيفتها في قسم الآثار بوزارة التربية إلى «باحثة آثار»، فصارت بهذه الصفة تتابع وتشارك في الأعمال الميدانية التي قامت بها -آنذاك- بعثة التنقيب الدانماركية، ومن بعدها البعثة الانجليزية فالبعثة الفرنسية فبعثات عربية ووطنية، في المدافن الدلمونية الأثرية، بل راحت تعمل وتحفر بيدها غير آبهة بالتراب والطين ومقابر الموتى المخيفة وما تحتويها من هياكل عظمية. ومن المفارقات التي تحدثت عنها في كتاب «من ذاكرة البحرين» المشار إليه آنفاً أنها كانت تنظف ذات مرة هيكلاً عظمياً فلاحظت وجود أشياء متداخلة في الهيكل وكسور وشقوق، فإذا بها تكتشف أن الهيكل لطفل في بطن أمه، الأمر الذي أرهبها، رغم اعتقادها الراسخ أن «الأحياء يخيفون أكثر من الأموات» بحسب كلامها. واستمرت في وظيفة «باحثة آثار» مذاك وحتى عام 1976.
علّـمها الاقتراب من المدافن والأموات وما تم اكتشافه من أختام دلمونية وعملات معدنية وأوان فخارية ونحاسية وغيرها، كم أن تاريخ بلادها سحيق، وكم أن عقد المقارنات بين آثار البحرين وبين مثيلاتها في وادي السند وبلاد الرافدين يؤكد مقولة ارتباط حضارة دلمون بحضارة تلك الدول منذ أقدم العصور، وكم أن الاستغراق في الدراسات الجيولوجية سوف يفضي إلى فك طلاسم تكوين جزيرة البحرين الكبرى لجهة تشابكها مع جزر البلاد الأخرى، فزاد شغفها بعلم الآثار وكان قرارها بالتخصص الأكاديمي في هذا المجال الذي لم يتخصص فيه أحد من مواطنيها حتى ذلك التاريخ.
وهكذا بدأت الشيخة هيا رحلة علمية جديدة قادتها هذه المرة إلى جامعة الإسكندرية لنيل درجة الماجستير في علم الآثار. غير أن العملية لم تكن سهلة في ظل إصرار الجامعة على الانتظام في الدراسة. وهي لئن أمضت عاماً دراسياً كاملاً في الإسكندرية نجحت خلاله في تسجيل رسالتها للماجستير بعنوان «مدافن الحجر في البحرين»، كما نجحت خلاله في تعلم اللغة الهيروغليفية بتقدير عال، ناهيك عن مناقشة رسالتها تحت إشراف الدكتور عبدالمنعم أبوبكر، إلا أنها لم تواصل بسبب وفاة الأستاذ المشرف، وعدم وجود شخصية أخرى تحل مكانه وتكون ملمة بأوضاع الآثار في البحرين ومنطقة الخليج العربي.
خطوتها التالية كانت الاعتماد على نفسها في قراءة أكبر قدر ممكن من الكتب والمخطوطات والمؤلفات ذات الصلة بالتاريخ والآثار والتراث الشعبي، علاوة على زيارة المكتبات المصرية والعربية والأجنبية الحاضنة لأمهات الكتب والمخطوطات في علم الآثار، والتناقش حول مضامينها مع المختصين لتفسير المبهم، فاستطاعت أن تكون لنفسها مكتبة عامرة بأندر الكتب والمخطوطات، وهو ما ساهم مساهمة كبيرة في زيادة حصيلتها العلمية والمعرفية بكل ما له علاقة بالآثار، وهو أيضاً ما ساعدها في الفترة ما بين عامي 1976 و1978 على تولي وظيفة «مراقبة التنقيبات الأثرية» في إدارة الآثار والمتاحف تحت قيادة شخصية عراقية الجنسية متخصصة هو الدكتور عبدالقادر التكريتي الذي عمل طويلاً في البحرين قبل أن تستدعيه حكومته لحاجتها إليه، لتتولى الشيخة هيا منصب مديرة الآثار والمتاحف ما بين عامي 1985 و1989.
ولعل أبرز ما يُعزى إليها هو نجاحها في تأسيس متحف البحرين الوطني والانتقال للعمل فيه. وفي هذا السياق قالت: «واجهتني بعض المصاعب الإدارية حينما انتقلت للعمل في المتحف لأن طبيعة العمل فيه كانت مختلفة عن طبيعة وظائفي السابقة، فالمتحف فيه خبرات عالمية وقد اجتمعنا مع المصممين الدانماركيين وطلبنا منهم تصميماً مختلفاً يعتمد على وحدات مكعبة بحيث تكون إحدى هذه الوحدات مطلة على البحر مباشرة وذلك لأن المعابد السامية جميعها على أشكال مكعبة. وهكذا اتجهنا إلى الشكل التكعيبي للمتحف، وكل مكعب يحكي قصة من تاريخ البحرين».
قصة المتحف الوطني البحريني.. فكرة وتنفيذ
استمرت هيا تشرف على المتحف الوطني وتعمل فيه، محافظة في الوقت نفسه على علاقاتها مع من يعملون في الميدان، ومساهمة في إعداد وتأسيس متحف الغوص إلى أن تركت العمل في عام 1989 وهي في منصب الوكيل المساعد للثقافة والتراث الوطني.
المثير في حكاية الشيخة هيا هي أنها شخصية لم تتوقف لحظة واحدة لجهة خدمة وطنها ومواطنيها، ثم لجهة التبحر في كل ما له علاقة بشغفها الأول وهو الآثار، على الرغم من كل أعبائها الوظيفية والأسرية والاجتماعية وآية ذلك أنشطتها المتشعبة التي تجسدت في الإشراف على ترميم الكثير من المواقع الأثرية والتراثية في وطنها، وعضويتها في جمعية رعاية الطفل والأمومة ضمن السيدات المؤسسات وعضويتها في جمعية تاريخ وآثار البحرين وجمعية المؤرخ العربي، ناهيك عن أعمالها التطوعية في مجال رعاية شئون الأيتام والأسر المحتاجة وتخطيط برامج المرأة التوعوية. وآية ذلك أيضاً قيامها بإصدار جملة من المؤلفات والدراسات القيمة التي أثرت المكتبتين الخليجية والعربية. ومنها: «كتاب البحرين عبر التاريخ»، «الإنماء وتطوير التربية»، «البيئة في المناهج الدراسية»، «التراث البحريني وأهميته»، بحث باسم دلمون نشرته في مجلة ليدز الأمريكية سنة 1986، بحث عن البحرين نشرته في مجلة المتحف الكويتية سنة 1986، بحث عن البحرين نشرته في مجلة العربي الكويتية سنة 1985.
ولكل هذا لم يكن غريباً أن تحصل على عدد من الأوسمة والجوائز وشهادات التكريم من أبرزها: وسام الكفاءة من الدرجة الأولى من لدن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة سنة 2004، وسام المؤرخ العربي من مركز الوثائق التاريخي، جائزة الدولة لرواد العمل الوطني، شهادة تكريم رواد مدينة المحرق، شهادة عضوية 25 سنة في جمعية رعاية الطفل والأمومة من وزارة العمل والشئون الاجتماعية بالبحرين، علما بأنها كانت من المشاركات في إطلاق ما عرف بـ «نادي السيدات» في عام 1953، وهو أول جهد نسائي تطوعي في البحرين قادته مجموعة من سيدات المجتمع المثقفات بقيادة المرحومة الشيخة لولوة بنت محمد آل خليفة (توفيت 2016) ووالدة الأخيرة الشيخة نيلة بنت خالد بن علي آل خليفة (توفيت 1991) من أجل تأسيس أول تجمع نسائي على مستوى البحرين والخليج العربي، حيث لم يعش نادي السيدات سوى 3 أشهر ثم أغلق تحت ضغط رجال الدين المحافظين الذين رأوا فيه منكراً، إلى أن تم إطلاق جمعية رعاية الطفل والأمومة كبديل في عام 1960.
ولدت الشيخة هيا بنت علي بن عبدالله آل خليفة في فريج الباسي (نسبة إلى نوع من السمك كان الرجال يصطادونه وتتولى النساء بيعه في السوق) بمدينة المحرق، ابنة لوالدها الشيخ علي وحفيدة للشيخ عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة (ولد بالمحرق عام 1883 وتوفي في الرفاع عام 1966. والأخير (أي جدها) تربى في كنف والده الشيخ عيسى بن علي آل خليفة الذي حكم البحرين وتوابعها من عام 1869 حتى وفاته عام 1932) وتلقى تعليمه على أيدي معلمين خصوصيين بالبحرين وأكمله في مدينة البصرة العراقية، قبل أن يشغل المناصب التالية: رئيس بلدية المنامة من 1919 إلى 1920 ثم من 1938 إلى 1956؛ رئيس بلدية المحرق من 1927 إلى 1937؛ رئيس مجلس التعليم والمدارس العامة من 1919 إلى 1931؛ رئيس القضاة من 1931 إلى 1938؛ عضو المجلس الإداري من 1956 إلى 1961 ثم عضو مجلس الدولة من 1961 إلى 1966 ورئيس دائرة المعارف من 1960 إلى 1961.
والمعروف أن جدها المباشر الشيخ عبدالله، الذي اشتهر بولعه برحلات القنص في السعودية، صاحب إسهامات كثيرة في تاريخ البحرين الحديث منها قيامه بتأسيس أول مدرسة لتعليم البنات بالمحرق عام 1928 (مدرسة خديجة الكبرى) وإرساله أول بعثة من الطلبة للدراسة على نفقة الحكومة في الخارج عام 1928، ناهيك عن قيامه بالعديد من الإصلاحات أثناء توليه رئاسة بلدية المحرق مثل توسعة الشوارع وتنظيم الأسواق التجارية.
من ذكريات الشيخة هيا عن جدها -طبقاً لما ورد في كتاب من ذاكرة البحرين لمؤلفه الدكتور عبدالحميد سالم المحادين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت/ الطبعة الأولى 2007/ الصفحات من 285 إلى 306)- أنه كان يقيم في فريج الشيوخ بالمحرق، وأنها كانت تذهب مع الصغار للسلام عليه في المناسبات والأعياد فكان يوجهها ويسأل عن دراستها. وتذكرت في السياق نفسه جدتها لولوة ابنة أحمد بن علي (أخو الشيخ عيسى بن علي الكبير)، وهي شاعرة نبطية مقلة، والطبيبة والمدلكة الشعبية «أم بدر»، وغيرهن من النساء اللواتي قالت عنهن إنهن كن يتزاون ليلا مستعينات بواحدة تسير أمامهن وهي تحمل فانوساً لإنارة الطريق المظلم. كما تذكرت «مارجوري» زوجة مستشار حكومة البحرين سير تشارلز بلغريف التي منحتها ساعة يد كهدية تشجيعية لمشاركتها في النشاط المسرحي المدرسي.
التحقت الشيخة هيا بادئ ذي بدء بمدرسة خديجة الكبرى في مبناها القديم بالمحرق، وكانت مديرتها آنذاك السيدة سلوى العمران زوجة مدير المعارف الأسبق أحمد علي العمران، وتلقت العلم في هذه المدرسة على أيدي نخبة من أوائل المدرسات البحرينيات من أمثال: حصة الزياني، منيرة هجرس، شيخة هجرس، سكينة القحطاني، لولوة الزياني، تاج الزياني، هيا الزياني، سامية العمران، هيا قاسم، ثاجبة بوحمود، ومريم الشيراوي. في هذه المدرسة درست حتى الصف الرابع الابتدائي، ثم انتقلت للدراسة بمدرسة الإرسالية الأمريكية بالمنامة التي تعتبر أول مدرسة في البلاد تدرس اللغة الإنجليزية منذ الصفوف المبكرة، وكانت تقودها آنذاك مديرة أمريكية تتقن العربية. في هذه المدرسة درست هيا الإنجليزية والإنجيل لأول مرة إلى جانب طائفة من المواد العصرية مثل الحساب والجغرافيا والتاريخ على أيدي مدرسات من الديانات السماوية الثلاث، كما زاملت طالبات من ديانات وجنسيات وأعراق وطبقات مختلفة فتعلمت عدم التعصب والتسامح والقبول بالآخر واحترامه، وزادت قناعتها بأن «الديانات كلها من مصدر واحد، وإنْ اختلفت الطرق والوسائل، لكن الإسلام أعم وأشمل ووحدانية الله واضحة فيه» بحسب قولها. وفي هذه المرحلة قررت أسرتها الاستفادة من إجازة مدرستها الأسبوعية في أيام السبت والأحد فأرسلتها لدراسة القرآن الكريم عند مطوعة تدعى عائشة الباز، فتخرجت على يدي الأخيرة حافظة للقرآن. أما الإنجليزية، فبسبب تأخرها عن دراسة هذه المادة، خصصوا لها معلمة تدرسها اللغة خلال أوقات الفسح، وكانت يهودية عراقية اسمها «سمحة».
أنهت الابتدائية في مدرسة الإرسالية، وتخرجت فيها في عام 1951. ووقتها لم تكن هناك مدارس للمراحل ما بعد الابتدائية كي تكمل مشوارها، لكن تم افتتاح صف واحد بمدرسة الزهراء الحكومية بالمنامة كي يكون نواة للمرحلتين الإعدادية والثانوية، وأطلقوا عليه «الصف الخاص» وكانت مدرسات الصف يأتين من خارج المدرسة في أيام محددة ويتولين تدريس مواد اللغة الإنجليزية والتدبير المنزلي وبقية العلوم. تقول هيا إن المادة التي درسها في هذه الفترة، ولم تعد تدرّس، وكان لها تأثير إيجابي عليها في حياتها التالية هي مادة «تربية الطفل منذ الحمل وحتى سن الخامسة».
في نهاية 1953 تركت هذه المدرسة وهي في حالة حزن شديد لوفاة ثلاث من أعز صديقاتها في حادث تحطم طائرة خلال رحلة عودتهن إلى البحرين من الخارج وهن ليلى حسين يتيم وراشيل خضوري ونانسي خضوري. وقتها كانت على وشك الزواج من الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله آل خليفة بأمر من جدها الشيخ عبدالله بن عيسى، لكنها أرجأته إلى بداية العام التالي، وكيلا تضيع عليها سنة دراسية فقد التحقت في عام 1954 بمدرسة القلب المقدس التي كانت تدرس كل موادها باللغة الإنجليزية وتديرها راهبات كاثوليكيات على خلاف مدرسة الإرسالية التي كانت تحت إدارة راهبات بروستنتيات.
تزوجت هيا ودخلت عالماً مختلفاً أبعدها عن زميلاتها والتعليم، رغم شوقها لإكمال دراستها، ورغم مساندة زوجها لتلك الرغبة، ورغم مساعدة جدها لها لجهة استثنائها من قانون كان معمولاً به آنذاك وهو حظر قبول المتزوجات في المدارس. وهكذا جعلت هيا مواصلة تعليمها مشروعاً مؤجلاً والتهت بالحياة الزوجية والإنجاب.
وتمر الأيام وتنجب خمسة أبناء لتقرر بعدها وبموافقة زوجها إيقاف الإنجاب واستئناف الدراسة التي انقطعت عنها من عام 1954 إلى 1962. ففي عام 1963 التحقت بالصفوف المسائية التي كانت تقبل كل خريجات الابتدائي وتقيم لهن امتحانا كل سنتين، واجتازت الامتحانات، التي كانت وقتها تأتي من مصر وتصحح فيها أيضاً، بنجاح ونالت شهادة الثانوية العامة على الرغم من كل أعبائها الأسرية.
غير أن امرأة طموحة مثل هيا آل خليفة لم يكن سهلاً عليها الاكتفاء بالشهادة الثانوية، فقررت مواصلة تحصيلها الجامعي. ولأن انتظامها في الصفوف الجامعية كان يعني سفرها وبالتالي تخليها عن واجباتها تجاه زوجها وأبنائها، لم تجد حلاً سوى الانتساب إلى جامعة بيروت العربية والدراسة عن بعد في تخصص التاريخ.
أما لماذا مادة التاريخ تحديداً؟ فليس لأنها مادة يمكن دراستها عن بعد بسهولة، وإنما أيضاً لأنها مرتبطة بالآثار، والآثار كانت تشكل مسألة تؤرقها منذ سنوات دراستها الابتدائية حينما كانت تخرج في رحلات داخل البحرين مع النساء الأجنبيات، وتشاهد كيف أنهن يقمن بالحفر والاستيلاء على كل ما يجدن من كنوز البلاد الأثرية، مستفيدات آنذاك من قلة وعي المواطنين وعدم وجود قانون ينظم الآثار ويحميها من السرقة والاعتداء.
حصلت هيا على ليسانس التاريخ بمجهودها في أواخر الستينات، فيما تحمل زوجها الكثير من الأعباء الأسرية في تلك الفترة كي تحقق زوجته ذاتها. وعلى إثر ذلك التحقت بالعمل في وزارة التربية والتعليم زمن وزيرها الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة رحمه الله (توفي عام 1981)، وكان من حسن حظها أن ذلك تصادف مع إنشاء قسم للآثار بالوزارة سنة 1968 فعملت فيه وتمكنت من خلاله إقناع وزير التربية بالسعي لدى الحكومة من أجل استصدار قانون خاص بالآثار ينظم التنقيب عنها ويحول دون العبث بها أو سرقتها، فصدر القرار عام 1970، وبالتالي صار التنقيب يجري بتصريح وتحت إشراف الحكومة ومن قبل أناس متخصصين، وباتت العلاقة بين البعثات الأجنبية والبحرين تحكمها نصوص قانونية.
وفي عام 1972 تم تعديل مسمى وظيفتها في قسم الآثار بوزارة التربية إلى «باحثة آثار»، فصارت بهذه الصفة تتابع وتشارك في الأعمال الميدانية التي قامت بها -آنذاك- بعثة التنقيب الدانماركية، ومن بعدها البعثة الانجليزية فالبعثة الفرنسية فبعثات عربية ووطنية، في المدافن الدلمونية الأثرية، بل راحت تعمل وتحفر بيدها غير آبهة بالتراب والطين ومقابر الموتى المخيفة وما تحتويها من هياكل عظمية. ومن المفارقات التي تحدثت عنها في كتاب «من ذاكرة البحرين» المشار إليه آنفاً أنها كانت تنظف ذات مرة هيكلاً عظمياً فلاحظت وجود أشياء متداخلة في الهيكل وكسور وشقوق، فإذا بها تكتشف أن الهيكل لطفل في بطن أمه، الأمر الذي أرهبها، رغم اعتقادها الراسخ أن «الأحياء يخيفون أكثر من الأموات» بحسب كلامها. واستمرت في وظيفة «باحثة آثار» مذاك وحتى عام 1976.
علّـمها الاقتراب من المدافن والأموات وما تم اكتشافه من أختام دلمونية وعملات معدنية وأوان فخارية ونحاسية وغيرها، كم أن تاريخ بلادها سحيق، وكم أن عقد المقارنات بين آثار البحرين وبين مثيلاتها في وادي السند وبلاد الرافدين يؤكد مقولة ارتباط حضارة دلمون بحضارة تلك الدول منذ أقدم العصور، وكم أن الاستغراق في الدراسات الجيولوجية سوف يفضي إلى فك طلاسم تكوين جزيرة البحرين الكبرى لجهة تشابكها مع جزر البلاد الأخرى، فزاد شغفها بعلم الآثار وكان قرارها بالتخصص الأكاديمي في هذا المجال الذي لم يتخصص فيه أحد من مواطنيها حتى ذلك التاريخ.
وهكذا بدأت الشيخة هيا رحلة علمية جديدة قادتها هذه المرة إلى جامعة الإسكندرية لنيل درجة الماجستير في علم الآثار. غير أن العملية لم تكن سهلة في ظل إصرار الجامعة على الانتظام في الدراسة. وهي لئن أمضت عاماً دراسياً كاملاً في الإسكندرية نجحت خلاله في تسجيل رسالتها للماجستير بعنوان «مدافن الحجر في البحرين»، كما نجحت خلاله في تعلم اللغة الهيروغليفية بتقدير عال، ناهيك عن مناقشة رسالتها تحت إشراف الدكتور عبدالمنعم أبوبكر، إلا أنها لم تواصل بسبب وفاة الأستاذ المشرف، وعدم وجود شخصية أخرى تحل مكانه وتكون ملمة بأوضاع الآثار في البحرين ومنطقة الخليج العربي.
خطوتها التالية كانت الاعتماد على نفسها في قراءة أكبر قدر ممكن من الكتب والمخطوطات والمؤلفات ذات الصلة بالتاريخ والآثار والتراث الشعبي، علاوة على زيارة المكتبات المصرية والعربية والأجنبية الحاضنة لأمهات الكتب والمخطوطات في علم الآثار، والتناقش حول مضامينها مع المختصين لتفسير المبهم، فاستطاعت أن تكون لنفسها مكتبة عامرة بأندر الكتب والمخطوطات، وهو ما ساهم مساهمة كبيرة في زيادة حصيلتها العلمية والمعرفية بكل ما له علاقة بالآثار، وهو أيضاً ما ساعدها في الفترة ما بين عامي 1976 و1978 على تولي وظيفة «مراقبة التنقيبات الأثرية» في إدارة الآثار والمتاحف تحت قيادة شخصية عراقية الجنسية متخصصة هو الدكتور عبدالقادر التكريتي الذي عمل طويلاً في البحرين قبل أن تستدعيه حكومته لحاجتها إليه، لتتولى الشيخة هيا منصب مديرة الآثار والمتاحف ما بين عامي 1985 و1989.
ولعل أبرز ما يُعزى إليها هو نجاحها في تأسيس متحف البحرين الوطني والانتقال للعمل فيه. وفي هذا السياق قالت: «واجهتني بعض المصاعب الإدارية حينما انتقلت للعمل في المتحف لأن طبيعة العمل فيه كانت مختلفة عن طبيعة وظائفي السابقة، فالمتحف فيه خبرات عالمية وقد اجتمعنا مع المصممين الدانماركيين وطلبنا منهم تصميماً مختلفاً يعتمد على وحدات مكعبة بحيث تكون إحدى هذه الوحدات مطلة على البحر مباشرة وذلك لأن المعابد السامية جميعها على أشكال مكعبة. وهكذا اتجهنا إلى الشكل التكعيبي للمتحف، وكل مكعب يحكي قصة من تاريخ البحرين».
قصة المتحف الوطني البحريني.. فكرة وتنفيذ
استمرت هيا تشرف على المتحف الوطني وتعمل فيه، محافظة في الوقت نفسه على علاقاتها مع من يعملون في الميدان، ومساهمة في إعداد وتأسيس متحف الغوص إلى أن تركت العمل في عام 1989 وهي في منصب الوكيل المساعد للثقافة والتراث الوطني.
المثير في حكاية الشيخة هيا هي أنها شخصية لم تتوقف لحظة واحدة لجهة خدمة وطنها ومواطنيها، ثم لجهة التبحر في كل ما له علاقة بشغفها الأول وهو الآثار، على الرغم من كل أعبائها الوظيفية والأسرية والاجتماعية وآية ذلك أنشطتها المتشعبة التي تجسدت في الإشراف على ترميم الكثير من المواقع الأثرية والتراثية في وطنها، وعضويتها في جمعية رعاية الطفل والأمومة ضمن السيدات المؤسسات وعضويتها في جمعية تاريخ وآثار البحرين وجمعية المؤرخ العربي، ناهيك عن أعمالها التطوعية في مجال رعاية شئون الأيتام والأسر المحتاجة وتخطيط برامج المرأة التوعوية. وآية ذلك أيضاً قيامها بإصدار جملة من المؤلفات والدراسات القيمة التي أثرت المكتبتين الخليجية والعربية. ومنها: «كتاب البحرين عبر التاريخ»، «الإنماء وتطوير التربية»، «البيئة في المناهج الدراسية»، «التراث البحريني وأهميته»، بحث باسم دلمون نشرته في مجلة ليدز الأمريكية سنة 1986، بحث عن البحرين نشرته في مجلة المتحف الكويتية سنة 1986، بحث عن البحرين نشرته في مجلة العربي الكويتية سنة 1985.
ولكل هذا لم يكن غريباً أن تحصل على عدد من الأوسمة والجوائز وشهادات التكريم من أبرزها: وسام الكفاءة من الدرجة الأولى من لدن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة سنة 2004، وسام المؤرخ العربي من مركز الوثائق التاريخي، جائزة الدولة لرواد العمل الوطني، شهادة تكريم رواد مدينة المحرق، شهادة عضوية 25 سنة في جمعية رعاية الطفل والأمومة من وزارة العمل والشئون الاجتماعية بالبحرين، علما بأنها كانت من المشاركات في إطلاق ما عرف بـ «نادي السيدات» في عام 1953، وهو أول جهد نسائي تطوعي في البحرين قادته مجموعة من سيدات المجتمع المثقفات بقيادة المرحومة الشيخة لولوة بنت محمد آل خليفة (توفيت 2016) ووالدة الأخيرة الشيخة نيلة بنت خالد بن علي آل خليفة (توفيت 1991) من أجل تأسيس أول تجمع نسائي على مستوى البحرين والخليج العربي، حيث لم يعش نادي السيدات سوى 3 أشهر ثم أغلق تحت ضغط رجال الدين المحافظين الذين رأوا فيه منكراً، إلى أن تم إطلاق جمعية رعاية الطفل والأمومة كبديل في عام 1960.