تتبدل الأزمات وتتغير، ويبقى المستهترون القاسم المشترك، إذ يظهرون في كل مرة يقدمون صورة مشوهة تنمُّ عن قلة وعي وضعف إدراك لما يجري حولهم.. من ساحات التفحيط ومسلسل قتل الأبرياء إلى تحطيم أجهزة ساهر، ومن الكتابة على الجدران إلى تكسير الممتلكات العامة في الميادين والشواطئ الجديدة، في كل مرة يظهر منجز تجدهم يسيرون عكس الاتجاه.
وما زالت قصص العابثين بأجهزة ساهر عالقة في الذاكرة، بدأت من مكان واحد ليجر معه الكثير من القصص المشابهة في مواقع أخرى.
في الرياض على سبيل المثال، انتشر مقطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي لإطارين مشتعلين جوار كاميرا ساهر، على طريق الملك عبدالعزيز بالجبيلة، إذ تعمد مجهولون تعريض الجهاز لتخريب واضح، كان ذلك بعد إعلان المرور انطلاق الرصد الآلي لمخالفات الحزام واستخدام الهاتف الجوال أثناء القيادة، وحذر المرور بأنه لن يتم التهاون مع مخالفي القواعد والقوانين.
ومع أزمة «كورونا» التي عانى منها العالم بأسره، ظهر شابان على منصة إلكترونية داخل أحد المحال التجارية وهما يشربان مادة «الديتول»، وهو المطهر الذي يستخدم عادةً في تطهير الأرضيات والأسطح. فعلا ذلك من باب الاستظراف والنكتة وإثارة الضحك، لكن الواقعة حظيت بردود أفعال غاضبة في المجتمع، وطالب كثيرون بمعاقبتهم، خاصة أنَّ غالبية متابعيهم من الأطفال الذين ربما يتأثرون بما يشاهدونه، وربما يقومون بتقليده دون معرفة أنَّ الأمر مجرد مزحة، لتقوم الجهات المعنية بحجزهما والتحقيق معهما.
هم الحلقة الأضعف.. وفي القائمة راشدون !
يقول الأخصائي النفسي يوسف السلمي إن المستهترين أشخاص اتخذوا أسلوب حياة خالية من المسؤولية تجاه أنفسهم والآخرين، هم الحلقة الأضعف في المجتمع، ومن قِبَلِهم يؤخذ المجتمع على حين غرة، نتيجة استهتارهم بإجراءات العزل والحجر الصحي واتباع تعليمات الوقاية والسلامة من الإصابة بفايروس «كورونا». وبعضهم يحاول لفت الانتباه عبر وسائل التواصل لتحقيق الشهرة وزيادة المتابعين، وفي سبيل ذلك يعمدون إلى سلوكيات متهورة ومستهترة، فينشط عامل التقليد والمحاكاة لهم والتحدي بين فئات المراهقين والشباب في تقديم سلوكيات تتسم بالاستهتار وهي صفة لا تلازم المراهقين والشباب فقط، فهناك مستهترون راشدون كبعض رجال الأعمال، الذين يكون استهتارهم بعدم تحملهم المسؤولية الوطنية، بالحفاظ على الأسعار وتوفير السلع، وبعض الآباء الذين لا يقومون بدور التوجيه والإرشاد والنصح لأولادهم في مواجهة الأزمة.
لماذا هم كذلك؟ يجيب السلمي: السبب يعود إلى عوامل اجتماعية ونفسية، فالتنشئة الاجتماعية التي تتسم بالاعتمادية والدلال الزائد تجعل الفرد لا يشعر بالمسؤولية، ويتسم سلوكه بالاستهتار وعدم المبالاة، وكذلك نمط الحياة العبثي القائم على المتعة الوقتية، وعدم تقديم الأولويات والأهم على المهم؛ تفسر لنا السلوك المستهتر، وبعض حالات التفكك الأسري، وغياب القدوة في حياة الفرد.
ومن التفسيرات النفسية الإصابة باضطراب الشخصية المضادة للمجتمع «السيكوباتية»، فهي شخصية تتسم برفض التعليمات والالتزام بالقوانين، والعدوان، والانتهازية، والاستغلال، والاستهتار بالحقوق العامة والخاصة. ومن التفسيرات النفسية غياب تقدير الذات لدى الفرد، فعدم إشباع التقدير الاجتماعي للفرد من الآخرين يشعره بعدم المسؤولية في مجتمعه، واللامبالاة والاستهتار في رد فعله تجاه الآخرين.
ويرى السلمي أن على المجتمع دورا كبيرا في رفض السلوك المستهتر، وعدم تقبله، والوقوف موقفا صارما برفض التعامل مع صاحب أي سلوك مستهتر وتعزيز دور القدوة، ونشر النماذج من أصحاب السلوك المسؤول في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب الدور الأسري بتوجيه الأبناء إلى تحمل المسؤولية وإحساسهم بخطورة المرحلة.
الشرع والطب يتكاملان بوجه المستهترين
تنتج أزمنة الخطر استثناءات تاريخية، تتصالح فيها المؤسسات المعرفية في طرحها، وتتناغم المرجعيات باجتهاداتها نحو حماية الإنسان وصيانة روحه وجسده وعقله، وتتوحد معظم رؤى وأفكار وتصورات ونتائج رجال العلم والدين للتصدي لكل من يستهتر بما يتم الإجماع على خطورته، ويعترف رموز الشرع بأهمية ومكانة الطب، خلافاً للمأثور من الصراع بين العلم والمعتقدات التي كان يعززها الجهل بحقيقتي كل منهما، وأن الأصل في الحياة التناغم والتكامل.
ومع تفشي «كورونا»، والإيمان التام بخطورته على الأفراد والمجتمعات، تجلى الخطاب العقلاني من مكونات المجتمع المؤهلة بالمعرفة دينياً وعلمياً وخبرة، لتقف بحزم في وجه المستهترين انطلاقاً من قوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، وقوله (ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة). وعززت جهود المختصين مع جهود الدولة الوعي بالأضرار الناجمة عن «كورونا»، وما ينجم عنه من أخطار تصل إلى فقد الحياة. ومما رفع كفاءة المجتمع في المجابهة، ما لمسه الناس من التوافق العلمي والشرعي في الطرح والتسليم بمعطيات العلم والإصغاء لطرح ذوي الاختصاص في كيفية التعامل مع الإرهاب البيولوجي، ومواجهة التهديدات من خلال تزويد المواطنين والمقيمين بالمعارف والمهارات اللازمة، واعتماد آليات وقائية لضمان حياة آمنة. وعزا الباحث الشرعي سليمان الطريفي التكامل بين الجهات الشرعية والعلمية إلى الفقه بدين الله الذي دعا إلى سؤال أهل الذكر، موضحاً لـ«عكاظ» أن أهل الذكر هم أهل التخصص في كل علم وفن. وعدّ حفظ الأرواح غاية كبرى من غايات الدولة ومقصداً من مقاصد الشرع، مشيراً إلى أنه في سبيل الحفاظ على الأنفس تسقط واجبات شرعية وتُرفع محظورات دينية، مؤكداً حرمة النفس التي منحها الخالق حقها في الحياة وصيانتها من كل ما يسيء لها، والتصدي لما ومن ينتهك حرمتها بإتلاف أو تعد عمداً أو خطأ، وثمن مرحلة الوعي التي بلغها المجتمع السعودي بفضل ما أنجزته الدولة، ما أثمر التصدي للدروشة والخرافة التي يظنها البعض من الدين أو من العلم، مبدياً سعادته بالتكامل بين رموز الوعي لإقصاء التفسيرات المغلوطة عن ديننا.
الاستهتار بأرواح الآخرين يستوجب العقوبة
قال عضو النيابة العامة السابق المحامي صالح مسفر الغامدي، إن الاستهتار بأرواح الآخرين والتسبب في إلحاق الأذى بهم، جريمة تستوجب العقوبة وتحتمل وفق ظروف جريمة الاستهتار حقا عاما وخاصا، ويكون الاختصاص للمحاكم الجزائية التي تصدر عقوبات تعزيرية تقدرها المحكمة طبقا لظروف جريمة الاستهتار، ونتائجها، وآثارها، في ظل عدم وجود نظام يؤطر عقوبة المغامرين والمستهترين بأرواحهم وأرواح الآخرين، في حالات الكوارث والظروف الطارئة.
أما المحامي والموثق العدلي سعد الباحوث، فيرى أن من الأهمية إيجاد تنظيم للتعريف بمفهوم المستهتر، وإيجاد عقوبات مغلظة بحقهم، ويمكن وصف المستهتر بأنه كل شخص يقوم بعمل -سواء كان في حالة الكوارث أو في جميع الأحوال- ينطوي على المخاطرة بنفسه، أو بماله، أو بمرافقيه، أو الغير، ويكون مسؤولا عن نتائج عمله، سواء بقصد أو غير قصد، ويعاقب وفقا لأحكام النظام، واستشهد الباحوث بالمستهترين بتعليمات وزارة الصحة في ما يتعلق بالحد من التجمعات إو إقامة الأفراح والعزاء في مواجهة «كورونا». وقال إن أحكاما صدرت من المحاكم بالسجن والجلد والغرامة في قضايا استهتار نتجت عنها أضرار للآخرين.
جريمة معلوماتية بامتياز
في رأي المحامية رباب المعبي، أن كثيرا من الناس يرتكب جريمة الاستهتار، ويعرض نفسه والآخرين وربما المجتمع لأضرار بالغة، غير مكترثين بتوجيهات وتنبيهات الجهات المختصة المنوط بها الإنقاذ في حالات الكوارث، والظروف المناخية القاسية، والحوادث، والنوازل والأمراض، مستشهدة بأبرز الحالات التي انتشرت مؤخراً على منصات التواصل الاجتماعي، والتي أثارت استياء المتابعين والمواطنين، وإقدام مجموعات من الشباب وبعض أرباب الأسر بنشر مقاطع تتضمن الاستهتار بالأرواح بفعل أو توجيه، وهذه جريمة معلوماتية بلا شك. وقالت المعبي إن هناك مستهترين في أوقات الأزمات مثل السيول والتنزه داخل الأودية أثناء السيول، أو صعود الأماكن الخطرة والوعرة، أو في النوازل مثل ما نعيشه من تداعيات لفايروس «كورونا» دون اكتراث بأرواحهم أو بمن معهم. وشددت علي أهمية تجريم الاستهتار وردع المستهترين بعقوبات مغلظة، وطالبت أن يكون التجمهر حول الحوادث ضمن جرائم الاستهتار. ويرى الدكتور علي الغامدي أخصائي السلوك الإنساني أن الاستهتار حالة مرضية لا يدرك صاحبها للأسف أنه يؤذي نفسه والآخرين. ويصف الغامدي المستهتر بأنه إنسان متهور لا يأبه بروحه أو بأرواح الآخرين، ما يفوت إنقاذ حالات حقيقية بحاجة للمساعدة والإنقاذ. وقال إن من الدواعي والمبادئ الأساسية للحياة الآمنة ضمان حماية أرواح الناس من خلال العقوبات الرادعة.
أغانٍ ونكات على أنغام الكارثة !
انتقدت المستشارة الأسرية والاجتماعية دعاء زهران، مفاخرة البعض بصفة الاستهتار، وعزت ذلك إلى طريقة تنشئتهم ومحيطهم الأسري والمجتمعي.. فتبادل النكت والصور والأغاني على كارثة يمر بها العالم أجمع أمر شنيع، وبعيد كل البعد عن روح الإنسانية التي يجب أن يتصف بها الإنسان. وهذا ما نعاني منة حقيقة في بعض الأحوال، مثل التفكك الأسري، وارتفاع نسبة الطلاق، وعدم إحساس الشباب بمسؤولياتهم.. وتظهر الآن بطريقة مُحزنة باستهتارهم بما يمر به العالم أجمع بعد تفشي «كورونا».
ومع ذلك، نجد في المجتمع بعض المستهترين، ما يزيد من احتمالية انتشاره وعدم معاونة الجهات المختصة والمجتمع في القضاء على هذا الوباء.. «يجب أن نرتدع، ونتعلم من هذه الظروف الصعبة، فبعض السلبيات في شخصياتنا وتنشئتنا ليست ضررا علينا بمفردنا، بل لأنفسنا ومن حولنا.. المزاح والروح المرحة جميلة، ولكن يجب أن تكون مقننة ومحسوبة.. ولنكن يداً واحدة وقلبا واحدا، وروحا مُفدية للخير والحب للوطن، والعالم أجمع».
باحث اجتماعي لـ عكاظ: فرق كبير بين الدعابة والاستهتار
قال الأخصائي الاجتماعي محمد الحمزة، إن الاستهتار نوع من الاستهانة والتهاون والاستخفاف بالضرر، مشيراً إلى وجود فارق كبير بين السخرية والدعابة بالأزمات وبين الاستهتار والاستهانة بها.. «رأينا للأسف البعض لم يأخذ التعليمات والتوجيهات والنداءات الرسمية الخاصة بمقاومة (كورونا) بعين الاعتبار، فمنهم من لم يلزم الجلوس في البيت ومنهم من يذهب للحدائق والتنزه، ومنهم من لم يلتزم بعدم المصافحة، وغير ذلك من الظواهر التي ما زال البعض يقوم بها، رغم أن الكثير من الناس لديهم الوعي الكبير في استيعاب الأزمة، والكثير منهم متعاون بشكل كبير في الحد من الممارسات الاجتماعية والحياتية التي قد تكون سبباً في تفشي المرض». وأشار الحمزة، إلى أن الاستهتار سلوك سلبي ناشئ من عدم استيعاب حقيقة الواقع الذي يعيشه العالم، وعدم الشعور بأهمية احترام النداءات التي تدعو لحماية الناس والحفاظ على أرواحهم، لذلك من الضروري جداً عدم مجاملة هؤلاء، ولا بد من العمل على توجيههم بالحسنى في البداية، والأخذ على أيديهم، حتى يدركوا أهمية أخذ الأزمة بشيء من الجدية والاهتمام، حتى تبدأ المؤشرات في الانحسار.
ولفت الباحث الاجتماعي، إلى أن البعض يعتقد أن الاستهتار نوع من التخفيف على الناس وعدم التهويل، ولكنّ هناك فرقا بين الاستهتار والسخرية؛ فالسخرية والنكتة وسيلة التعبير الشعبية الأكثر انتشارا وتداولاً بين الناس، وهي متنفس نقدي ساخر يكتنفه شيء من الخيال والخفة والجمال.
وأكد الحمزة، أن إدارة الأزمة تستهدف الوصول إلى منطقة خضراء آمنة بأقل عدد من الخسائر؛ ولذلك فإن السخرية الأدبية تتطلب عدة إبداعية ممارساتية تجمع بين سعة الأفق، وشمولية الثقافة، وحضور البديهة، إضافة إلى قصدية الفحوى، سردياً كان أو شعرياً أو كاريكاتيرياً أو مصوّراً، وفي الغالب يكون مصدر النكتة مجهولا؛ لأنها تنتج في تجليات إنسانية عابرة، كرد فعل لأعمال ومواقف مرفوضة أو لا يمكن مواجهتها بشكل مباشر، فيعبر عنها بمضمون مضحك ومركز.
وما زالت قصص العابثين بأجهزة ساهر عالقة في الذاكرة، بدأت من مكان واحد ليجر معه الكثير من القصص المشابهة في مواقع أخرى.
في الرياض على سبيل المثال، انتشر مقطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي لإطارين مشتعلين جوار كاميرا ساهر، على طريق الملك عبدالعزيز بالجبيلة، إذ تعمد مجهولون تعريض الجهاز لتخريب واضح، كان ذلك بعد إعلان المرور انطلاق الرصد الآلي لمخالفات الحزام واستخدام الهاتف الجوال أثناء القيادة، وحذر المرور بأنه لن يتم التهاون مع مخالفي القواعد والقوانين.
ومع أزمة «كورونا» التي عانى منها العالم بأسره، ظهر شابان على منصة إلكترونية داخل أحد المحال التجارية وهما يشربان مادة «الديتول»، وهو المطهر الذي يستخدم عادةً في تطهير الأرضيات والأسطح. فعلا ذلك من باب الاستظراف والنكتة وإثارة الضحك، لكن الواقعة حظيت بردود أفعال غاضبة في المجتمع، وطالب كثيرون بمعاقبتهم، خاصة أنَّ غالبية متابعيهم من الأطفال الذين ربما يتأثرون بما يشاهدونه، وربما يقومون بتقليده دون معرفة أنَّ الأمر مجرد مزحة، لتقوم الجهات المعنية بحجزهما والتحقيق معهما.
هم الحلقة الأضعف.. وفي القائمة راشدون !
يقول الأخصائي النفسي يوسف السلمي إن المستهترين أشخاص اتخذوا أسلوب حياة خالية من المسؤولية تجاه أنفسهم والآخرين، هم الحلقة الأضعف في المجتمع، ومن قِبَلِهم يؤخذ المجتمع على حين غرة، نتيجة استهتارهم بإجراءات العزل والحجر الصحي واتباع تعليمات الوقاية والسلامة من الإصابة بفايروس «كورونا». وبعضهم يحاول لفت الانتباه عبر وسائل التواصل لتحقيق الشهرة وزيادة المتابعين، وفي سبيل ذلك يعمدون إلى سلوكيات متهورة ومستهترة، فينشط عامل التقليد والمحاكاة لهم والتحدي بين فئات المراهقين والشباب في تقديم سلوكيات تتسم بالاستهتار وهي صفة لا تلازم المراهقين والشباب فقط، فهناك مستهترون راشدون كبعض رجال الأعمال، الذين يكون استهتارهم بعدم تحملهم المسؤولية الوطنية، بالحفاظ على الأسعار وتوفير السلع، وبعض الآباء الذين لا يقومون بدور التوجيه والإرشاد والنصح لأولادهم في مواجهة الأزمة.
لماذا هم كذلك؟ يجيب السلمي: السبب يعود إلى عوامل اجتماعية ونفسية، فالتنشئة الاجتماعية التي تتسم بالاعتمادية والدلال الزائد تجعل الفرد لا يشعر بالمسؤولية، ويتسم سلوكه بالاستهتار وعدم المبالاة، وكذلك نمط الحياة العبثي القائم على المتعة الوقتية، وعدم تقديم الأولويات والأهم على المهم؛ تفسر لنا السلوك المستهتر، وبعض حالات التفكك الأسري، وغياب القدوة في حياة الفرد.
ومن التفسيرات النفسية الإصابة باضطراب الشخصية المضادة للمجتمع «السيكوباتية»، فهي شخصية تتسم برفض التعليمات والالتزام بالقوانين، والعدوان، والانتهازية، والاستغلال، والاستهتار بالحقوق العامة والخاصة. ومن التفسيرات النفسية غياب تقدير الذات لدى الفرد، فعدم إشباع التقدير الاجتماعي للفرد من الآخرين يشعره بعدم المسؤولية في مجتمعه، واللامبالاة والاستهتار في رد فعله تجاه الآخرين.
ويرى السلمي أن على المجتمع دورا كبيرا في رفض السلوك المستهتر، وعدم تقبله، والوقوف موقفا صارما برفض التعامل مع صاحب أي سلوك مستهتر وتعزيز دور القدوة، ونشر النماذج من أصحاب السلوك المسؤول في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب الدور الأسري بتوجيه الأبناء إلى تحمل المسؤولية وإحساسهم بخطورة المرحلة.
الشرع والطب يتكاملان بوجه المستهترين
تنتج أزمنة الخطر استثناءات تاريخية، تتصالح فيها المؤسسات المعرفية في طرحها، وتتناغم المرجعيات باجتهاداتها نحو حماية الإنسان وصيانة روحه وجسده وعقله، وتتوحد معظم رؤى وأفكار وتصورات ونتائج رجال العلم والدين للتصدي لكل من يستهتر بما يتم الإجماع على خطورته، ويعترف رموز الشرع بأهمية ومكانة الطب، خلافاً للمأثور من الصراع بين العلم والمعتقدات التي كان يعززها الجهل بحقيقتي كل منهما، وأن الأصل في الحياة التناغم والتكامل.
ومع تفشي «كورونا»، والإيمان التام بخطورته على الأفراد والمجتمعات، تجلى الخطاب العقلاني من مكونات المجتمع المؤهلة بالمعرفة دينياً وعلمياً وخبرة، لتقف بحزم في وجه المستهترين انطلاقاً من قوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، وقوله (ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة). وعززت جهود المختصين مع جهود الدولة الوعي بالأضرار الناجمة عن «كورونا»، وما ينجم عنه من أخطار تصل إلى فقد الحياة. ومما رفع كفاءة المجتمع في المجابهة، ما لمسه الناس من التوافق العلمي والشرعي في الطرح والتسليم بمعطيات العلم والإصغاء لطرح ذوي الاختصاص في كيفية التعامل مع الإرهاب البيولوجي، ومواجهة التهديدات من خلال تزويد المواطنين والمقيمين بالمعارف والمهارات اللازمة، واعتماد آليات وقائية لضمان حياة آمنة. وعزا الباحث الشرعي سليمان الطريفي التكامل بين الجهات الشرعية والعلمية إلى الفقه بدين الله الذي دعا إلى سؤال أهل الذكر، موضحاً لـ«عكاظ» أن أهل الذكر هم أهل التخصص في كل علم وفن. وعدّ حفظ الأرواح غاية كبرى من غايات الدولة ومقصداً من مقاصد الشرع، مشيراً إلى أنه في سبيل الحفاظ على الأنفس تسقط واجبات شرعية وتُرفع محظورات دينية، مؤكداً حرمة النفس التي منحها الخالق حقها في الحياة وصيانتها من كل ما يسيء لها، والتصدي لما ومن ينتهك حرمتها بإتلاف أو تعد عمداً أو خطأ، وثمن مرحلة الوعي التي بلغها المجتمع السعودي بفضل ما أنجزته الدولة، ما أثمر التصدي للدروشة والخرافة التي يظنها البعض من الدين أو من العلم، مبدياً سعادته بالتكامل بين رموز الوعي لإقصاء التفسيرات المغلوطة عن ديننا.
الاستهتار بأرواح الآخرين يستوجب العقوبة
قال عضو النيابة العامة السابق المحامي صالح مسفر الغامدي، إن الاستهتار بأرواح الآخرين والتسبب في إلحاق الأذى بهم، جريمة تستوجب العقوبة وتحتمل وفق ظروف جريمة الاستهتار حقا عاما وخاصا، ويكون الاختصاص للمحاكم الجزائية التي تصدر عقوبات تعزيرية تقدرها المحكمة طبقا لظروف جريمة الاستهتار، ونتائجها، وآثارها، في ظل عدم وجود نظام يؤطر عقوبة المغامرين والمستهترين بأرواحهم وأرواح الآخرين، في حالات الكوارث والظروف الطارئة.
أما المحامي والموثق العدلي سعد الباحوث، فيرى أن من الأهمية إيجاد تنظيم للتعريف بمفهوم المستهتر، وإيجاد عقوبات مغلظة بحقهم، ويمكن وصف المستهتر بأنه كل شخص يقوم بعمل -سواء كان في حالة الكوارث أو في جميع الأحوال- ينطوي على المخاطرة بنفسه، أو بماله، أو بمرافقيه، أو الغير، ويكون مسؤولا عن نتائج عمله، سواء بقصد أو غير قصد، ويعاقب وفقا لأحكام النظام، واستشهد الباحوث بالمستهترين بتعليمات وزارة الصحة في ما يتعلق بالحد من التجمعات إو إقامة الأفراح والعزاء في مواجهة «كورونا». وقال إن أحكاما صدرت من المحاكم بالسجن والجلد والغرامة في قضايا استهتار نتجت عنها أضرار للآخرين.
جريمة معلوماتية بامتياز
في رأي المحامية رباب المعبي، أن كثيرا من الناس يرتكب جريمة الاستهتار، ويعرض نفسه والآخرين وربما المجتمع لأضرار بالغة، غير مكترثين بتوجيهات وتنبيهات الجهات المختصة المنوط بها الإنقاذ في حالات الكوارث، والظروف المناخية القاسية، والحوادث، والنوازل والأمراض، مستشهدة بأبرز الحالات التي انتشرت مؤخراً على منصات التواصل الاجتماعي، والتي أثارت استياء المتابعين والمواطنين، وإقدام مجموعات من الشباب وبعض أرباب الأسر بنشر مقاطع تتضمن الاستهتار بالأرواح بفعل أو توجيه، وهذه جريمة معلوماتية بلا شك. وقالت المعبي إن هناك مستهترين في أوقات الأزمات مثل السيول والتنزه داخل الأودية أثناء السيول، أو صعود الأماكن الخطرة والوعرة، أو في النوازل مثل ما نعيشه من تداعيات لفايروس «كورونا» دون اكتراث بأرواحهم أو بمن معهم. وشددت علي أهمية تجريم الاستهتار وردع المستهترين بعقوبات مغلظة، وطالبت أن يكون التجمهر حول الحوادث ضمن جرائم الاستهتار. ويرى الدكتور علي الغامدي أخصائي السلوك الإنساني أن الاستهتار حالة مرضية لا يدرك صاحبها للأسف أنه يؤذي نفسه والآخرين. ويصف الغامدي المستهتر بأنه إنسان متهور لا يأبه بروحه أو بأرواح الآخرين، ما يفوت إنقاذ حالات حقيقية بحاجة للمساعدة والإنقاذ. وقال إن من الدواعي والمبادئ الأساسية للحياة الآمنة ضمان حماية أرواح الناس من خلال العقوبات الرادعة.
أغانٍ ونكات على أنغام الكارثة !
انتقدت المستشارة الأسرية والاجتماعية دعاء زهران، مفاخرة البعض بصفة الاستهتار، وعزت ذلك إلى طريقة تنشئتهم ومحيطهم الأسري والمجتمعي.. فتبادل النكت والصور والأغاني على كارثة يمر بها العالم أجمع أمر شنيع، وبعيد كل البعد عن روح الإنسانية التي يجب أن يتصف بها الإنسان. وهذا ما نعاني منة حقيقة في بعض الأحوال، مثل التفكك الأسري، وارتفاع نسبة الطلاق، وعدم إحساس الشباب بمسؤولياتهم.. وتظهر الآن بطريقة مُحزنة باستهتارهم بما يمر به العالم أجمع بعد تفشي «كورونا».
ومع ذلك، نجد في المجتمع بعض المستهترين، ما يزيد من احتمالية انتشاره وعدم معاونة الجهات المختصة والمجتمع في القضاء على هذا الوباء.. «يجب أن نرتدع، ونتعلم من هذه الظروف الصعبة، فبعض السلبيات في شخصياتنا وتنشئتنا ليست ضررا علينا بمفردنا، بل لأنفسنا ومن حولنا.. المزاح والروح المرحة جميلة، ولكن يجب أن تكون مقننة ومحسوبة.. ولنكن يداً واحدة وقلبا واحدا، وروحا مُفدية للخير والحب للوطن، والعالم أجمع».
باحث اجتماعي لـ عكاظ: فرق كبير بين الدعابة والاستهتار
قال الأخصائي الاجتماعي محمد الحمزة، إن الاستهتار نوع من الاستهانة والتهاون والاستخفاف بالضرر، مشيراً إلى وجود فارق كبير بين السخرية والدعابة بالأزمات وبين الاستهتار والاستهانة بها.. «رأينا للأسف البعض لم يأخذ التعليمات والتوجيهات والنداءات الرسمية الخاصة بمقاومة (كورونا) بعين الاعتبار، فمنهم من لم يلزم الجلوس في البيت ومنهم من يذهب للحدائق والتنزه، ومنهم من لم يلتزم بعدم المصافحة، وغير ذلك من الظواهر التي ما زال البعض يقوم بها، رغم أن الكثير من الناس لديهم الوعي الكبير في استيعاب الأزمة، والكثير منهم متعاون بشكل كبير في الحد من الممارسات الاجتماعية والحياتية التي قد تكون سبباً في تفشي المرض». وأشار الحمزة، إلى أن الاستهتار سلوك سلبي ناشئ من عدم استيعاب حقيقة الواقع الذي يعيشه العالم، وعدم الشعور بأهمية احترام النداءات التي تدعو لحماية الناس والحفاظ على أرواحهم، لذلك من الضروري جداً عدم مجاملة هؤلاء، ولا بد من العمل على توجيههم بالحسنى في البداية، والأخذ على أيديهم، حتى يدركوا أهمية أخذ الأزمة بشيء من الجدية والاهتمام، حتى تبدأ المؤشرات في الانحسار.
ولفت الباحث الاجتماعي، إلى أن البعض يعتقد أن الاستهتار نوع من التخفيف على الناس وعدم التهويل، ولكنّ هناك فرقا بين الاستهتار والسخرية؛ فالسخرية والنكتة وسيلة التعبير الشعبية الأكثر انتشارا وتداولاً بين الناس، وهي متنفس نقدي ساخر يكتنفه شيء من الخيال والخفة والجمال.
وأكد الحمزة، أن إدارة الأزمة تستهدف الوصول إلى منطقة خضراء آمنة بأقل عدد من الخسائر؛ ولذلك فإن السخرية الأدبية تتطلب عدة إبداعية ممارساتية تجمع بين سعة الأفق، وشمولية الثقافة، وحضور البديهة، إضافة إلى قصدية الفحوى، سردياً كان أو شعرياً أو كاريكاتيرياً أو مصوّراً، وفي الغالب يكون مصدر النكتة مجهولا؛ لأنها تنتج في تجليات إنسانية عابرة، كرد فعل لأعمال ومواقف مرفوضة أو لا يمكن مواجهتها بشكل مباشر، فيعبر عنها بمضمون مضحك ومركز.