العدواني لـ«عكاظ»: «التواصل» أسقط بعض المبدعين في فخِّ التحيّز !
قال إنّ بعض الجوائز الأدبية غير محايدة
يوليو 2024 Class="articledate">الجمعة 26 Class="articledate">الجمعة محرم /
علي حاوره: Alma33e@ فايع
له ما يزيد على 16 كتاباً، إضافة إلى مشاركات عديدة في الندوات العلمية والملتقيات الثقافية. أشرف وناقش العديد من الرسائل الجامعيّة.
يحظى بمتابعة واهتمام الباحثين والدارسين، لأنّه علم في تخصصه. مشاكس كبير، ومنصف في الوقت ذاته. متابع ومهتمّ بجديد الساحة الأدبية، لا تمنعه أكاديميته من التبسّط في الحديث، والتواضع في النقاش، له مشاركات جادة في الحوار، يتقبّل النقد بأريحيّة كبيرة وإن كان هو المستهدف في هذا النقد.
أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، بجامعة الملك سعود بالرياض، الأكاديمي والناقد الأدبي الدكتور معجب بن سعيد العدواني في هذا الحوار:
• دعنا نبدأ من المشهد الثقافي في السعودية، كيف تراه اليوم بصفتك ناقداً؟
•• من المستحيل الإحاطة بوصف المشهد الثقافي السعودي في إلمامة بسيطة؛ ذلك أنه مشهد متعدد الاتجاهات، ومتباين المشارب، كثير الفعاليات، يسعى إلى تحقيق غاياته بطرق متنوعة، وأساليب جديدة.. لكنه مشهد غني بشخصياته، وثري بموضوعاته، ومتنوع ببيئاته، يتجلى فيه حوار المؤسسات والجمعيات، والأندية والمقاهي والفعاليات. ومن الجلي أن يكون على ما يحيط به قوي التأثير، قابلاً في ذاته للتغيير، مشجعاً لمن دخل دائرته، ومقدراً لمن ضاعف إنتاجه.
• في شبكات التواصل أسماء أدبيّة وثقافية قرئت وانتشرت بشكل لافت على حساب المنجز وجودته.. ما تأثير هذه الشبكات في التأثير مستقبلاً على المبدع والمنتج الإبداعي؟
•• يمكن الإفادة من شبكات التواصل بوصفها وسيلة من وسائل الإبداع، لا غاية من غاياته، فإن استقرت مهمتها عند هذا الحد فستكون إضافة مشهدية ثرية، وإن خرجت فلن تكون سوى زوبعة في فنجان الحقل الإبداعي، بتأثير محدود، وسعي غير مسبوق، فإن تجاوز كأس الترويج مستوى الإبداع انزاح كل أصيل، وظهر كل عليل.
وأخشى أن يقود هذا الاهتزاز في المعادلة أولئك المبدعين الأصيلين إلى الوصول إلى نقطة اللاجدوى التي تجعلهم زاهدين في الاستمرار في الإبداع.
• البحرين بالنسبة لك كانت نقطة تحول في حياتك.. حدثنا عن هذا التحول.
•• قصدت قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في كلية الآداب بجامعة البحرين لدراسة الماجستير، وفيها بيئة علمية تضم أساتذة من أهم الدارسين في الأدب العربي، درست على بعضهم؛ إذ كان فيها من البحرين إبراهيم غلوم وعلوي الهاشمي وهلال الشايجي، ومن سورية عبدالكريم حسن ومنذر عياشي، ومن مصر صلاح فضل وحلمي مرزوق، ومن تونس عبدالسلام المسدي وغيرهم ومن الزملاء الذين التقيت بهم خلال الدراسة، وكان لهم حضورهم في الوسط الثقافي: عبدالحميد المحادين ومحمد البنكي ومحمد عبدالرزاق وحسين السماهيجي. وكانت الصحافة البحرينية وملاحقها مجالاً حياً لنشر المقالات والمراجعات النقدية، فضلاً عن انتشار المكتبات والمعارض المهتمة بنشر العلوم الحديثة، وكانت بوابة النقد الحديث مشرعة أمام دارسي السينما والمسرح في البحرين.
• دراستك للغة العربية وعلومها لا شكّ أنّ لها تأثيراً عليك، حدثنا عن هذا التأثير.
•• لدراسة اللغة العربية فضل علي، وليس لأي دارس فضل عليها كما يروج بعضهم؛ إذ قادتني منذ سنوات الدراسة الأولى حتى الآن إلى فحص ظواهرها، ونصوصها، وما يرد في قوالبها، من أجل الكشف عن الجماليات، والبحث عن سماتها، ولعل البدايات التي كانت مقصورة على الدراسات الأدبية المتصلة بالنصوص الإبداعية، إلى جانب النشاطات خارج الصفوف كالكتابة في الفنون المختلفة، التي تعد مهمة في قولبة اتجاهي وغيري من زملاء تلك المراحل نحو اللغة العربية محبةً وتفاعلاً وقراءةً ونقداً.
• أنت ابن بيئات تعليمية مختلفة، ما الإضافات التي قدمتها لك هذه البيئات المختلفة التي مررت بها؟
•• أزعم أنني محظوظ بتنقلي بين بيئات الدرس النقدي انطلاقاً من تقليديته في المعهد العلمي بالطائف؛ إذ كنا نكتب المسرحيات المتصلة بالأحداث التاريخية، ونشارك في التمثيل فيها أمام الطلاب من المرحلتين المتوسطة والثانوية. واستكملت هذا التوجه بدرس مرحلة البكالوريوس في قسم اللغة العربية في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
وكانت دراستي في جامعتي البحرين ومانشستر استكمالاً جميلاً وقوياً لذلك النوع من الدراسة، فقد درست المناهج النقدية الحديثة وتطبيقاتها، ودرست في جامعة الملك سعود في مشروع دراسة دكتوراه لم يكتمل مع الأساتذة عبدالله الغذامي حفظه الله، ومحمد الهدلق ومحمد القويفلي رحمهما الله، لأغادر بعدها إلى مانشستر لأجد نفسي في موقع حضاري جديد، أتاح الاتصال عن قرب بأساتذة في الأدب العربي من جانب، وبالنظرية النقدية من جانب آخر، وأفدت من محاضرات بعض المنظرين، مثل: غيوتاري سبيفاك وهومي بابا، ولعل الفائدة القصوى تكمن في مكتبة جون ريلاند الضخمة، التي كانت خير معين للاطلاع في معظم حقول المعرفة.
ومن جانب آخر، فقد أضافت إلي تلك البيئات المتنوعة؛ إذ تعلمت من جبال السروات الوقوف بصلابة وشموخ، وتعودت في مكة المكرمة على قيم الصداقة وحسن الرفقة، واستقيت من مدينة جدة لطف التعبير وصدقه، وتعرفت في نجد على حسن المعشر وقبول الآخرين، وأفدت من البحرين أخلاقيات العمل والتعامل، وأخذت من بريطانيا الانشغال بذاتي، أنا مزيج يصعب علي فصله من كل بيئة عشت فيها، ومن كل شخص تعاملت معه، ومن كل موقف مررت به.
• لماذا كانت فترة التوقف بين طباعتك لكتابك الأول والثاني طويلة؟
•• مع صدور كتابي من نادي جدة الأدبي خلال رئاسة الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في عام 2003م، كنت قد غادرت إلى بريطانيا لاستكمال درجة الدكتوراه، ومع أن الكتاب قد حظي بمراجعات نقدية جيدة، إلا أن دافع النشر قد خبا مع وجود بعض الأعمال التي كانت شبه جاهزة، ومع إلحاح بعض الأصدقاء على نشر تلك الأعمال، فنشرت كتابين اثنين من نادي الرياض الأدبي ونادي حائل الأدبي.
قد يكون التوقف عن النشر فرصة للمراجعة الذاتية، وإعادة التقييم.
• الخبرة، هل هي كافية لتقديم الناقد والمبدع بشكل جيد للقارئ؟
•• تتحقق الخبرة لتقديم الناقد والمبدع بتكثيف القراءة والكتابة من جانب، والخوض في مناحي الحياة من جانب آخر؛ يتطلع معظم القراء المحترفين إلى تلك التجارب المكثفة، لصقل تجاربهم وتنمية معارفهم، لكن البعد الانتقائي واختيار الطريقة لتقديم تلك المعرفة لا ينبغي إهمالهما، ولا يمكن تمييز تلك التجارب إلا بقياس الخبرة المضاعفة التي تتحقق للكاتب عن طريق إفادته من خبرات الآخرين، بقراءاته المتواترة المكثفة، إلى جانب مهاراته الحياتية المعتادة التي يكون نظره إليها مختلفاً عن غيره.
•أنت ناقد مهتم بالسرد ومتابع لما يكتب هنا وهناك من أعمال روائية.. لماذا فقدت الكثير من هذه الأعمال الجانب الاحترافي في الكتابة ؟
•• قد تقع معظم الأعمال السردية في هذا الكمين الذي لا يتوقعه الكتاب؛ وهم على نوعين: من يتسرع في نشره، مع غياب النضج الكتابي، ومن ينجح في أعمال سابقة، ولا يتردد بعد ذلك في نشر ما يعن له دون تمحيص، وكلا النوعين نجحا في أمر واحد وهو ابتعاد القراء عن منتجاتهم. ولا يعني هذا إصدار حكم عام على السرد، لكنه حكم على بعض الظواهر الكتابية السردية المغلقة.
• كيف ترى حضور الأكاديميين في شبكات التواصل الاجتماعي؟
•• أظن أن الحضور الثقافي للأكاديميين في وسائل التواصل يندرج في درجة المعقول من حيث كثافته، المقبول من حيث نجاعته، المجهول أحياناً من حيث نجاحه في التفاعل. وهو ما يمكن أن ينطبق أحياناً على الشرائح الأخرى كالمبدعين والإعلاميين.
ويؤخذ على هذا النشاط بصفة خاصة ما يأتي: يظهر لدى بعضهم غياب العناية ومراعاة اختلاف المتلقين عن قاعة الدرس الأكاديمي، ويتجلى لدى فئة أخرى تضخم الأنا والاعتداد بالألقاب، وغياب تبسيط مناقشة بعض القضايا...
•هل عرّت وسائل التواصل الاجتماعي الأدباء والمثقفين وباعدت كثيراً بين ما يكتبونه في كتبهم وأعمالهم الإبداعية وبين ما يظهرون به في هذه الشبكات بشكل مباشر؟
•• نعم.. تكشف وسائل التواصل بعض كتابات الأدباء والمثقفين؛ فنلحظ فيها السقوط في ملامح من التحيز، وغياب الإنصاف، فضلاً عن الادعاءات الباطلة، وأحياناً النقد المبالغ فيه، الذي يقابله المجاملة المغالى فيها، ومرد ذلك في رأيي التسرُّع في النشر، والبحث عن جمهور، وهذه النار الملتهبة يقابلها الهدوء والتأني والاطمئنان عند كتابة الكتب والأعمال الإبداعية.. ولعل الخطر الحقيقي يكمن في تمكن وسائل التواصل ونجاحها في تحقيق الإلهاء، الذي يغيب الكتابة من أجل الكتابة: كتابة الإبداع من أجل كتابة المنشورات الإلكترونية، دون أن يتحقق شرط كتابة إبداعي ما في وسائل التواصل.
• ماذا عن كواليس التحكيم في الجوائز الأدبية وأنت واحد من المحكمين في العديد منها؟
•• سأجيب على هذا السؤال نتيجة بعض الخبرات السابقة في تحكيم بعضها، ولم أعد كذلك.. لقد نجحت الجوائز الأدبية الكبرى في دعم الإبداع العربي، وحققت نشاطاً كتابياً ملحوظاً، وعرّفت بأسماء مبدعين في الثقافة العربية.
ويؤخذ على بعضها ما يأتي؛ أنها غير محايدة، نسبة إلى معايير الاختيار، أو إلى تغييب قرارات المحكمين، وأنها ترسخ مؤقتاً لتلك الأعمال الفائزة، فيُنسى العمل الفائز سريعاً، وليس شرطاً أن تكون محكماً في جائزة حتى تعرف هذه الأمور الشائعة كذلك في الجوائز العالمية، ويبدو لي أحياناً أن كثرة الجوائز لها دورها في ذلك.
• لك رأي في حركة الحداثة في السعودية، هل يمكنك تلخيص هذا الرأي للقارئ في ظلّ ما دار ويدور حول هذه الحركة محلياً وعربياً؟
•• قلت سابقاً وما أزال أقول: إن لهذه الحركة من الفضل ما يجعلنا ندين لها بالكثير، ولأعضائها التقدير، فقد أسهمت في خلق بيئة شعرية ونقدية قوية.
ولنتفق في البدء على كون الاتجاه النقدي في حقبة الثمانينيات قد طرق ثلاثة دروس مهمة: التنظير النقدي، والنقد التطبيقي، والسجال مع مناوئي هذا الاتجاه النقدي. لكن تلك الحركة النقدية المضيئة محلياً لم تنجح في تحقيق مستويات الوعي بمستويات الحداثة، نتيجة أولوياتها وانغماسها في ثلاثة أبعاد يمكن وصفها بالأُحاديّة، وهي: أُحاديّة التناول النقدي في اختيارها المدونة الشعرية وإهمال ما عداها، والسجال الظاهر مع التقليديين، والسجال المضمر بين أفراد الحركة نفسها.
ويبدو لي أن ما كان سائداً آنذاك لم يعد مناسباً تداوله الآن، فقد توافق ذلك مع النظر إلى بيئتنا الثقافية قبل عقود؛ إذ نجدها بيئة سجالية واضحة المعالم، لكونها تعتمد على أحد مكونين وترفض ما عداه، وهما: التحديث والتقليد، ولعل ما يمكن إضافته هنا هو أن هذه السّجالات قد نشأت في ذلك الوسط، الذي لا يرتكن إلى الحوار بما هو قبول بما لدى الآخرين من اختلاف، واستثمار البحث المشترك عن مشترك، أما الثقافة التي ترتهن إلى الصوت الأحادي المونولوجي فتقمع ما يخالفها، وهي التي تحاول أن تجعل الآخرين نسخاً موحدة ظناً منها أن الاختلاف والتنوع سيلغيان قيمة الثقافة ودورها، ولا يمكن لثقافة أن تتنامى وتزدهر في غياب التنوع الذي يجسد ثراء الثقافات.
• في كتابك (احتباس الضوء) الصادر مؤخراً، ما الرسالة التي أردت إيصالها للقارئ من خلال هذا الحفر في إبداع ذوي الإعاقة ؟
•• لا أزعم لهذا الكتاب (احتباس الضوء: بلاغة الإعاقة البصرية) الوصول إلى حالة الكمال المبتغى، بل هو كتاب يدعو إلى التطلع إلى جهود رديفة مني أو من باحثين غيري؛ كي تسند ما كُتب في هذا الحقل المعرفي، الذي لا تزال الدراسات فيه تستحق اجتياز ذلك النظر الخفي، وهو يبادر إلى خلق بصمته النقدية المختلفة استناداً إلى آداب العصر الحديث وفنونه.
هنا يحاول الكتاب أن يقدم تجربة نقدية متنوعة بانتقائها لتجارب كتابية وفنية مؤثرة لمبدعين عرب لهم حضورهم في الوعي الشعري الحديث كطه حسين والبردوني وصقر الشبيب.
والكتاب تجربة نقدية مختلفة للقارئ العربي، تتباعد أولاً عن الاشتغال على المصطلحات النقدية المكررة الرتيبة، بنحت بعضها من صميم الكتابة نفسها، واستبدال عدد منها بما يناسب موضوعها؛ من أجل تفعيل آليات الوصول إلى نتائج جديدة، والأمل في جمع المختلف في الأشكال تحت مظلة واحدة.
وكان حسم ذلك بإيجاد الملمح العام الذي يرصد علاقات متباينة بين الإعاقة البصرية والفنون، ويبدو من ظاهر هذه العلاقات أنها لا تختلف كثيراً عن إبداعات موازية لتشكيليين وشعراء وروائيين، وهذا أكد وجود مستويات نقدية محددة، فرضتها تلك الحالات، وأثرت في وقعها، وقادت إلى إخراجها في صور لا تتوازى مع غيرها.
يحظى بمتابعة واهتمام الباحثين والدارسين، لأنّه علم في تخصصه. مشاكس كبير، ومنصف في الوقت ذاته. متابع ومهتمّ بجديد الساحة الأدبية، لا تمنعه أكاديميته من التبسّط في الحديث، والتواضع في النقاش، له مشاركات جادة في الحوار، يتقبّل النقد بأريحيّة كبيرة وإن كان هو المستهدف في هذا النقد.
أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، بجامعة الملك سعود بالرياض، الأكاديمي والناقد الأدبي الدكتور معجب بن سعيد العدواني في هذا الحوار:
• دعنا نبدأ من المشهد الثقافي في السعودية، كيف تراه اليوم بصفتك ناقداً؟
•• من المستحيل الإحاطة بوصف المشهد الثقافي السعودي في إلمامة بسيطة؛ ذلك أنه مشهد متعدد الاتجاهات، ومتباين المشارب، كثير الفعاليات، يسعى إلى تحقيق غاياته بطرق متنوعة، وأساليب جديدة.. لكنه مشهد غني بشخصياته، وثري بموضوعاته، ومتنوع ببيئاته، يتجلى فيه حوار المؤسسات والجمعيات، والأندية والمقاهي والفعاليات. ومن الجلي أن يكون على ما يحيط به قوي التأثير، قابلاً في ذاته للتغيير، مشجعاً لمن دخل دائرته، ومقدراً لمن ضاعف إنتاجه.
• في شبكات التواصل أسماء أدبيّة وثقافية قرئت وانتشرت بشكل لافت على حساب المنجز وجودته.. ما تأثير هذه الشبكات في التأثير مستقبلاً على المبدع والمنتج الإبداعي؟
•• يمكن الإفادة من شبكات التواصل بوصفها وسيلة من وسائل الإبداع، لا غاية من غاياته، فإن استقرت مهمتها عند هذا الحد فستكون إضافة مشهدية ثرية، وإن خرجت فلن تكون سوى زوبعة في فنجان الحقل الإبداعي، بتأثير محدود، وسعي غير مسبوق، فإن تجاوز كأس الترويج مستوى الإبداع انزاح كل أصيل، وظهر كل عليل.
وأخشى أن يقود هذا الاهتزاز في المعادلة أولئك المبدعين الأصيلين إلى الوصول إلى نقطة اللاجدوى التي تجعلهم زاهدين في الاستمرار في الإبداع.
• البحرين بالنسبة لك كانت نقطة تحول في حياتك.. حدثنا عن هذا التحول.
•• قصدت قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في كلية الآداب بجامعة البحرين لدراسة الماجستير، وفيها بيئة علمية تضم أساتذة من أهم الدارسين في الأدب العربي، درست على بعضهم؛ إذ كان فيها من البحرين إبراهيم غلوم وعلوي الهاشمي وهلال الشايجي، ومن سورية عبدالكريم حسن ومنذر عياشي، ومن مصر صلاح فضل وحلمي مرزوق، ومن تونس عبدالسلام المسدي وغيرهم ومن الزملاء الذين التقيت بهم خلال الدراسة، وكان لهم حضورهم في الوسط الثقافي: عبدالحميد المحادين ومحمد البنكي ومحمد عبدالرزاق وحسين السماهيجي. وكانت الصحافة البحرينية وملاحقها مجالاً حياً لنشر المقالات والمراجعات النقدية، فضلاً عن انتشار المكتبات والمعارض المهتمة بنشر العلوم الحديثة، وكانت بوابة النقد الحديث مشرعة أمام دارسي السينما والمسرح في البحرين.
• دراستك للغة العربية وعلومها لا شكّ أنّ لها تأثيراً عليك، حدثنا عن هذا التأثير.
•• لدراسة اللغة العربية فضل علي، وليس لأي دارس فضل عليها كما يروج بعضهم؛ إذ قادتني منذ سنوات الدراسة الأولى حتى الآن إلى فحص ظواهرها، ونصوصها، وما يرد في قوالبها، من أجل الكشف عن الجماليات، والبحث عن سماتها، ولعل البدايات التي كانت مقصورة على الدراسات الأدبية المتصلة بالنصوص الإبداعية، إلى جانب النشاطات خارج الصفوف كالكتابة في الفنون المختلفة، التي تعد مهمة في قولبة اتجاهي وغيري من زملاء تلك المراحل نحو اللغة العربية محبةً وتفاعلاً وقراءةً ونقداً.
• أنت ابن بيئات تعليمية مختلفة، ما الإضافات التي قدمتها لك هذه البيئات المختلفة التي مررت بها؟
•• أزعم أنني محظوظ بتنقلي بين بيئات الدرس النقدي انطلاقاً من تقليديته في المعهد العلمي بالطائف؛ إذ كنا نكتب المسرحيات المتصلة بالأحداث التاريخية، ونشارك في التمثيل فيها أمام الطلاب من المرحلتين المتوسطة والثانوية. واستكملت هذا التوجه بدرس مرحلة البكالوريوس في قسم اللغة العربية في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
وكانت دراستي في جامعتي البحرين ومانشستر استكمالاً جميلاً وقوياً لذلك النوع من الدراسة، فقد درست المناهج النقدية الحديثة وتطبيقاتها، ودرست في جامعة الملك سعود في مشروع دراسة دكتوراه لم يكتمل مع الأساتذة عبدالله الغذامي حفظه الله، ومحمد الهدلق ومحمد القويفلي رحمهما الله، لأغادر بعدها إلى مانشستر لأجد نفسي في موقع حضاري جديد، أتاح الاتصال عن قرب بأساتذة في الأدب العربي من جانب، وبالنظرية النقدية من جانب آخر، وأفدت من محاضرات بعض المنظرين، مثل: غيوتاري سبيفاك وهومي بابا، ولعل الفائدة القصوى تكمن في مكتبة جون ريلاند الضخمة، التي كانت خير معين للاطلاع في معظم حقول المعرفة.
ومن جانب آخر، فقد أضافت إلي تلك البيئات المتنوعة؛ إذ تعلمت من جبال السروات الوقوف بصلابة وشموخ، وتعودت في مكة المكرمة على قيم الصداقة وحسن الرفقة، واستقيت من مدينة جدة لطف التعبير وصدقه، وتعرفت في نجد على حسن المعشر وقبول الآخرين، وأفدت من البحرين أخلاقيات العمل والتعامل، وأخذت من بريطانيا الانشغال بذاتي، أنا مزيج يصعب علي فصله من كل بيئة عشت فيها، ومن كل شخص تعاملت معه، ومن كل موقف مررت به.
• لماذا كانت فترة التوقف بين طباعتك لكتابك الأول والثاني طويلة؟
•• مع صدور كتابي من نادي جدة الأدبي خلال رئاسة الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في عام 2003م، كنت قد غادرت إلى بريطانيا لاستكمال درجة الدكتوراه، ومع أن الكتاب قد حظي بمراجعات نقدية جيدة، إلا أن دافع النشر قد خبا مع وجود بعض الأعمال التي كانت شبه جاهزة، ومع إلحاح بعض الأصدقاء على نشر تلك الأعمال، فنشرت كتابين اثنين من نادي الرياض الأدبي ونادي حائل الأدبي.
قد يكون التوقف عن النشر فرصة للمراجعة الذاتية، وإعادة التقييم.
• الخبرة، هل هي كافية لتقديم الناقد والمبدع بشكل جيد للقارئ؟
•• تتحقق الخبرة لتقديم الناقد والمبدع بتكثيف القراءة والكتابة من جانب، والخوض في مناحي الحياة من جانب آخر؛ يتطلع معظم القراء المحترفين إلى تلك التجارب المكثفة، لصقل تجاربهم وتنمية معارفهم، لكن البعد الانتقائي واختيار الطريقة لتقديم تلك المعرفة لا ينبغي إهمالهما، ولا يمكن تمييز تلك التجارب إلا بقياس الخبرة المضاعفة التي تتحقق للكاتب عن طريق إفادته من خبرات الآخرين، بقراءاته المتواترة المكثفة، إلى جانب مهاراته الحياتية المعتادة التي يكون نظره إليها مختلفاً عن غيره.
•أنت ناقد مهتم بالسرد ومتابع لما يكتب هنا وهناك من أعمال روائية.. لماذا فقدت الكثير من هذه الأعمال الجانب الاحترافي في الكتابة ؟
•• قد تقع معظم الأعمال السردية في هذا الكمين الذي لا يتوقعه الكتاب؛ وهم على نوعين: من يتسرع في نشره، مع غياب النضج الكتابي، ومن ينجح في أعمال سابقة، ولا يتردد بعد ذلك في نشر ما يعن له دون تمحيص، وكلا النوعين نجحا في أمر واحد وهو ابتعاد القراء عن منتجاتهم. ولا يعني هذا إصدار حكم عام على السرد، لكنه حكم على بعض الظواهر الكتابية السردية المغلقة.
• كيف ترى حضور الأكاديميين في شبكات التواصل الاجتماعي؟
•• أظن أن الحضور الثقافي للأكاديميين في وسائل التواصل يندرج في درجة المعقول من حيث كثافته، المقبول من حيث نجاعته، المجهول أحياناً من حيث نجاحه في التفاعل. وهو ما يمكن أن ينطبق أحياناً على الشرائح الأخرى كالمبدعين والإعلاميين.
ويؤخذ على هذا النشاط بصفة خاصة ما يأتي: يظهر لدى بعضهم غياب العناية ومراعاة اختلاف المتلقين عن قاعة الدرس الأكاديمي، ويتجلى لدى فئة أخرى تضخم الأنا والاعتداد بالألقاب، وغياب تبسيط مناقشة بعض القضايا...
•هل عرّت وسائل التواصل الاجتماعي الأدباء والمثقفين وباعدت كثيراً بين ما يكتبونه في كتبهم وأعمالهم الإبداعية وبين ما يظهرون به في هذه الشبكات بشكل مباشر؟
•• نعم.. تكشف وسائل التواصل بعض كتابات الأدباء والمثقفين؛ فنلحظ فيها السقوط في ملامح من التحيز، وغياب الإنصاف، فضلاً عن الادعاءات الباطلة، وأحياناً النقد المبالغ فيه، الذي يقابله المجاملة المغالى فيها، ومرد ذلك في رأيي التسرُّع في النشر، والبحث عن جمهور، وهذه النار الملتهبة يقابلها الهدوء والتأني والاطمئنان عند كتابة الكتب والأعمال الإبداعية.. ولعل الخطر الحقيقي يكمن في تمكن وسائل التواصل ونجاحها في تحقيق الإلهاء، الذي يغيب الكتابة من أجل الكتابة: كتابة الإبداع من أجل كتابة المنشورات الإلكترونية، دون أن يتحقق شرط كتابة إبداعي ما في وسائل التواصل.
• ماذا عن كواليس التحكيم في الجوائز الأدبية وأنت واحد من المحكمين في العديد منها؟
•• سأجيب على هذا السؤال نتيجة بعض الخبرات السابقة في تحكيم بعضها، ولم أعد كذلك.. لقد نجحت الجوائز الأدبية الكبرى في دعم الإبداع العربي، وحققت نشاطاً كتابياً ملحوظاً، وعرّفت بأسماء مبدعين في الثقافة العربية.
ويؤخذ على بعضها ما يأتي؛ أنها غير محايدة، نسبة إلى معايير الاختيار، أو إلى تغييب قرارات المحكمين، وأنها ترسخ مؤقتاً لتلك الأعمال الفائزة، فيُنسى العمل الفائز سريعاً، وليس شرطاً أن تكون محكماً في جائزة حتى تعرف هذه الأمور الشائعة كذلك في الجوائز العالمية، ويبدو لي أحياناً أن كثرة الجوائز لها دورها في ذلك.
• لك رأي في حركة الحداثة في السعودية، هل يمكنك تلخيص هذا الرأي للقارئ في ظلّ ما دار ويدور حول هذه الحركة محلياً وعربياً؟
•• قلت سابقاً وما أزال أقول: إن لهذه الحركة من الفضل ما يجعلنا ندين لها بالكثير، ولأعضائها التقدير، فقد أسهمت في خلق بيئة شعرية ونقدية قوية.
ولنتفق في البدء على كون الاتجاه النقدي في حقبة الثمانينيات قد طرق ثلاثة دروس مهمة: التنظير النقدي، والنقد التطبيقي، والسجال مع مناوئي هذا الاتجاه النقدي. لكن تلك الحركة النقدية المضيئة محلياً لم تنجح في تحقيق مستويات الوعي بمستويات الحداثة، نتيجة أولوياتها وانغماسها في ثلاثة أبعاد يمكن وصفها بالأُحاديّة، وهي: أُحاديّة التناول النقدي في اختيارها المدونة الشعرية وإهمال ما عداها، والسجال الظاهر مع التقليديين، والسجال المضمر بين أفراد الحركة نفسها.
ويبدو لي أن ما كان سائداً آنذاك لم يعد مناسباً تداوله الآن، فقد توافق ذلك مع النظر إلى بيئتنا الثقافية قبل عقود؛ إذ نجدها بيئة سجالية واضحة المعالم، لكونها تعتمد على أحد مكونين وترفض ما عداه، وهما: التحديث والتقليد، ولعل ما يمكن إضافته هنا هو أن هذه السّجالات قد نشأت في ذلك الوسط، الذي لا يرتكن إلى الحوار بما هو قبول بما لدى الآخرين من اختلاف، واستثمار البحث المشترك عن مشترك، أما الثقافة التي ترتهن إلى الصوت الأحادي المونولوجي فتقمع ما يخالفها، وهي التي تحاول أن تجعل الآخرين نسخاً موحدة ظناً منها أن الاختلاف والتنوع سيلغيان قيمة الثقافة ودورها، ولا يمكن لثقافة أن تتنامى وتزدهر في غياب التنوع الذي يجسد ثراء الثقافات.
• في كتابك (احتباس الضوء) الصادر مؤخراً، ما الرسالة التي أردت إيصالها للقارئ من خلال هذا الحفر في إبداع ذوي الإعاقة ؟
•• لا أزعم لهذا الكتاب (احتباس الضوء: بلاغة الإعاقة البصرية) الوصول إلى حالة الكمال المبتغى، بل هو كتاب يدعو إلى التطلع إلى جهود رديفة مني أو من باحثين غيري؛ كي تسند ما كُتب في هذا الحقل المعرفي، الذي لا تزال الدراسات فيه تستحق اجتياز ذلك النظر الخفي، وهو يبادر إلى خلق بصمته النقدية المختلفة استناداً إلى آداب العصر الحديث وفنونه.
هنا يحاول الكتاب أن يقدم تجربة نقدية متنوعة بانتقائها لتجارب كتابية وفنية مؤثرة لمبدعين عرب لهم حضورهم في الوعي الشعري الحديث كطه حسين والبردوني وصقر الشبيب.
والكتاب تجربة نقدية مختلفة للقارئ العربي، تتباعد أولاً عن الاشتغال على المصطلحات النقدية المكررة الرتيبة، بنحت بعضها من صميم الكتابة نفسها، واستبدال عدد منها بما يناسب موضوعها؛ من أجل تفعيل آليات الوصول إلى نتائج جديدة، والأمل في جمع المختلف في الأشكال تحت مظلة واحدة.
وكان حسم ذلك بإيجاد الملمح العام الذي يرصد علاقات متباينة بين الإعاقة البصرية والفنون، ويبدو من ظاهر هذه العلاقات أنها لا تختلف كثيراً عن إبداعات موازية لتشكيليين وشعراء وروائيين، وهذا أكد وجود مستويات نقدية محددة، فرضتها تلك الحالات، وأثرت في وقعها، وقادت إلى إخراجها في صور لا تتوازى مع غيرها.