ثقافة وفن

الموريتاني شيخنا عمر: نزار قباني لا تُقزّمه العصور

الاحتكار والمحاصصة للمسابقات الشعرية «سلبيّة» تغلبها الإيجابيات

19 13 هـ / /

تكريم الشاعر شيخنا عمر إثر فوزه بجائزة أمير الشعراء

الرباعي حاوره: علي Al_arobai@

يعدُّ الشاعر الموريتاني شيخنا عمر حيدرة، من الأسماء الشعرية اللافتة بمستواها الفني واللغوي، فاز بالمركز الرابع من الموسم السابع لبرنامج أمير الشعراء، ولمستُ شاعريته الساحرة، وبما أنه يتقاطع معنا في النسب الأصيل للغة الضاد، لم ينزعج من أسئلتي، ولم يسترب في مودتي، وكان شفيفاً في ردوده وقدم لنا أنموذجاً للمثقف الشاعر، وها نحن نستعيد معه حكاية القصيدة، منذ تمدد الجذور الأولى إلى الإيناع، وهنا نص حوارنا معه:

• هل ما زال الشعر ديوان العرب؟

•• ظل الشعر المرجع الأول المشتمل على القيم المُثلى للعرب، فإليه يرجع في تهذيب النفس، وحملها على الخصال الحميدة حتى في عصر كان ينمِّى إلى الجهل (الجاهلية)، وحتى بعد مجيء الإسلام، فكما قال معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- في إحدى حروبه، هممت بالفرار فتذكرت قول الشاعر:

أبت لي همتي وأبى إبائي

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

فهنا كان هذا الشعر دافعاً للثبات.. وهذا مثال للوقوف على معنى أن الشعر ديوان العرب..

أما حين نُسقط الأمر ذاته على واقعنا الحالي وعصرنا اليوم، فنجد أن تلك الحقبة الشعرية من كل زمن تبقى ملازمة للبديهة، فذلك الشعر المليء بالحكم والمُثل، تجد الصبيان يحفظونه والكبار يسقطونه على واقعهم، سواء كان هذا الشعر من تلك الحقب الماضية أو من حقبتنا الحالية مع نُدرة النمط الشعري المتصف بأنه ديوان العرب، وتصنيف معظم من يحاولون كتابته بالرتابة والتقادم..

فمعظم الشعر الحديث لا يتيح محتواه فهماً راسخاً يمكن تداوله بسهولة، رغم شاعريته وإبداعيته..

وهنا تمتنع الحداثة عن تلك الديوانية.

• ماذا يحمل الشعر غير الكلام والأقوال؟

•• سؤال يثير حفيظة الشعر..

إذ إن الشعر ليس سوى شحنات من المنطوق يبعث مدلولها في النفس انعكاسها على ذهنية المتلقي، فمن البديهي منذ الأزل أنه لا ينتظر من الشعر عملاً كعمل الجوارح..

لكن ما قدمه الشعر من خلال تأثيره في واقع العرب قديماً لا يمكن حصره في إجابة مقتضبة.. وما يقابل ذلك اليوم ضئيل، لكنه كبير رغم اتساع الفجوات.

• ما صحة مقولة موريتانيا بلد المليون شاعر؟

•• مقولة «بلد المليون شاعر» كما يقدمها المختصون اليوم، تعود إلى زيارة لموريتانيا قام بها الصحفي سليم زبال، وكان يعمل محرراً في مجلة العربي في السبعينيات.. حينما لاحظ اهتماماً بالغاً بالشعر من طرف كل من لقيهم من الموريتانيين، وبعد أن علم أن عدد سكان موريتانيا يومها يقدر بمليون نسمة.. فقال إذن «بلد المليون شاعر»، ثم إن هذا الاهتمام بالشعر وتدريسه وحفظه وقرضه فرض هذه التسمية فيما بعد.

• لماذا يغلب على الشعراء الموريتانيين المذهب الكلاسيكي (الشعر العامودي) فلا تفعيلة ولا نثر

؟•• الشعر الموريتاتي زاخر وفاخر بكلاسيكيته، فبينما كانت المنطقة العربية تعيش عصر انحطاطها الشعري، كان الشعر الموريتاني يومها في أوج ازدهاره، فرغم الانطباع الشرقي السائد عن شعراء موريتانيا، لم يكن هناك إنصاف لتاريخ الشعر الموريتاني قديماً ولا حديثاً، واليوم هناك جيل شعري ثائر على النمطية الكلاسيكية يقابله جيل آخر قام بتحديث الكلاسيكية وتجديدها.. والقصائد متاحة لمن يبحث عنها..

• هل للمحظرة دور في تأسيس الذائقة الشعرية؟

•• تعد المحظرة الشنقيطية جامعة متنقلة كما وصفها الموريتانيون قديما:ً

ونحن ركب من الأشراف منتظم

أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا

قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة

بها نبين دين الله تبيانا

ومجال الاختصاص الأول لهذه المحظرة هو اللغة العربية وتلك لا تتأتى إلا بالشعر، فقد كانت قصائد امرئ القيس تدرس في المحاريب الشنقيطية دون حرج؛ لأنها وعاء لهذه اللغة التي يهيمون بها أيما تهيام..

وهذا ما جعل المحظرة تخلق ذائقة شعرية قويمة سليمة لا تساوم في ليِّ أعناق الموروث الشعري، وبتره من امتداده العربي، ولا تقبل بأنصاف الحلول مما جعلها تتهم في عرضها الشعري المتمسك بثوابته، ومع بزوغ نجوم حلقوا بإبداعاتهم مواكبين الحداثة بعرامتهم المحظرية الطافحة، ونفسهم الحداثي العميق، يمكن الرجوع إلى قصائد موريتانية ولدت في عذا العصر واكبت حركة الشعر ونافست بكل جدارة ويمكن العودة إلى قصائد محمد ولد الطالب (نموذجاً).

• متى شعرت بأن شيطان الشعر ينمو في داخلك؟

•• ذات مساء في محظرة من محاظر شنقيط العتيقة تنفست صعداء الشعر حين ألزمني وجودي بين رفاقي بكتابة نص في امتداح شيخ المحظرة.. فكنت يومها مداناً بالشعر لتنمو بعد ذلك تلك الموهبة وتتطور مع تنامي القراءة والاطلاع.

• بمن تأثرت من الشعراء؟

•• تأثرت بشعراء كثر، وكنت أراهم دوماً بين دفتي خيالي كلما تنفست شعراً.. لكن ما لبثت أن تخلصت من ذلك التعلق الخارق فحاولت أن أكتب بعيداً عمّا يتسرب من اللاوعي..

كان الشاعر الأبرز بين تلك الدفتين هو نزار قباني فكنت أستعذبه كثيراً.. كثيراً..

• ما أول قصيدة لك قوبلت بالاستحسان؟

•• استحسان المحيط الضيق كان حاضراً معي منذ القصيدة الأولى، ولكن ما حدث تحت الضوء جعلني أرى أن (غواية الرحيل) القصيدة من أبرز معالم الشعر في تجربتي الشعرية.

• أين تقف قصيدتك من (التابو)؟

•• لست من هواة النزعة والنزاع في إحداث الشروخ في منظومة المجتمع، ما لم تكن إرثاً لا مرجع له إلا تخلف العقل العربي أحياناً..

الثابت الوحيد الذي لا أتجاوزه هو الإسلام ولا معنى عندي لتجاوز ما يمليه لا شعراً ولا نثراً أو اعتباره من التابوهات التي يراها المتحررون قيداً يجب كسره.. لا مجال عندي في المساومة على المعتقد السليم ما دمت قد آمنت به بعقلي وقلبي..

الإبداع ليس في كسر كل جميل وتخريب الجمال الذي أراه ببصيرة قلبي الشاعرة، بزعم أن ذلك تحررٌ إبداعي.

• كم أنجزت من مجموعات شعرية؟

•• لم أصل بعد لقناعة ببعث كل النصوص التي كتبتها رغم ضخامة العدد..

لم أصدر بعد سوى ديوان واحد هو (غواية الرحيل) الذي صدر مؤخراً عن دائرة الشارقة.. وأعمل حالياً على انتقاء ديواني الثاني.

• ما انطباعك عن رأي النقاد في تجربتك الشعرية؟

•• مدين لكثير منهم بما قدموه لي من اهتمام وتشجيع في بداياتي الشعرية، ما جعلني أحثّ خطاي نحو المزيد.. لكني أيضا أختلف معهم في كثير مما يرونه ويحاولون إملاءه علينا كشعراء.. أحب أن يبقي الشعر كنهاً لا يمكن صناعته من إملاءات الدارسين.

• هل يمكن التجديد في القصيدة الكلاسيكية؟

•• الشعر في اعتقادي لا يتجزأ على أساس الشكل والقوالب وكما هو الشعر يبقى شعراً..

لست من الذين يزعجهم صخب الموسيقى الكلاسيكية في الشعر، لكن مشكلتي مع العزف البارد بحجة التجديد والزعم أنه إبداع ما دام خروجاً عن السائد..

الاحتماء من العجز عن خلق الإبداع داخل الأوزان بالتحرر من الأوزان والقوافي، ليس كافياً لإقناعي أنك شاعر وأنني مقلد.

• كيف تعاملت مع برنامج أمير الشعراء؟

•• برنامج أمير الشعراء بالنسبة لي كان نقطة عبور لا تنسى ولا تضمحل، كانت بدايتي مع الخروج من عتمة الانزواء، ومجابهة الضوء..

حيث أمحت أمام قصائدي حواجز الجغرافيا لأنطلق منها إلى عوالم الشعر من حولي..

كنت يومها شاعراً حَدِثاً يحاول أن يكون شاعراً حداثياً، وكنت أمام أحكام مسبقة أنني من بلد التقليد، مما جعلني أحاول كسر تلك النظرة بأول نص لي في المسابقة، ومن هناك بدأت رحلتي وتشعبت غواياتها..

عشت المسابقة شاعراً مدللاً بجهوره الذي جعل لجنة البرنامج لا ترحم حداثة سنه، بل تخشى جبروت جمهوره.

• هل تمنح المسابقات الشاعر تزكية شاعريته؟

•• لكل شيء في هذه الحياة إيجابيات وسلبيات.. وإيجابيات المسابقات الشعرية تغلب عندي سلبياتها..

فما منحته المسابقات الشعرية الكبرى للشعر في أعوام وجيزة لم تمنحه مئات الكتب والمحاضرات والرسائل في عقود.. وهذه المسابقات أخرجت لنا عشرات التجارب التي كانت ستظل مطمورة، ولا يتجاوز صداها جدران المقاهي التي بها تموت رويداً.. رويداً.

• ألا تهز المسابقات الشعرية ثقة الشاعر بنفسه؟

•• الشاعر بمعنى الشاعر.. ثقته لا تهزها العاتيات، فمهما كنت شاعراً فأنت تمتشق في قامتك الفارعة طوداً شامخاً.. ومهما كنت دون مرحلة الشاعر فأنت معرض للسقوط أمام أول نسيم عابر.

• بماذا ترد على مقولة البعض بأن المسابقات الشعرية يحتكرها فريق أمير الشعراء؟

•• الحديث عن الاحتكار والمحاصصة أحياناً حديث دائر خلف كواليس الشعراء.. وكنا نسمعه وربما أومأنا برؤوسنا تسليماً به، لكنه من تلك السلبيات التي تغلبها الإيجابيات في اعتقادي.

• لمن تقرأ من شعراء المملكة؟

••كنت وما زلت مولعاً بما أسميه مدرسة الجنوب في المملكة.. قرأت لكثيرين من شعراء المملكة بشكل عام.. وأعحبت بهم جداً، وأرى أن صوت جاسم الصحيح العابر لا يتوقف صداه أبداً.

• بماذا ترد على من ينتقص تجربة نزار قباني؟

•• ما دام نزار أجاب قبلي بأن النقد لم يمنحه كسرة خبز ولم يعطه بوصلة، فسأهدئ من روع انطباعي قليلاً وأتغاضى عن منتقديه سامحهم الله، فهو الكبير الذي لا تقزمه العصور، فقد قدم للعالم شعراً فائقاً لا نظير له..

•هناك من يرى أن النص التقليدي يكرر نفسه، ما رأيك؟

•• لا بد أن نتفق على ما يسمى النص التقليدي، إذا كان مجرد النص الملتزم بالبحور الخليلية مداناً بالتكرار في نظر أدعياء التجديد على حساب التهويم، فللنص إجابات أخرى تنسف كل ادعاء.