ثقافة وفن

ألبرتو مانغويل بين الاستهلال والاستهلاك

/ 1445 2024 Class="articledate">الجمعة جمادى Class="articledate">الجمعة 12 /

محمد محسن

محسن محمد

لطالما نشأ الحكم الذي يتشكَّل في ذهن القارئ حيال كتاب ما، عن الانطباع الذي تتركه الجملة الاستهلالية في روعه، إذ يحثه وقعها على أن يبقى متسقاً مع شعوره حيالها الى أن يجتاز قدراً قرائياً معيناً يحرره من سطوتها ويمنحه القدرة على أن يكون محايداً إزاء ما قرأه، فيبلغ كلٌ منهما غايتها.

لذلك فقيمة الجملة الاستهلالية لا تنبع من كونها أداةً نابهةً لجذب القارئ وطريقةً مُثلى لإيقاعه في فوضى لا خلاص منها إلا عبر الاستسلام لها وحسب، بل تمتد لكونها إحدى الحيل التي يعمد الكاتب إلى استخدامها ليشحذ همة القارئ وينحى به بعيداً عن رتابة الحياة وجِدتها، وعنواناً آخر يرسم من خلاله المؤلف ملامح رؤاه وينطلق عنه نحو توصيف أدق لآرائه، لذلك فإن أثر الجملة الاستهلالية لا ينحصر في قدرتها على إغواء القارئ والإمساك بوقبي عينيه، بل يتجاوز ذلك إلى بنائها علاقة شيقة ووطيدة مع ذهن القارئ وتحولها لاحقاً إلى مفردة عملاقة في جملة تمتد طويلاً على صفحات الكتاب لن يتوقف القارئ قبل تذوقها كاملةً، وهو ما يدركه المؤلف النابه عادةً، لذلك فهو يعتني بها أيما اعتناء.

ثمة حالات لا حصر لها من الجمل الاستهلالية التي تحمل بريقاً وسحراً متفردين، ولعل من بينها تلك التي استهل بها الكاتب والروائي الأرجنتيني (البرتو مانغويل) كتابه البديع الذي حمل عنوان (الفضول)، إذ لم تبدُ كجملة أنيقة ترتدي كساءً بديعياً ألقاً فحسب، بل بدت كتساؤل عذب ومتقن يكسو المناطق الرخوة في عقل القارئ صلابة تمكنه من حمل المعنى أيا كان ثقله.

لقد مثل ألبرتو ظاهرة كتابية استثنائية، فعدا عن أنه قارئ شره، رحب المعرفة، وشاسع الاطلاع، فليس ثمة من عُني بالكتابة عن (القراءة) الحدث الأهم في حياة كل قارئ كمانغويل، لذلك فهو يعي ما تفرضه جملة استهلالية كهذه، ويدرك ما تفترضه تلك التي تلمع فجأة في ذهن الكاتب، حاثةً إياه لأن يستهل بها الصفحة الأولى من مؤلفه، بيد أن مانغويل؛ الذي برع في خلق جمل فريدة ومثيرة للإعجاب تتجاوز تجسيد المعنى والتعبير عنه إلى إدهاش القارئ وبسط النفوذ على إحساسه، يعي أيضاً أن ذلك ليس وليد ومضة إلهام أو صدفة شهمة، ولكنه حصيلة أعوام من المثابرة والإخلاص وسنوات من القراءة؛ القراءة بوصفها عملاً إبداعياً يلزم إتقانه امتلاك الكثير من الأدوات ويفترض تطويره إجادةً وجِدةً واجتهاداً كما هي الكتابة.

من الجلي أن ذهن القارئ يميل إلى اعتبار الكتاب لذة واضحة الدلالات وإغواء ماتعاً، ويرى الاستزادة منهما أمراً حتمياً سيفي لاحقاً بإرضاء بعض من نهمه ورغبته في الإبقاء على منسوب معرفته مرتفعاً، وفي مواجهة كتاب أثير تبدو لغته آسرة وعميقة ستتضاعف تلك الرغبة، وسينمو ذلك النهم حتى لا تغدو الكتب مجرد أداة معرفية، بل يتجاوز ذلك إلى كونه رئةً أخرى يتنفس من خلالها القارئ وطريقةً مثلى لحياة مثالية، ولن ينبئ عما ينتظره من متعة عدا جملة استهلالية صيغت بعناية وإتقان.

لقد آمن مانغويل الضليع في إبقاء القارئ مقيداً إلى جُمَلِهِ أن ما تحققه الجملة الاستهلالية أمر جدير باهتمام كل كاتب، لذلك احتاج إلى استعارة عبارة غوته «ما من أحد يهيم تحت أشجار النخيل ويفلت من العقاب» لأنه يدرك أن استهلال روايته (ستيفنسن تحت أشجار النخيل) بجملة استهلاكية كـ«غادر روبرت لويس ستيفنسن المنزل ليتمشى على الدرب الطويل الذي مهدته أقدام المتنزهين» لا يحقق طموحه في جذب القارئ، ولا يلبي رغبته في الهيمنة على لبّه، وغير مرة عمد إلى ذلك ليتجاوز الجمل الاستهلاكية ويلج إلى قلب القارئ، ومن ثم يزاول براعته وسحره؛ وهي حيلة تختصر عليه مهمة البحث عن جملة مدهشة على غرار تلك التي بدأ بها مقالته عن النقطة، وضمّنها كتابه ذائع الصيت (فن القراءة) وجاءت على نحو «ضئيلة كذرة غبار، محض نقرة من القلم أو نثار على لوحة المفاتيح»، فيما افتقرت إليها روايتاه (عاشق مولع بالتفاصيل) و(عودة) على سبيل المثال.

وبين الاستهلال والاستهلاك يبقي مانغويل قلمه عائماً وفكره حائماً ليظفر بما هو حري بإدهاشنا وهو غالباً ما يستهل به مؤلفاته.