أخبار

سعيد النابودة.. لم يرث المال والتجارة لكنه ورث ما هو أغلى

15 هـ / /

الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في زيارة للوجيه محمد جمعة النابودة (أخ المترجَم له).

عبدالله د بقلم: المدني

فقدت دولة الإمارات العربية المتحدة في الثالث من شهر مضان المبارك 1445 الموافق للثالث عشر من مارس 2024، رجلاً من رجالاتها الأفذاذ من رعيل الرواد والمؤسسين المكافحين العصاميين، وممن لازم المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (1912 ــ 1990) رحمه الله، فتخرج من مدرسته الفريدة في الحكمة وبعد النظر واستشراف المستقبل، ما جعله صاحب بصمة وعطاء في تاريخ نهضة دبي والإمارات في أكثر من مجال وموقع على مدى أكثر من ستة عقود.

وقد نعاه سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة/ رئيس مجلس الوزراء/ حاكم دبي في تغريدة قال فيها: «سعيد جمعة النابودة في ذمة الله.. أحد رواد الأعمال في الإمارات.. ورئيس غرفة تجارة دبي سابقاً.. وأحد المقربين من الشيخ راشد رحمه الله، حيث تعلم من مدرسته في الحياة.. حط رحاله اليوم عند رب كريم في شهر فضيل.. نسأل الله أن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.. إنا لله وإنا إليه راجعون».

ولد سعيد بن جمعة بن سعيد الشامسي الملقب بالنابودة في دبي سنة 1945 ابناً لعائلة عريقة ذات سمعة محمودة من قبيلة الشوامس التي انتقلت من البحرين إلى سواحل الإمارات في القرن الثامن عشر واستقرت في إمارة الشارقة.

وقد بحثت طويلاً، دون جدوى، عن صلة قرابته بالتاجر «عبيد بن عيسى بن علي بن ناصر بن أحمد الشامسي» الذي كان واحداً من أبرز تجار اللؤلؤ والأخشاب في الإمارات ومن ذوي العلاقات التجارية المتشعبة التي شملت الهند البريطانية وسواحل أفريقيا وبلغت أوروبا، والذي أثرى كثيراً من عمله في الطواشة ورحلاته المتكررة إلى الهند وفرنسا وبريطانيا لبيع اللؤلؤ الطبيعي، قبل أن ينهار صيد وتجارة اللؤلؤ في عقد الثلاثينات بسبب ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني، وتسود أسواقه الكساد وتثقل الديون ظهور تجاره، وتفشل جهود «مجلس التجارة البريطاني» في إيجاد أسواق بديلة للآلئ الخليج.

و«عبيد بن عيسى» هذا هو صاحب المنزل الكبير المشيد بوسط الشارقة القديمة على الطراز الخليجي التقليدي بمساحة 1100 متر مربع، حيث كان يعيش به مع زوجاته الثلاث وأولاده السبعة. والمعروف أن هذا البيت القديم المحتوي على بعض الزخارف المستوحاة من الفن الإسلامي، والذي تم بناؤه في عام 1845 باستخدام الأحجار المرجانية البحرية والجص والأخشاب المستوردة من زنجبار والنوافذ والأبواب المستوردة من الهند، سكنه أصحابه حتى سبعينات القرن العشرين ثم هجروه إلى مكان آخر، فأمر حاكم الشارقة سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في مطلع التسعينات بترميمه وتحويله إلى متحف للتراث، علماً بأن «بيت النابودة» هذا شرع أبوابه للسياح والزوار في أبريل عام 2018.

خضعت فكرة تحويل البيت إلى متحف، إلى دراسة معمقة، مع حرص على الحفاظ على كل ما يتعلق بتاريخه وطابعه وقيمته كنموذج للأصالة العربية الخليجية والترابط الأسري ونمط الحياة في مجتمع ما قبل النفط. ومن جانب آخر كان هناك اهتمام باستغلال غرف البيت الاثنتين والعشرين في طابقيه في عرض التراث الإماراتي من أزياء وألعاب شعبية، وحلي ومجوهرات، ووسائل نقل، ووثائق ومراسلات تاريخية، وفنون فلكلورية، وصور نادرة للشارقة القديمة، وتاريخ تجارة اللؤلؤ بأنواعه وموازينه المختلفة، مع عدم المسّ بالغرف التي كان يعيشها بها أبناء صاحب البيت كغرفتَي معيشة أحمد بن عبيد، ومحمد بن عبيد.

ومن الشواهد الأخرى على ثراء عبيد بن عيسى، طبقاً لما ذكره أحد أحفاده في شريط فيديو، أنه كان مهتماً بتدريس أبنائه مادة القرآن الكريم لغرس تعاليم الدين الحنيف والأخلاق الحميدة فيهم، إلى جانب مادة الحساب لتدريبهم على التجارة والمعاملات المالية، فكان يأخذهم معه لأشهر طويلة إلى بومباي لهذا الغرض، ويضع تحت أيديهم سائقاً خاصاً وسيارة من نوع «رولز رويس» لنقلهم من وإلى مدارسهم الهندية. كما أنه تأسى بغيره من تجار الخليج والجزيرة العربية المقيمين في بومباي فتملك هناك منازل عدة وبنى مساجد لتحفيظ القرآن، ما زالت أطلالها باقية إلى اليوم، ناهيك عن قيامه بالإنفاق على طباعة بعض الكتب خدمة لمواطنيه الدارسين وعموم الناس.

وبالعودة إلى سيرة الفقيد سعيد بن جمعة النابودة، نجد صديقه وزميله المؤرخ الأستاذ عبدالغفار حسين يخبرنا في مقال من جزءين نشرهما في صحيفة «الخليج» في يومي 3 و5 أبريل 2023 أنه تزامل مع الفقيد في كتّاب الشيخ محمد حسين الجزيري في ديرة بدبي، وهما في سن السابعة، حيث تعلما القراءة والقرآن الكريم قبل أن يلتحقا معاً بالمدرسة الأحمدية (تأسست عام 1912 وأغلقت عام 1958 وسميت كذلك نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد بن دلموك الفلاسي). ويضيف الكاتب أنهما وصديقهما ماجد الفطيم كانوا يلتقون في شبابهما يومياً ويتجولون في الإمارات ويذهبون في رحلات استجمام إلى رأس الخيمة وسلطنة عمان، رغم صعوبة المواصلات آنذاك، ويترددون على مجلس الحاكم الشيخ راشد ومجلس المرحوم الوجيه حمد الفطيم، واصفاً النابودة بالشخصية العصامية التي كونت نفسها بنفسها، وكانت مقربة من الشيوخ وقادة البلاد، وتحظى بتقديرهم واحترامهم بدليل مرافقته لهم في رحلاتهم الخارجية، حيث كان مثقفاً وهادئاً وحكيماً يطلع ويقرأ ويتابع، ويبدي رأيه إذا استشير بتعمق وتعقل، ما جعله ضمن مستشاري الشيخ راشد رحمه الله ومن المقربين إليه.

أما الكاتب محمد عبدالرشيد فقد أخبرنا في مقال له بجريدة البيان (13/3/2024) أن النابودة صاحب رحلة كفاح طويلة بدأت منذ يفاعته، وأنه كان يردد «لم أرث المال ولا التجارة من العائلة، لكنني ورثت ما هو أثمن من هذا كله، حيث ورثت عن الوالد رحمه الله الصبر والعمل بكل جهد لإثبات الذات والوصول للهدف، وكانت كلماته لي دائماً أنه لا شيء مستحيلاً». أما عن علاقته بالشيخ راشد فقال: «تربيت وترعرعت وتعلمت في أعرق مدارس العالم وهي مدرسة الشيخ راشد بن سعيد، طيب الله ثراه. كنت محظوظاً بأن احتضنني، وكانت مقولته الدائمة لي أن (الدولة تعطيك الشبك لا السمك)، وكانت كلماته هي الشعلة التي أضاءت لي طريق النجاح».

في عام 1958 افتتح سعيد، الابن الأكبر لجمعة النابودة (ت: 1958)، مع أخيه الأوسط محمد متجراً صغيراً في ديرة بدبي لتجارة الآلات الزراعية برأسمال متواضع. وبمرور الزمن وانطلاق ورشة البناء والأعمال في البلاد بعد الاستقلال، وبسبب الدعم المعروف من قبل الحاكم لصغار التجار لخلق بيئة تجارية واسعة، توسعت أعمال الأخوين الشريكين لتشمل قطاعات متنوعة إلى أن أصبحت كياناً ضخماً تحت اسم «شركة سعيد ومحمد النابودة القابضة ذات المسؤولية المحدودة». هذا الكيان الذي يوظف اليوم نحو عشرة آلاف موظف من 50 جنسية وتضم 15 شركة مع قسمين تشغيليين رئيسيين وهما «مجموعة النابودة للإنشاءات» و«مجموعة النابودة التجارية»، ويتركز نشاطه على أعمال الهندسة المدنية والإنشاءات وأعمال الميكانيكا والكهرباء إلى جانب امتلاكه لوكالات مجموعة متنوعة من العلامات التجارية الشهيرة عالمياً في مجالات السيارات والنقل والسفر والأجهزة الكهربائية والخدمات اللوجستية والزراعة وتشييد المدن الذكية والعقارات والطاقة المتجددة.

ومن خلال تعاضد الأخوين الشريكين، والتنويع المتواصل والابتكار والالتزام الصادق بالاستدامة، أصبحت مجموعة النابودة في عام 2017 أول كيان تجاري في الإمارات يفوز بجائزة الإمارات من قبل وزارة الموارد البشرية والتوطين كأكثر أماكن العمل سعادة، علاوة على فوزها بشهادة التقدير من فئة 4 نجوم من قبل حكومة دبي لتميزها في مجال علاقات العمل.

وفي تلك السنة (1958) تشكل في دبي أول مجلس بلدي حسب الأنظمة البلدية الحديثة، فكان النابودة عضواً فيه، بينما كان صديقه عبدالغفار حسين نائباً لمدير بلدية دبي. ومن خلال عضويته البلدية كان له دور مؤثر في البناء والتطوير وتقديم المقترحات المفيدة القابلة للتطبيق.

وبالمثل كان له دور بارز لا ينسى إبان حصوله على مقعد في المجلس الوطني الاتحادي كممثل لدبي إلى جانب العضو محمد الموسى، منذ دورتَي المجلس الأولى والثانية بين عامي 1972 و1978 حيث عمل بتفانٍ وإخلاص مع رئيسَي المجلس ثاني بن عبدالله وتريم عمران على التوالي، وكان من أبرز شخصيات اللجان المنبقة عن المجلس. هذا ناهيك عن دوره الاجتماعي والثقافي والخيري المشهود على مدى نصف قرن.

والجدير بالذكر أن النابودة كان أيضاً عضواً فاعلاً في غرفة تجارة وصناعة دبي ثم صار رئيساً لها من عام 1982 وحتى عام 1997. وإبان هذه الفترة الذهبية من عمر الغرفة، بذل الغالي والنفيس من أجل الترويج لدبي ولفت أنظار العالم إليها من منطلق إيمانه بأن دبي هي نموذج حي للبناء والتحضر والرقي والابتكار والجمال والوجهة المستقبلية العالمية لممارسة الأعمال، وذلك من خلال ترتيب زيارات مكثفة لوفود الغرفة لمعظم دول العالم، واستضافة العديد من الوفود العربية والأجنبية لدبي، وتنظيم المعارض الدولية والمنتديات والمؤتمرات لتبادل الخبرات في الداخل والخارج، وجلب وكالات جديدة ذات نفع لبلده، علاوة على احتضان وتطوير المنشآت الصغيرة، والمساهمة في تنميتها، وتطويرها والحفاظ على حقوقها مع الوكالات التي تمثلها بالخارج، وحماية المستهلك وحل مشكلات التجار. وقد توّج عمله في نهاية فترته بافتتاح المبنى الجديد الحالي للغرفة على خور دبي. والجدير بالذكر أن الباحث العراقي المقيم في دولة الإمارات مؤيد الشيباني أصدر كتاباً عن حياة ومسيرة الفقيد بعنوان «سعيد بن جمعة النابودة، جيل الريادة والتأسيس في دولة الإمارات العربية المتحدة» ضمن مجموعة أبحاثه عن قيم المكان ومعطياته وتجاربه.

ولسعيد النابودة أخ أصغر منه من مواليد دبي هو معالي خليفة بن جمعة النابودة، وهذا لا يقل عنه بروزاً في مجال الأعمال التجارية، وخدمة الإمارات والارتباط بالأرض، والتحلي بروح المبادرة والإقدام، والانخراط في الأنشطة الخيرية، وبناء الصروح الإنسانية والثقافية مثل جمعية «بيت الخير» التي أسسها مع الوجيه جمعة الماجد وتولى فيها منصب نائب الرئيس وخصص لها وقفاً للإنفاق من ريعه على المحتاجين، ومثل قيامه بتأسيس أول كرسي أستاذية في الاقتصاد الإسلامي بمعهد دراسات العالم الإسلامي بجامعة زايد، بهدف تشجيع الدراسات والأبحاث العلمية في المجالات ذات الصلة بالإقتصاد الإسلامي. كما أنه كان من المقربين من المغفور لهما الشيخين زايد بن سلطان وراشد بن سعيد.

وطبقاً لحوار أجرته معه جريدة «الفجر» الإماراتية (2/12/2021)، درس خليفة بالمدرسة الأحمدية ثم تلقى دراسته بكلية الشرطة في عدن، فعمل بشرطة دبي، قبل أن يسافر إلى مصر للدراسة هناك في كلية القادة والأركان. كما أنه عمل في جمارك دبي وميناء راشد وجمارك المطار. وفي بدايات قيام الكيان الاتحادي تم تعيينه مساعداً لوزير الدفاع، ثم عين في عام 1976 في منصب وكيل وزارة الدفاع برتبة عقيد. وبعد تقاعده من السلك العسكري أسس وترأس «مجموعة شركات خليفة جمعة النابودة» التي تضم العديد من العلامات التجارية العالمية والمعروفة في عالم المركبات الألمانية، وتعمل في مجالات السيارات والعقارات والمصاعد والطباعة والنشر وتجهيز المنشآت والمقاولات والتموين والطيران والتعليم والفنادق، والسياحة والسفر والاستيراد والهندسة البحرية والصلب.

إلى ما سبق، شغل خليفة النابودة خلال مسيرته المتميزة بالدأب والتجارب المتنوعة عضوية المجلس الوطني الاتحادي، وعضوية مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة دبي، وعضوية مجلس دبي الاقتصادي.