ثقافة وفن

المفكّر الرفاعي لـ «عكاظ»: واقعنا مزدحم بالتهافت على الشاشات

قال إنّ أكثر كتب التنمية البشرية مضلّل

08

عبدالجبار الرفاعي

فايع علي حاوره: Alma33e@

بعيداً عن الصخب الذي تخلّفه كتابات وكتب المفكّر العراقي عبدالجبار الرفاعي، نأخذه -في هذا الحوار- إلى الكتابة والقراءة، إلى العقل والتفكير والتأمل، إلى رؤيته الخاصّة في شبكات التواصل الاجتماعي.

لم نشأ الدخول إلى عالمه الكتابي، ومؤلفاته التي أشبعت قراءة، وتحليلاً، وسلسلة إصداراته في «قضايا إسلامية معاصرة» وكتاب «فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد» وسلسلة كتاب «ثقافة التسامح» وسلسلة كتاب «فلسفة وتصوف» وسلسلة كتاب «تحديث التفكير الديني».

أردنا الحديث معه عن سنواته في الكتابة والقراءة، وكيف فتحت له القراءة باباً للعبور والنظر العميق في الأيديولوجيات الأصولية والقومية والبُنى الواحدة لهما، وفضحتْ (كما قال) قناعات راسخة في ذهنه.. فإلى نصّ الحوار:

• بعد كل هذه السنوات، ماذا تعلمت من الكتابة؟

•• تعلمت من الكتابة أشياء متنوعة، إلا أن أثمن ما تعلمته منها وأتعبتني به هو الإيقاظ المتواصل للعقل والتفكير المتأمِّل، والتساؤل عن المسلّمات، وما اشتهر أنه بديهيات وقضايا لا تقبل النقاش. إدمان التفكير حالة غير مريحة للروح والقلب والمشاعر، هذا النوع من التفكير إن كنا نعيشه على الدوام تنفر منه النفسُ لأنه لا يُطاق، التفكير المتأمل عملية شاقة يهرب منها أكثر البشر، إذا تواصلت يقظة العقل صمتت العواطف وخمدت المشاعر، وهذه حالة لا يطيقها معظم البشر. تظل للروح استبصاراتها وللقلب لغته وللقلب رؤاه، مسارات الروح والقلب والعقل في حياتي متوازية لا مترادفة، وإن كان العقل يظل مرجعية عليا يضبط احتياجات الروح والقلب، ويضيء لهما خارطة طريق اشباعها، لئلا يتخبطا في متاهات الضياع، والغرق في الوهم والخرافة والشعوذة. لا أفكر إلا بشيء أساسي في حياتي وداخل عائلتي وعلاقاتي، وهو أن أكون وفياً لما يفرضه عليّ ضميري الأخلاقي، وما يكرّس سكينة روحي وطمأنينة قلبي ويسقيهما.

لو صار التفكير العميق حالة ملازمة لكل شيء في حياتنا يكون ضرباً من الهوس المرضي، الذي يضيّع على الإنسان المتعَ الحسية وحتى المعنوية، ويعزله في منفىً يعيش فيه هو وأفكاره، وينفر منه أقرب الناس إليه. في مواقف لافتة كان ينسحب بعض الأصدقاء فجأة بهدوء من لقاء ودي، إذا تغلب التفكير العميق على الحديث. كنت أتساءل عن دوافع ذلك، قدّمت افتراضات متعدّدة لتفسير هذه المواقف وتكرّرها، إلى أن انتهيت إلى قناعة مفادها: أن التفكير ضدّ طبيعة الإنسان، لو لاحظنا كثيراً من أفعال الإنسان ومواقفه وكلماته ومعتقداته نراها تنبعث من عواطفه وانفعالاته ومصالحه واحتياجاته المتنوعة، وقلّما تصدر عن تفكيره المتأمل الصبور.

• وسائل التواصل، هل زادت عدد القرّاء؟

•• تنامى عدد القراء في وسائل التواصل والتطبيقات الجديدة بشكل هائل، لم تعد القراءة تستأثر بها طبقة مميزة، صار كلُّ مَن يدخل على (منصة إكس) -تويتر سابقاً- أو (الفيسبوك) أو (الانستغرام) وغيرها قارئاً. شخصياً أنا مهتم باكتشاف ذاتي باكتشاف طبيعة الإنسان الذي أعيش معه في الأرض، وسائل التواصل بحر زاخر يبوح فيه إنسان لإنسان لا يعرفه، بما لا يعرفه عنه، دون أن يطلب ذلك منه. يحاول أكثر القراء كتابة انطباعاتهم وآرائهم وأحلامهم ورغباتهم وميولهم ومعتقداتهم، وإن كان بعضهم يلجأ للكتابة بوصفها قناعاً يحتمي فيه فيعلن غير ما يخفي، متستراً على قناعات ومعتقدات مضطهدة في المحيط الذي يعيش فيه.

التطبيقات تنشر كتابات متنوعة، فيها مادة غزيرة، لا تبدو ذات قيمة بنظرة عاجلة، يراها القارئ الجاد هامشية وربما رثة وتافهة، هذه الكتابات مضافاً إلى أنها تمارين يحاول أن يتعلم مَن يمارسها الكتابة، الأهم من ذلك أنها ثروة مهمة للباحثين بمختلف التخصصات، يدلي فيه مَن يكتبها باعترافات مجانية عن شؤونه وشجونه واهتماماته وحياته الشخصية والمجتمعية، وهي نافذة يتكشف فيها شيء مما خفي عنا من الطبقات الغاطسة في أعماق الإنسان، بصورة أجلى مما يتكشف في الكتابات المفكّر فيها بدراية، وتعكس أحوال الإنسان وأمانيه وشجونه ومتاعبه فرداً ومجتمعاً، وتفاصيل مبعثرة للواقع الذي يعيش فيه بصورة مباشرة.

وسائل التواصل من أهم مكاسب العصر الرقمي، فقد مكنتني هذه الوسائل من التواصل مع الجيل الجديد، بوصفي إنساناً نموذجياً في المستقبل لا في الماضي، فمعظم أصدقائي هم من أبنائي وتلامذتي ومن يتواصل معي من الجيل الجديد. ويسرت لي شخصياً هذه الوسائل والتطبيقات الحضور اليومي الحار، والحوار المتنوع معهم. أقول بلا تردّد: والتعلّم المستمر منهم، أتعلّم التفكير على حافة الخطر كلّ يوم من الأسئلة المشاغبة للأذكياء والموهوبين منهم، أتعلّم الإصغاء لمن يعاند قناعاتي وكثير منهم يعاندها، أتعلّم التواضع المعرفي وقول: لا أعلم، إن كنت لم أعثر بعد تفكير طويل على جواب لشيء من أسئلتهم المحرجة، وليس قليلاً ما هو محرج وغريب من تلك الأسئلة. معهم تحرّرت من توهم: «لكل سؤال جواب»، رأيت الأسئلة الكبرى لا جواب نهائي لها، أتعلّم منهم المغامرة المعرفية والتوغل في فضاء لبث مسكوت عنه ونائم في ذهني، أتعلّم ضآلة وعيي للواقع والمديات اللامتناهية لجهلي بالعالم، أتعلّم أن الجيل الإنساني الجديد في عصرنا أكثر مخلوق لا يشبه آباءه وسلالته من بني آدم، أتعلّم حكمة الحياة وأكثّف خبراتي وأراكمها معهم، وكيف أني وجيلي ينبغي أن نكفّ عن دور المعلّم المغرور لكلِّ شيء في حياة هؤلاء الأبناء الأعمق دراية منا بشؤون الواقع الذي يعيشون فيه، ويدركون كيفية تشكّل الصورة البديلة لعالمهم. هؤلاء الأبناء تفوقوا علينا نحن الآباء بأشياء كثيرة؛ أبرزها طريقة تفكيرهم وأساليب تعاطيهم مع الواقع، فلم تعد أسئلتهم أسئلتنا، ولا أجوبتهم أجوبتنا، ولا أحلامهم أحلامنا، ولا أمانيهم أمانينا، ولا رؤيتهم للعالم رؤيتنا، ولا أوهامهم أوهامنا، ولا متاهاتهم متاهاتنا، هم الأجدر بالحديث عن آلامهم وأحلامهم وطموحاتهم وأوهامهم، والأكثر دراية بوعي احتياجاتهم وواقعهم ورؤية العالم من حولهم. أظن لو تخلّص الأبناء من مفاهيمنا المحنطة، وأيديولوجياتنا المهووسة بالأوهام، والأماني الخيالية، ينقذون أنفسهم وينقذوننا من الواقع المزري الذي صنعته أيدينا.

• القراءة، هل هي قادرة على تحقيق التفكير وإنتاج المعرفة؟

•• ليس كل قراءة قادرة على تحقيق التفكير وإنتاج المعرفة، أعرف قراءً يقرأون طيلة حياتهم، بعضهم في العقد العاشر من عمره، لم تلهمه القراءة رؤية تقوّض ما بذهنه من أغلال لمعتقداته المغلقة، ولم تزعزع مفاهيمه التي يحرسها كمومياء محنطة. عن نفسي لو سألتني أو سألني أي إنسان، ما الذي تعرّف نفسك به ثقافياً؟ أعرّف نفسي بهاتين الكلمتين: «أنا قارئ»، هذا هو الشغف الذي كأنه ولد بولادتي، وسيلبث مقيماً بداخلي ما دمت قادراً على القراءة. سألني صديق: لو وضعوك في حبس وسألوك ما الذي تود أن يرافقك في هذا السجن، أجبته: المرأة والكتاب، فقال لو خيّروك بأحدهما، قلت له: الكتاب. أعرف أن هذا الكلام يزعج المرأة، وإن نالت اهتمامي الأعلى بوضعها في خيارين لا ثالث لهما، غير أن المرأة لا ترضى إلا أن تكون لها الأولوية على كل شيء في حياة الرجل. لا أكذب على نفسي ولا عليها ولا على القراء، أنا إنسان صامت طوال الوقت، وحضور المرأة يكسر الصمت أحياناً. الهاتف لا أستعمله إلا في حالة الضرورة، ومناسبات اجتماعية خاصة لفرح أو حزن تفرض حضورها في أعرافنا. ما يكسر صمتي ورطة صباح نهاية الأسبوع بملصقات: «جمعة مباركة»، هذه ظاهرة غريبة تفشت في السنوات الأخيرة، ففي يوم الجمعة تصل لي عشرات الرسائل أكثرها ملصقات. رغم أن هذا ‏شيء مكرّر، مملّ يثير الضجر أحياناً، هذه الملصقات لا تبوح بمعنى حين تدور على الجميع، أخجل من عدم الجواب، أعرف أن هؤلاء الذين يرسلون الرسائل يحتاجون إلى أية إشارة بالتعبير عن التقدير والامتنان، فأجيب على الجميع بتحية أكتبها إكراماً لمبادرتهم. لا أريد الحديث عن صمتي واعتكافي بعيداً عن الصخب، أمارس القراءة بوصفها هواية أنشرح بها، وليست مهنة أتكسب فيها، أو أظفر فيها بمقام يعزز مكانتي في مجتمعي، القراءة سلوة حيث أفتقد أية سلوة تمنح حياتي المزيد من الهدوء والسلام، بعيداً عن ضوضاء المجتمع وما يضجّ فيه من صخب.

لا أبالغ في أثر القراءة بتكوين المعرفة، كما أقرأ وأستمع إلى إفراطٍ ومبالغةٍ وتهويلٍ بالحديث عن ذلك، أظن الدعوة للقراءة اليوم صارت موضة للتباهي. أرى في وسائل التواصل شباباً في مقتبل العمر يكدّسون عشرات الكتب المتنوعة نهاية السنة، بعضها فلسفية عميقة، تتطلب مطالعتها شخصية صبورة تفكر بهدوء، ولا تيأس من التوقف طويلاً لفهم النصوص عبر التفكير بها والتأمل بمضمونها. يحتاج مثل هؤلاء الشباب إلى اعتراف النخبة بمواهبهم وثقافتهم العالية فيلجأون لهذا السلوك الاستعراضي، يعملون على الدعاية لأنفسهم قبل التكوين الرصين؛ الذي يتطلب إنفاق سنوات طويلة في القراءة الجادة والتفكير الصبور. (كانط) فيلسوف الأنوار المدهش، كان يفكر بعمق وقتاً طويلاً ولا يقرأ إلا قليلاً، الفلاسفة يعكفون على قراءة النصوص الكلاسيكية بتدبر، ولا يلاحقون كل شيء، ولا يمضغون الكتب كما تُمضَغ الشوكولاتة. أعرف شباباً اليوم يمتلكون رؤية واقعية للحياة لا ينشغلون بالقراءة ولا يقتنون الكتب، متابعة أفلام هوليود السينمائية وغيرها واليوتيوب ووسائل التواصل المرئية، وخوض معارك الواقع، علمتهم أعمق مما يتعلمون بالكتب. وعي هؤلاء الشباب أكثف وأدق وأشد بصيرة من وعيي وأمثالي من المهووسين بالقراءة. أعترف بممارسة القراءة بوصفها هواية، لا تغويني هواية سواها كما أشرت، وليس بالضرورة لأنها المنبع الوحيد للمعرفة، ولا لأنها الوسيلة الأفضل لوعي الواقع المركب المعقد، ولا لآثارها المتنوعة النافعة. ما أقرأه عن وعود الذكاء الاصطناعي يذهلني، هذا الذكاء على وفق ما يقوله المتخصصون سيغيّر من كمية وكيفية القراءة والكتابة وكل شيء نعرفه ونستعمله في حياتنا. تعاملت مع الجيل الأول من ChatGPT الذي أُعلن عنه نهاية سنة 2022 فأدهشتني إجاباته عن أسئلتي المتنوعة في المعارف والعلوم المختلفة. قرأت عن أجياله اللاحقة أنها تحقّق قفزات نوعية لا محدودة بتزويدنا بما نحتاج إليه من إجابات مختلفة. قبل 40 سنة ما كنت أحلم إلا بكتاب أبحث عنه سنوات عديدة يقع بيدي في أية مكتبة، لم أكن أتوقع العيش في عصر يخرجني رغماً عني من فضاء الورق إلى عالم لا متوقع، تحضر فيه لي بيسر وسهولة سلة العلوم والمعارف والتكنولوجيا دفعة واحدة، وتحضر لغيري من الشغوفين بالمعرفة في شتى أرجاء الأرض، وكأنها مكتبة تتسع لما أنجزه الوعي البشري عبر تطوره بمراحله المتنوعة منذ فجر التاريخ حتى اليوم.

• كيف نشأت مكتبة عبد الجبار الرفاعي؟

•• لم أخطط يوماً في حياتي لإنشاء مكتبة؛ لأن شغفي هو الكتاب، حيثما رأيت كتاباً أنظر لعنوانه، لو التقيت إنساناً أعرفه أو لا أعرفه بيده كتاب، أنظر للكتاب مباشرة وبسرعة بعد النظر لوجهه، أتلصص على عنوانه بعيون زائغة، وربما خرجت عن بروتوكولات التعامل فسألته عن الكتاب ومؤلفه قبل أن نبدأ الحديث. الطريف أن بعض الناس يقع الكتاب بيده هدية وهو لا صلة له بأي كتاب، لا يغويه حتى النظر لعنوانه. لحظة أسأله يعلن أنه لا يعرف شيئاً عنه، فيبادر فوراً لإهدائي الكتاب أحياناً، وكأنه يطلب مني عدم الانشغال بمثل هذا الأمر؛ الذي لا يستحق أن نستهلك الوقت بالحديث حوله برأيه. هذا الولع بالكتاب يوقعني بمصيدة الكتب، ما وصلت لمدينة إلا وسعيت لزيارة مكتبات البيع فيها قبل كل شيء، لا أزور إلا المتاحف والمكتبات في البلدان. أزور القاهرة مثلاً فأذهب للهيئة المصرية للكتاب، وقصور الثقافة، والمركز القومي للترجمة، ودار المعارف، وغيرها. كنت مدعواً لمعرض القاهرة للكتاب لسنة 2024 قبل أيام، لم أحمل في حقيبتي سوى 40 كغم كتباً إلى بغداد. كنت وما زلت زائراً مدمناً لمكتبات شارع المتنبي ببغداد، منذ سنة 1973 حتى اليوم. لا أذهب أيام الجمعة في السنوات الأخيرة لاكتظاظ الشارع بزائريه من القراء والمهتمين بالكتاب والنزهة. كلُّ مرة أقرّر ألا أشتري كتاباً عندما أذهب للمتنبي أو لمعرض الكتاب ببغداد، الذي أحرص على الحضور فيه مساء أيام انعقاده، ينهار القرار فجأة لحظة أرى كتاباً يغويني، أعود للبيت بمجموعة من الكتب، لا تجد هذه الكتب مأوى لها على رفوف مكتبتي، ولا فوق أكداس الكتب المتناثرة على طاولة الطعام وطاولات الغرف، فتتحير زوجتي بتدبير مأوى لها، هي تظن الكتب ستطردنا من البيت رغماً عنا، وأنا لا أطيق العيش في بيت لا يختنق بالكتب. أقول لها: لا أحتاج إلا كرسي الجلوس للكتابة وسرير النوم، مشهد الكتب وهي مكدّسة يسليني ويؤنسني. هي تتطلع لتنسيق ديكور الغرف بأثاث حديث مماثل لما تراه في بيوت الناس. الكتب الجديدة لا يتسع وقتي إلا لقراءة مقدماتها ومحتوياتها وتصفحها، وأُمنّي نفسي بمطالعتها لاحقاً، ولا أظن عمري يتسع لمطالعتها وغيرها من الكتب المصطفة في الدور مما أتشوق لمطالعته. هكذا تكونت مكتبتي.

• ما الإضافة التي قدّمتها لك كتب الفلسفة وأعمال الأدباء الخالدة؟

•• الفلسفة تأخذنا لقراءة كل كلمة وعبارة بدقة وتدبر، وتأمل الفكرة وتمحيصها قبل عبورها. أعمال فرنسيس بيكون وديكارت وكانط وغيرهم من الفلاسفة شكلت العقل الحديث، لولاها للبث العالم قابعاً في ظلام العصور الوسطى. العقل الحديث ولدت في فضائه الخلّاق اكتشافات: غاليلو، ونيوتن، وباستور، وتسلا، وجيمس واط، وأديسون، وآلاف المكتشفين والمخترعين في العلوم النظرية والطبيعية والتكنولوجيا.

الفلسفة تجعلنا نرى الذات والآخر والعالم من حولنا ببصيرة حاذقة، وتحطّم السلاسل المقيّدة فيها أدمغتنا، أحياناً قراءة فكرة لفيلسوف تفتح لك باباً للعبور ومن ثم للنظر العميق في الأفكار والمقولات والمعتقدات. أتذكر قولا لفيلسوف الأنوار إيمانويل كانط يصف فيه قراءته لديفيد هيوم: «أيقظني مِن سُباتي الدوغمائي». وأتذكر قولا لجورج طرابيشي، قرأته قبل أكثر من 40 سنة، في مجلة الوحدة المغربية، في مراجعة كتبها بعد قراءته (تكوين العقل العربي) للجابري فقال ما مفاده: «هذا كتاب يغيِّر، خرجت منه بعد قراءته وأنا غيري حين دخلته»، وإن نقد طرابيشي هذا الكتاب وغيره في كتابه الذي صدر في خمسة أجزاء: (نقد نقد العقل العربي). أنا شخصياً فتحت لي باباً للعبور للنظر العميق في الأيديولوجيات الأصولية والقومية والبُنى الواحدة لهما، وفضحتْ قناعات راسخة في ذهني، قراءةُ صفحة ونصف في كتاب محمد عابد الجابري: (الخطاب العربي المعاصر)؛ الذي قرأته بطبعته الأولى سنة صدوره 1982 عن دار الطليعة ببيروت، ورؤية منيف الرزاز وإلياس فرح وغيرهما من أبرز منظّري حزب البعث بكتاباتهم. كنت قبل ذلك على قناعة موهومة بالاختلاف الجوهري بين أيديولوجيا حزب البعث القومي العلماني وأيديولوجيا الإسلام السياسي الأصولية، إلى أن قرأت كلام الجابري فاستفقت، وحين رجعت إلى نصوص الأيديولوجيتين تمزّق الوهم تماماً لحظة اكتشفت التطابق في البنية المشتركة للتفكير ومنطلقاتهما وما ينشدانه، ومنذ ذلك الوقت وأنا أرصد تطابق الرؤيتين والمسارين والتجربتين والمآلين، وأساليب التعبئة والتحشيد المتقاربة لكلٍّ منهما، وما أحدثاه بتجربتَي حكمهما العنيفة لبعض بلدان العرب من مصادرةٍ للحريات والحقوق ومآسٍ وبؤس وكوارث.

أما أعمال الأدباء الخالدة، فوهبتنا وعياً نكتشف فيه ذاتنا ونحقّقها، ويمكننا من النظر بعمق للإنسان والعالم من حولنا. نتعرف في هذه الأعمال على شيء من أسرار الطبيعة الإنسانية، قارئ روايات دوستويفسكي مثلاً يتعرف في هذه الروايات على شخصيات يلتقي فيها: فيلسوف، وعالم نفس، وعالم اجتماع، وأنثروبولوجي، وشاعر، ومؤمن وملحد، وأخلاقي ومنحط، ونبيل وقذر، وخيِّر وشرير، ومجرم وبرئ، وقاتل ورحيم، وشقي وسعيد، ومعذّب ومرفّه، وأمير وحقير، وسيد وعبد، وماكر وصادق، وخائن وأمين، وغادر ووفي. استطاع هذا الأديب العبقري أن يعكس وجوهاً متضادّة للإنسان الواحد، ويشرح لنا ما تختزنه الطبيعة الإنسانية من تناقضات حادة. قارئ دوستويفسكي مضافاً إلى أنه يقرأ نفسه، يقرأ الإنسان من حوله، بقراءة روايات هي كنز ثمين ممتلئ بمختلف المعارف الثمينة. ربما يصاب القارئ البريء لدوستويفسكي بالذعر، إثر انكشاف حقائق مخيفة في أعماق الإنسان ظلت محجوبة عنه، ربما كان يرى براءة إنسان لبق، ولا يدري بما يستبطنه في أعماقه من شخصية مخيفة تتنكر بهذه الكلمات. زوال الجهل يبدّد الحيرة ويخفض الخوف والقلق، القارئ الذكي لهذه الروايات تتكشف له بعض الأسرار في أعماق شخصيات أقرب الناس إليه ويزول جهله بها، ولا يقع في صدمة وذهول صدور مواقف غدر لئيمة تباغته فجأة.

• ما الأثر الذي تحدثه كتب التنمية البشرية في وعي القارئ؟

•• نادرة هي الكتب التي تغيّرنا، وقليلة هي الكتب التي تفسّر لنا طرائق عيشنا، ونفهم فيها شيئاً من ذاتنا والعالم من حولنا، وكثيرة هي الكتب التي تكرّر المكرّرات المملّة حدّ الضجر. أغرب الكتب هي ما نقرؤها من الغلاف إلى الغلاف، ولا نعرف منها إلا شيئاً واحداً هو: أن كتّابها لم يفكّروا بأي شيء لحظة كتابتها، فلا نحن نفهم ما يكتبون، ولا هم يفهمون شيئاً ذا معنى لما كتبوه، نرى ركام ألفاظ لا تنتج معنى. أشدّ النصوص تأثيراً في القراء ما يكتبها الكاتب لحظة اتقاد عواطفه ويقظة وعيه.

كُتب التنمية البشرية أكثرها مضلِّل، لا تصدق عليها التنمية كما لا يصدق عليها اكتشاف شيء من الطبيعة البشرية. هذه تسمى كتباً غطاءً لمحتواها الأجوف، فهي تجهل جوهر عملية التنمية فضلا عن أنها تجهل حقيقة البشر، بل إن عنوانها ضد محتوياتها. إنها تنوّم من يقرأها، ويقع تحت وصايتها السذج، هذه متاهات يضيع فيها المغفلون. هذه ليست كتباً علمية ولا أدبية ولا فنية ولا ثقافية، الكتاب الذي يراكم الجهل والغفلة ليس كتاباً حقيقياً، إنه ضرب من الخدعة والشعوذة أحياناً. النفس البشرية مركبة عميقة معقدة، ما يحدث للإنسان من أحزان ومسرات، واكتئاب وانشراح، وهشاشة وصلابة، وتردّد وإصرار، وعجز وإرادة، وهزيمة وإقدام، وفشل ونجاح، وشقاء وسعادة، وغيرها من شؤون وشجون الإنسان، تعود إلى مجموعة عوامل خارجية وذاتية، بعضها مستتر في أعماق اللاوعي، وبعضها ظاهر. ما هو كامن في العمق لا يعرفه الإنسان نفسه، وما هو ظاهر خارج الذات وباطنها لا يستطيع اكتشافها إلا متخصّص نفساني خبير. توصيات ساذجة عاجلة، مثل: لا تحزن، لا تكتئب، لا تبكي، لا تضجر، لا تعجز، لا تتردد، وأمثالها، ما هي إلا توصيات من يجهل الطبيعة الإنسانية. انخرط في هذه الموضة نساء ورجال، وشباب من الجنسين، وفجأة تخصّصت دور نشر بطباعة وتوزيع مثل هذه المطبوعات وبيعها بكميات وفيرة. زرت أحد معارض الكتاب في دولة خليجية ففوجئت بأكبر جناح عند بوابة المعرض لم يعرض إلا كتيباً واحداً بأكداس كبيرة، يتزاحم عشرات الناس على شرائه. أنا مدمن على زيارة المكتبات ومعارض الكتاب، ولدي ولع برصد آخر ما تصدره المطابع، ومع ذلك لا أعرف شيئاً عن هذا الكاتب، قادني الفضول لتناول نسخة وتقليبها، فرأيت كلمات عشوائية متناثرة في كل صفحة، قرأت أكثر من صفحة في مواضع عديدة، فشعرت بامتعاض من بؤس الكتابة والجهل الفاضح للكاتب بلغة الكتابة، وأبسط قواعد اللغة وعلامات الترقيم، حاولت أن أقتنص أي معنى مفيد فلم أظفر بشيء، شعرت بالخذلان، لأن الأعمال العلمية والفكرية والأدبية الجادة لا تشهد هذا الاهتمام، كما شعرت بالحزن لغرق القراء بكتابات لا جدوى من قراءتها، لا تخلو من المعرفة والإمتاع وحسب، بل تُفسِد الذائقة، وتشوِّه اللغة، وتخدِّر العقل.

• لماذا القراءة مسرات، والكتابة بالنسبة لك مخاض ووجع وفي أحايين كثيرة داء ودواء؟

•• القراءة مسرات وابتهاج وأفراح إن قرأت الكتب الجادة، القراءة رحلة أعود فيها إلى الذات، لأنصت بهدوء إلى ما تقوله على إيقاع تشاكلها مع معاني ما أقرأ من كلمات. القراءة تحميني من خوض معارك الواقع ومعاناته. أنا كائن بطبعي أحاول ما أمكنني ذلك الهروب من الندوات والمؤتمرات والفضائيات، وأمتنع عن الحضور في منتديات الثقافة والمقاهي والأسواق والمناسبات الاجتماعية وغيرها. طالما اعتذرت عن دعوات محترمة، أعترف أن حالتي استثنائية ولعلها غريبة، وربما هي من عيوبي، لذلك لا يتفهمها كثيرون. حرصي على صيانة وتحصين السلام بداخلي يفوق أي شيء نفيس أعتز به، لو تصدّع هذا السلام تتبدّد طاقتي ولا أقوى على إنجاز أي عمل. الواقع يزدحم بالتهافت على الشاشات والمنتديات والخوض مع الخائضين في كل نشاط، وأنا؛ لا أقول أزهد بذلك، لئلا يقال أمنح نفسي تفوقاً على غيري، بل أقول أنا أحتاج إعجاب الناس وتسويق أعمالي بالحضور، إلا أني لا أعيش سكينة إلا في وحدتي. هذه حالة تزعج غيري عندما لا أستجيب لدعوته، غير أني لا أستطيع التضحية بذاتي من أجل رضا غيري. أحياناً أشعر بحرج أخلاقي لحظة أعتذر من دعوات مهذبة تسعى للاحتفاء بمنجزي. نحن بحاجة لمحبة الإنسان، المحبة الأصيلة رصيد يثري سكينة الروح، وهي قيمة عاطفية إنسانية نبيلة لا توهب لنا ما لم نكن مستثمرين جيدين في المحبة. ذلك ما يدعوني للاستثمار في هذه الثمرة العذبة، وينعكس بكثافة عبر تواصلي الفردي، ومبادراتي المتنوعة للاهتمام بغيري، وقوة حضوري في فضاء الصلات العائلية، والأصدقاء الصدوقين ممن ظفرت بهم في رحلة الحياة المنهكة ومحطاتها المضنية. المفارقة أن الأصدقاء لا يتنبهون في الغالب للدوافع الكامنة وراء العزوف عن التواصل الجمعي والحضور الجماهيري. يبهرني حماس أحد الأصدقاء، وهو كاتب وناشط سياسي وثقافي على مشارف العقد التاسع من عمره عاش أكثر حياته خارج وطنه العراق، يبعث لي هذا الصديق روابط باستمرار لاحتفالات لتكريمه وكتاباته في منتديات بلدان متنوعة. الطريف أن إنتاجه لم ينل أية جائزة عربية أو عالمية رصينة، ولا يترصد القراء ومنهم أنا كتاباته.

كتابتي مكابدة مخاض ووجع مزمن، لا أرى نفسي مخترعاً أو مكتشفاً أو فيلسوفاً، أنا قارئ شغوف بالمعرفة، قادتني القراءة للكتابة، لم أدرك لأول وهلة ورطة الكتابة، إلى أن تحولت إلى صنعة العمر، فصرت أراقب كتابتي بحذر، وأتتبع انطباعات القراء الخبراء وتصويباتهم، وما ينبغي عليّ أن أقدمه. الكاتب مدين للقراء، وعليه مسؤولية كبرى يفرضها ضميره الأخلاقي ليكون وفياً لهم، القراء يأتمنون الكاتب الذي يثقون بوعيه على عقولهم وقلوبهم وأرواحهم، فعليه ألا يخذلهم، ولا يعبث بهذه الثقة الغالية. عندما أقرأ بعض الكتابات وأشعر بالضجر، أتذكر من يقرأ كتاباتي ويعاني مثل هذا الشعور كما أعاني من كتابات هشة، مما يستحثني على إنفاق وقتي وطاقتي القصوى في الكتابة. لو كتبت مقالة أقرأ كل ما يتوفر في مكتبتي؛ وهي مكتبة كبيرة تضم آلاف الكتب المتنوعة، منتقاة بعناية لتأمين ما تتطلبه كتاباتي. كنت أبحث في المكتبات الورقية، واليوم في الإنترنت لما يخصّ الموضوع الذي أكتبه، أسعى بحدود قدرتي لدراسة الموضوع وبحثه من مداخله كافة، وصياغة رؤيتي بشأنه. عمري أنفقته في القراءة والكتابة، أنظر لكتابتي بوصفها محاولات في فهم الوجود وتفسير الإنسان والعالم الذي أعيش فيه، واكتشاف وجوه الحقيقة وتعبيراتها المتنوعة، وأقرب وأوضح ما يوصل إليها من طرق. لا أرى كتابتي جزميات ويقينيات نهائية، ما يجعلني أعيد النظر فيها وأمحّصها وأغربلها، وأكتشف أخطاءها قبل غيري، وأحاول تصويبها، بلا أن يؤذيني ذلك، بل يبهجني.

أعرف بعض الكتّاب يمتلك مفردات قليلة، يدور بها لكل موضوع يكتبه في الأدب والفن والاجتماع والمعارف المتنوعة. يكتب مقالات مطولة تنشر في الصحافة باستمرار، لو حاولت أن تضع النصف الثاني من المقالة محل النصف الأول لن يتغير شيء، وهكذا لو حذفت أية فقرة أو استبدلتها بأخرى. عندما يكتب في الأدب والفن يكرّر الكلمات والمضامين ذاتها، وهكذا لو كتب في السياسة والرواية والنقد الأدبي والثقافي. أنت لا تعرف ماذا يريد، وربما هو لا يعرف من الكتابة إلا إعادة تركيب هذه المفردات بسياق جديد كل مرة، بلا أن تنتج معنى مفيداً يلامس الموضوع الذي يكتب فيه.