زوايا متخصصة

عبدالرحمن المشاري.. أول طبيب سعودي من الساحل الشرقي

رجب 2024 هـ

المشاري يتسلم شهادة زمالة الكلية الملكية لأمراض النساء والولادة.

Abu_taymour@ بقلم: المدني عبدالله د

حينما كانت المملكة العربية السعودية مملكة وليدة، وكانت الخدمات الصحية فيها متواضعة، بل معدومة في بعض مناطقها لدرجة اضطرار المرضى للتداوي بالأعشاب والكي والوصفات الشعبية، أو ذهاب المقتدرين منهم إلى الدول الخليجية المجاورة، مثل البحرين، للعلاج في مستشفياتها، كان أحد أبنائها النابهين يجتهد في تحصيله العلمي كي يتخصص في الطب، بهدف إنقاذ أهله وناسه من الأمراض والأوبئة المتفشية بطريقة علمية، وبالتالي وضع حداً للخزعبلات التي كانوا يلجأون إليها طلباً للشفاء، خصوصاً أنه عاصر وهو طفل محنة تفشي وباء الجدري في بلدته، الذي أودى بحياة الكثيرين من مواطنيه ومنهم بعض أفراد أسرته.

ذلك هو الدكتور عبدالرحمن المشاري، ابن الأحساء الذي قدر الله له أن يدخل تاريخ وطنه كأول طبيب من ساحلها الشرقي، ليكون صنواً للدكتور حيدر عثمان الحجار (أول طبيب سعودي من الحجاز الذي تخرج من كلية الطب بالجامعة السورية سنة 1941)، والدكتور حمد العبدالله البسام (أول طبيب سعودي من نجد الذي تخرج من كلية الملك إدوارد السابع ببومباي سنة 1943).

لقد حلم المشاري، وهو في سن التاسعة، أن يصبح طبيباً، ووفقه الله فلم يصبح في كبره طبيباً فحسب وإنما صار أيضاً علماً من أعلام الطب، وأحد الذين سطروا أسماءهم بأحرف من ذهب في مجال تأسيس وتطوير الخدمات الطبية في وطنه السعودي. وفوق ذلك نجح في البروز إقليمياً ودولياً، بدليل حصوله على العديد من الجوائز وشهادات التقدير العالمية، ناهيك عن تصنيفه من قبل مركز كامبردج الدولي في عام 1995، كأحد أبرز العاملين في المجال الطبي في القرن العشرين.

تقول سيرته المنشورة في العديد من المواقع الإلكترونية والمطبوعات الصحفية، ومنها ما كتبه الأستاذ عبدالعزيز البدر في مجلة الاقتصاد الصادرة عن غرفة تجارة وصناعة المنطقة الشرقية (12/‏6/‏2016)، إن «عبدالرحمن بن مشاري بن إبراهيم بن مشاري الحسين»، المعروف بعبدالرحمن المشاري، ولد في العام 1935 بمدينة الهفوف قاعدة محافظة الأحساء ابناً لعائلة أحسائية ميسورة الحال، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي بمدرسة الهفوف الأولى (بنيت في عام 1937، وافتُتحت رسمياً في عام 1941 تحت اسم «المدرسة الأميرية»، وحولتها الهيئة السعودية للسياحة اليوم إلى موقع أثري تحت اسم «بيت الثقافة»)، التي كانت توصف آنذاك بـ«المدرسة الجامعة» لقوة مناهجها وعلو كعب معلميها وشدة انضباط مخرجاتها وتخرج العديد من أعلام المملكة منها، مثل الأمير خالد الفيصل والدكتور غازي القصيبي.

تخرج المشاري من هذه المدرسة ضمن الرعيل الأول من طلبة الأحساء. وأثناء سنوات دراسته فيها عرف بذكائه وانضباطه وشغفه بالتحصيل وانكبابه على الدراسة دون أن تشغله أمور اللهو والترفيه، ولهذا كان واحداً من الطلبة الذين يُشار إليهم بالبنان طوال سنوات مرحلتيه الابتدائية والإعدادية، التي أعقبها سفره إلى مكة المكرمة لمواصلة دراسته الثانوية هناك بمدرسة العزيزية الثانوية. وفي هذه المدرسة كرر المشاري ما فعله في مدرسته بالهفوف لجهة الاجتهاد والانكباب على التحصيل، فكان جزاؤه من جنس عمله. إذ تخرج بتفوق، وبالتالي اُختير ضمن عدد من الطلبة المتفوقين للابتعاث على نفقة الحكومة إلى مصر لدراسة الطب بجامعة القاهرة التي تخرج منها في عام 1966.

لم يكتفِ صاحبنا ببكالوريوس الطب والجراحة الذي ناله من جامعة القاهرة، فقرر التخصص في مجال من مجالات العلوم الطبية العديدة. وهكذا تم ابتعاثه مجدداً إلى الخارج، لكن هذه المرة إلى إيرلندا، التي حصل فيها سنة 1968 على دبلوم التخصص في أمراض النساء والولادة من جامعة دبلن، ثم أمضى سنواته الأربع التالية في عدد من من مستشفيات المملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا الشهيرة، مثل مستشفى روتندا بإيرلندا ومستشفى جورج بولتون ومستشفى برادفورد بإنجلترا كطبيب متدرب في جراحة النساء والتوليد. وهناك ذاع صيته بين زملائه وأساتذته فلُقّب «ذو الأصابع الذهبية»، بسبب مهارته ودقته وكفاءته الجراحية.

في عام 1972، وبعد أن أنهى دراسته وجميع متطلبات التدريب الخاصة بحصوله على زمالة الكلية الملكية البريطانية لأمراض النساء والولادة، عاد إلى بلاده ليخدمها، فعمل في الفترة من عام 1972 إلى عام 1983 أستاذاً مساعداً لأمراض النساء والولادة في كلية الطب التابعة لجامعة الملك سعود بالرياض، ومن موقعه هذا ساهم في تخريج وتدريب دفعات من الأطباء المواطنين ممن ساهموا بدورهم في تأسيس نظام صحي سعودي متقدم وواعد.

وأثناء هذه الفترة من حياته الوظيفية، وتحديداً في عام 1980، تولى وظيفة نائب مدير مستشفى الملك خالد الجامعي إلى جانب توليه رئاسة قسم أمراض النساء والولادة في المستشفى، فقام بتقديم اقتراح إلى المسؤولين وولاة الأمر حول ضرورة التوسع في مباني الجامعة من أجل استيعاب وتخريج عدد أكبر من الأطباء السعوديين ومواكبة التطورات العلمية العالمية. وقد تمت الاستجابة لمقترحه، بل وتم تكليفه شخصياً بإدارة مشروع طموح لتطوير وتوسعة كلية الطب والمستشفى الجامعي بجامعة الملك خالد، حيث كرس الرجل كل وقته وجهده وعلمه لإتمام المهمة التي أنيطت به على أكمل وجه.

ومن الوظائف الإدارية والأكاديمية الأخرى التي تولاها، والتي حرص من خلالها على الاستفادة القصوى من الطفرة الاقتصادية في وطنه لتأسيس نظام طبي حديث قادر على مواكبة تطورات العصر، تقلده منصب رئيس قسم النساء والولادة بمستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي بالرياض، ومنصب استشاري أمراض النساء والولادة في كل من مستشفى الرياض المركزي التابع لوزارة الصحة السعودية ومستشفى قوى الأمن بالرياض التابع لوزارة الداخلية.

لاحقاً شعر الدكتور المشاري أنه قام بواجبه تجاه وطنه وشعبه والأجيال المقبلة، وأنه آن الأوان لتحقيق حلم كان يراوده، وهو بناء مستشفاه الخاص على أحدث ما توصل إليه العلم ليضاهي به المستشفيات العالمية التي تدرب بها. وهكذا قدم استقالته من مناصبه ليتفرغ للعمل الحر، وبالفعل أفنى أربع سنوات من عمره وهو يشرف شخصياً على بناء وتأثيث أول مستشفى أهلي في الرياض متخصص في أمراض النساء والولادة والأطفال، بعد أن حصل من الجهات الرسمية على التراخيص اللازمة، ليتحقق حلمه في عام 1987، بافتتاح المستشفى المذكور الذي أخذ ينمو ويكبر ويستقطب أمهر الأطباء المحليين والعرب في مختلف التخصصات الطبية على مدى العقود الماضية. ومما يذكر، أنه في لفتة أبوية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، قام جلالته شخصياً ــ حينما كان أميراً للرياض ــ بافتتاح مستشفى الدكتور عبدالرحمن المشاري في حفل بهيج، بحضور نائب أمير منطقة الرياض آنذاك صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز رحمه الله.

وفي 24 أكتوبر 2007، احتفل المستشفى بحصوله على شهادة الاعتماد الدولية لجودة الخدمات الصحية من المجلس الكندي للخدمات الصحية، وذلك في حفل حضره الدكتور المشاري، الذي ألقى كلمة بدأها بعبارة «لدي حلم»، ثم استطرد قائلاً «بالتأكيد أن تلك العبارة قد مرت على آذانكم كثيراً، إنها من الخطبة الخاصة بمارتن لوثر كينج، وأنا أيضاً لدي حلم، وبتوفيق من الله تعالى ثم بمساندة من حكومتنا الرشيدة فقد تحقق هذا الحلم. منذ عشرين عاماً قمت بوضع أساسات هذا المستشفى، وعلى مر تلك السنوات رأيتها وهي تنمو وتتطور وتمر بالعديد من التغييرات والتجديدات والتحسينات تقريباً في كل ركن من أركانها وبجميع إداراتها المختلفة، إلا أنه كان دائماً يوجد سؤال يتردد في بالي، ألا وهو: ماذا بعد؟ منذ عشرين عاماً قمنا نحن المؤسسين ومعنا طاقم العاملين بوضع رؤية لمؤسستنا، ولم يكن في رؤيتنا إنشاء مؤسسة طبية فقط، بل كانت رؤيتنا تتعدى ذلك بكثير.. ربما كانوا يدعوننا من الحالمين، ولكن من نحن جميعاً دون أحلام. لقد كانت رؤيتنا أن نصبح إحدى المؤسسات الطبية المعروفة والمعترف بها عالمياً، واليوم ها آنذا أقف بينكم يملأني شعور بالفخر والشكر والعرفان، حيث إنني وأخيراً قد اكتملت رؤيتي». ولم ينسَ المشاري في كلمته، أن يخص ابنه الدكتور محمد المشاري وابنته الدكتورة هديل المشاري بشكر خاص لمثابرتهما في إدارة المستشفى بنجاح.

بقي أن نذكر، أن الدكتور عبدالرحمن المشاري هو شقيق أصغر لمعالي الشيخ حسن المشاري (ت: 2016)، الذي يعد أول وزير سعودي من شرق السعودية، حيث تولى معاليه حقيبة الزراعة والمياه، في الحكومة الأولى التي شكلها المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله بعد مبايعته ملكاً سنة 1964، علماً بأن عائلة الشقيقين المعروفة بـ«المشاري الحسين» هي عائلة أحسائية عريقة تعود جذورها إلى الدرعية، حيث اضطرت الأسرة للنزوح منها إلى الأحساء مع غيرها من الأسر النجدية بحثاً عن الرزق والأمان على إثر اجتياح قوات إبراهيم باشا للدرعية وهدمها عام 1233 للهجرة.

سيرة الشقيقين

والجدير بالذكر، أن سيرة الشقيقين تتقاطع وتتشابه في الكثير من التفاصيل. فكلاهما ولد ونشأ وترعرع في الهفوف، وكلاهما تخرج من مدرسة الهفوف الأولى وكانا من الطلبة المتفوقين، وكلاهما ذهب إلى مكة المكرمة لمواصلة تعليمه الثانوي، لكن في مدرستين مختلفتين وزمنين متباعدين بحكم فارق السن، وكلاهما ابتُعث إلى مصر على نفقة الدولة، فدرس حسن في كلية التجارة بجامعة القاهرة وتخرج متخصصاً في المحاسبة سنة 1953، بينما درس عبدالرحمن في كلية الطب بالجامعة نفسها وتخرج سنة 1966، كما أسلفنا. إلى ذلك واصل كل منهما دراسته العليا في بريطانيا مع فارق أن حسن اضطُر إلى قطع دراسته هناك لنيل الماجستير بسبب نشوب حرب السويس سنة 1956، وقيام الرياض بقطع علاقاتها مع لندن وتحويل طلبتها المبتعثين وغير المبتعثين إلى الولايات المتحدة، حيث التحق بجامعة جنوب كاليفورنيا وحصل منها على درجة الماجستير في إدارة الأعمال الصناعية عن أطروحة بعنوان «تحليل مفاوضات عقود النفط بين السعودية وشركات النفط الأجنبية».

صاحب «الأصابع الذهبية»

قلنا آنفاً، إن المشاري حصل في عام 1995 على تقدير تمثل باختياره من قبل مركز كامبردج الدولي لسير الأعلام كواحد من أبرز العاملين في المجال الطبي في القرن العشرين، غير أن ذلك لم يكن التقدير الوحيد الذي حظي به، ففي الثاني والعشرين من مارس 2010، تم منحه جائزة «عمر من الإنجازات» من قبل المؤتمر الخليجي الخامس للإبداع العلمي في صحة المرأة، الذي انعقد بمدينة جدة تحت رعاية كل من منظمة الصحة العالمية والرابطة العربية لأمراض النساء والولادة والكلية الملكية البريطانية لأمراض النساء والولادة، حيث تسلم جائزته من صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز محافظ جدة، آنذاك، بحضور لفيف من كبار أطباء العالم المتخصصين في صحة المرأة من الدول الخليجية والعربية والولايات المتحدة وكندا وأستراليا والهند ودول الإتحاد الأوروبي.

بعد رحلة طويلة من العمل الدؤوب في مكافحة الأمراض وخدمة المرضى وتخريج الأطباء والمساهمة في تشييد صروح الطب الوطنية، ترجل صاحب «الأصابع الذهبية»، الطبيب المتواضع الخلوق، إذ توقف قلبه الكبير عن النبض وأغمض عينيه ورحل إلى جوار ربه في يوم الخميس الموافق للثاني من أبريل سنة 2016، من بعد صراع طويل مع المرض، فتم دفنه بالرياض من بعد الصلاة عليه بمسجد الملك خالد بن عبدالعزيز بحي أم الحمام في العاصمة. وقد تسابق أصدقاؤه ومحبوه إلى رثائه والترحم عليه وتعداد سجاياه ومآثره الكثيرة، رحمه الله.