حمد علي السالم الزعابي..رجل من الرعيل الأول لا يعرفه الكثيرون
2023 جمادى 20:20 / 1444 08 الاحد الآخرة يناير هـ / 01 / الأحد
بقلم: عبدالله د المدني
المرحوم حمد علي السالم (الزعابي) من الشخصيات الكويتية التي طواها النسيان، ولا يعرف الكثيرون عن صولاته وجولاته في عالم الدبلوماسية وتمثيل بلاده في الخارج، علاوة على عمله في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين في دور المعتمدية البريطانية في الكويت ومسقط والبحرين وفي سلك القضاء.
لم يُكتب عن الرجل كثيراً، بل لا نجد معلومات وافرة عنه باستثناء ما أورده الصديق الباحث المجتهد الدكتور عادل محمد العبدالمغني في كتابه «سفراء دولة الكويت 1961 ــ 2002». وهو كتاب قيم تناول فيه المؤلف سيرة أكثر من 90 سفيراً كويتياً منذ استقلال بلاده عام 1961، مخصصاً عدة صفحات موثقة بالصور الفوتوغرافية للحديث عن الزعابي وسيرته ومشواره الوظيفي وصولاً إلى سنوات تقاعده في لبنان وما حدث له بعد اندلاع الحرب الأهلية هناك.
وقبل أن نتوسع في الحديث عن هذه الشخصية السابقة لزمانها وأوانها، نتحدث قليلاً عن تاريخ المعتمديات البريطانية في الخليج العربي (سميت أيضاً تسميات أخرى مثل الوكالة السياسية البريطانية والمقيمية البريطانية) باعتبارها المكان الذي عمل فيه صاحبنا في فترة شبابه في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، والمنهل الذي استقى منه خبراته الأولى قبل انتقاله إلى المجال الدبلوماسي في الستينات الميلادية.
الوكالة البريطانية في الخليج
البداية كانت مع البحرين ذات الموقع الجغرافي المتميز في وسط الخليج العربي، حيث ظهر اهتمام بريطانيا بها لأول مرة في عام 1613 عندما اقترح توماس ألدورث الوكيل الرئيسي لشركة الهند الشرقية بمدينة سورات الهندية عدة مواقع لتأسيس معتمدية أو وكالة أو مقيمية بريطانية في الخليج لأغراض تيسير التجارة مع إيران. لكن الاختيار وقع على مدينة بوشهر الإيرانية كمقر رسمي للمقيم الرسمي البريطاني لمتابعة مصالح بريطانيا في المنطقة منذ العام 1763. وفي أعقاب الزيارة الرسمية الأولى التي قام بها إلى البحرين المقيم السياسي في بوشهر وليام بروس سنة 1819 تقرر تعيين وكيل محلي لبريطانيا في البحرين بدءاً من عشرينات القرن التاسع عشر، ثم تقرر لاحقاً في أوائل القرن العشرين استبداله تدريجياً بمسؤول بريطاني بسبب قلق بريطانيا من الأنشطة والتحركات العثمانية والفرنسية في الخليج.
وأثناء الحرب العالمية الأولى، تقرر أن تفصل معتمدية البحرين عن سلطة المقيم البريطاني في بوشهر، وأن توضع تحت السلطة المباشرة للسير بيرسي كوكس المسؤول السياسي البريطاني الأول في العراق، لكن هذه الوضعية تغيرت بحلول عام 1922، في ضوء تطور مصالح بريطانيا في الخليج وعلاقاتها مع سلطان نجد وملحقاتها السلطان (الملك) عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه، لاسيما بعد توقيع معاهدة دارين لسنة 1915.
وقبل استقلال الهند البريطانية بسنة واحدة، أي في عام 1946 انتقلت المقيمية السياسية البريطانية من بوشهر إلى البحرين، خصوصاً أن تلك الفترة شهدت صعود نجم البحرين كمركز تجاري ومحطة ترانزيت وتزويد للوقود للرحلات الجوية ما بين الغرب والشرق، ناهيك عن تأسيس قاعدة لسلاح الجو الملكي البريطاني في المحرق.
وهكذا راحت المعتمدية أو المقيمية البريطانية في المنامة تباشر مصالح بريطانيا العظمى ليس في البحرين وحدها وإنما أيضاً في قطر، وتنسق وتتعاون مع مثيلاتها في كل من الكويت والشارقة ضمن نظام إداري صارم طوال عقود التاريخ الكولونيالي البريطاني في الخليج. أما في ما خص عمان، فقد تأسست الوكالة السياسية البريطانية فيها في عام 1800، بموجب اتفاقية عام 1798 مع سلطانها السيد سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (ت: 1804)، وكانت لهذه الوكالة أدوار سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية واسعة ومختلفة بحكم ظروف عمان الخاصة وموقعها الجغرافي المتميز القريب من الهند البريطانية وحرص بريطانيا على بسط سلطة صارمة على عمان للحد من تنافس القوى المحلية والإقليمية والدولية حولها، ولاسيما فرنسا وهولندا.
مواليد القبلي
وبالعودة إلى سيرة الزعابي، نجد أن ميلاده كان في الحي القبلي بمدينة الكويت القديمة عام 1911، لأسرة تنتمي إلى قبيلة الزعاب (مفرده الزعابي) العربية المعروفة التي ينتشر أفرادها في الإمارات وسلطنة عمان والبحرين والكويت والأحساء. لكن على حين تُجمع مصادر تاريخية كثيرة ومتنوعة (مثل كتاب «بنو سليم» لمؤرخ المدينة المنورة وصاحب مجلة المنهل السعودية العلامة عبدالقدوس الأنصاري، وكتاب «جزيرة العرب» لمصطفى مراد الدباغ، وكتاب «تاريخ وجغرافيا الخليج العربي» للمستشرق جي جي لوريمرز، و«موسوعة القبائل العربية» لمحمد سليمان الطيب، و«موسوعة قبائل العرب» لعبدالكريم الوائلي، وغيرها)، أن الزعاب في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي من بني سليم ويتواجد أكثرهم في سلطنة عمان وإمارات الساحل، حيث كانت لهم أدوار تاريخية مشهودة، يرى زعاب الكويت أنهم يرجعون إلى بني تميم، ولا توجد صلة لهم بزعاب عمان والإمارات، وأنهم لقبوا باسم زعاب لأنهم كانوا يزعبون الماء من الآبار.
وأياً تكن الحقيقة، فإن الزعابي في الكويت عملوا في الغوص قديماً، وتصاهروا مع العديد من الأسر الكويتية المعروفة مثل: الرويح والعمر والدرباس والفجري والجاسم والزيد، طبقاً لما ورد في موقع تاريخ الكويت. كما برزت منهم شخصيات معروفة في أكثر من مجال مثل: النوخذة ماجد الزعابي، والمصور العالمي ماجد سلطان الزعابي، ومؤرخ التراث فهد علي الزعابي، ورئيسة قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب في جامعة الكويت الدكتورة إبتهاج الزعابي، والنوخذة خميس محمود الزعابي (حفيد ابن عقاب رامي مدفع رمضان والعيد في عهد الشيخ مبارك الصباح)، والوكيل المساعد بوزارة الداخلية اللواء الدكتور مصطفى الزعابي، وغيرهم.
المدرسة الأحمدية
في بدايات افتتاحها سنة 1922، التحق حمد علي السالم الزعابي للدراسة بالمدرسة الأحمدية (ثانية مدارس الكويت النظامية، التي افتتحت أبوابها في أواخر أيار/ مايو 1921، وسُميت كذلك نسبة للشيخ أحمد الجابر الصباح الذي حكم من عام 1921 وحتى تاريخ وفاته عام 1950)، وفي الوقت نفسه، وبسبب عشقه لتعلم اللغات الأجنبية، التحق بأول مدرسة تأسست في الكويت لتعليم اللغة الإنجليزية التي كانت تُعرف عند العامة بـ«مدرسة الأمريكاني»، وهي مدرسة افتتحها في الكويت القس الأمريكي «أدوين كالفرلي Edwin Calverley» زوج طبيبة الإرسالية الأمريكية الدكتورة إلينور، التي عاشت في الكويت من عام 1912 إلى عام 1932، وأطلق عليها الحاكم الشيخ مبارك الصباح (ت: 1915) اسم «الخاتون حليمة».
استمر الزعابي في دراسة الإنجليزية عدة سنوات حتى تمكن منها كتابة وقراءة وتخاطباً بصورة مدهشة. وأتبع ذلك بدراسة اللغتين الفرنسية والألمانية حتى أجادهما في زمن لم يكن أحد من مواطنيه يتحدث غير اللغة العربية، فسجل بذلك اسمه ضمن طليعة الكويتيين المثقفين.
مترجماً في دار الاعتماد البريطاني
في تلك الفترة من تاريخ الكويت المبكر، لم تكن هناك وظائف تناسب مؤهلات الرجل سوى العمل لدى دار الاعتماد البريطاني. وبالفعل تمّ توظيفه في عام 1930 للقيام بأعمال الترجمة. ولم يمضِ سوى عامين على ذلك إلا ويتم إرساله إلى مسقط للعمل بالمعتمدية البريطانية هناك في كتابة الرسائل وترجمتها. وفي مسقط، أمضى الزعابي خمس سنوات متواصلة من حياته، تماهى خلالها مع العادات والتقاليد العمانية واندمج أثناءها في البيئة العمانية التي استهوته كثيراً لدرجة أنه واظب على ارتداء الملابس والعمامة العمانية التقليدية. وخلال تلك السنوات عمل في أعمال أخرى، غير وظيفته الرسمية، ومنها العمل وسيطاً بين الإنجليز وسلطان عمان الأسبق السيد سعيد بن تيمور بن فيصل البوسعيدي (ت: 1972). أما أوقات فراغه في مسقط فكان يستغلها في دراسة القوانين والاتفاقيات وترجمتها، ما جعله خبيراً في أمور القضاء نظراً لعلاقة القضاء بتلك القوانين التي عكف على دراستها.
في عام 1937 عاد إلى الكويت، غير أن المقام لم يطل به، إذ سرعان ما استدعي في العام نفسه للعمل بدار المعتمدية البريطانية في المنامة، بعد أن تزايدت الأعمال الإدارية للمعتمدية ومراسلاتها الداخلية والخارجية في فترة ما بين الحربين العالميتين، خصوصاً أن أغلب كتاب ومترجمي المعتمدية وقتذاك كان من رعايا الهند البريطانية يساعدهم عدد قليل من الموظفين العرب.
اللغات.. طريقه للتجارة
يقول الصديق الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم، في كتابه «المنامة المدينة العربية: دراسة نقدية أنثروبولوجية»، الصادر عن مركز دراسات البحرين بجامعة البحرين عام 2015: «من نشاطات المُعتمد الأسبوعية بصفته قاضياً، النظر في القضايا ذات الصلة بالأجانب المقيمين بالبحرين في محكمة دار الاعتماد بالمُعتمدية، وكذلك الحضور مع حاكم البحرين، أو من ينوب عنه، في جلسات المحكمة المختلطة بمقرها في مبنى الحكومة وذلك للنظر في القضايا المختلطة بين الأجانب والبحرينيين». وهكذا يمكن القول إنه مع تزايد أعداد الأجانب من غير المسلمين المقيمين في البحرين كنتيجة لازدهار أعمال النفط، ازدادت أعمال محاكم المعتمدية زيادة تصاعدية، وهو ما فتح الطريق أمام الزعابي، بصفته ملماً بالقوانين ومطلعاً عليها، للعمل قاضياً بمحاكم المعتمدية حتى عام 1948، وهو العام الذي عاد فيه إلى الكويت، حيث راح يمارس أعمالاً تجارية حرة، ومنها تأسيسه لبعض الشركات التجارية الخاصة، التي باشر من خلالها مراسلة الشركات الأجنبية لاستيراد احتياجات السوق المحلي من مختلف البضائع، والتفاوض معها مباشرة مستخدماً إجادته للغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. كما أسس الزعابي في هذه الفترة شركة للمقاولات والإنشاءات حصل من خلالها على مقاولة بناء مساكن لموظفي شركة نفط الكويت بمنطقة الأحمدي مع مرافقها المختلفة، وأخرى لبناء سكن لعمال الشركة بمنطقة الفحيحيل.
استقلال الكويت.. منعطف دبلوماسي للزعابي
كانت سنة 1961، التي نالت فيها الكويت استقلالها بمثابة منعطف جديد في حياة الزعابي. ففيها استدعاه ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح السالم الصباح بصفته وزيراً للخارجية، وفاتحه للعمل كسفير بسبب خبرته القانونية والإدارية وإجادته للغات الأجنبية. وقد استجاب الرجل لنداء الوطن فتم تعيينه بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 1961 سفيراً فوق العادة مفوضاً لدولة الكويت في طهران، وقدم أوراق اعتماده لشاه إيران في قصر كلستان عام 1962، فصار بذلك أول سفير كويتي معتمد لدى البلاط الشاهنشاهي، وسادس سفير كويتي من حيث الأقدمية. وخلال فترة مهمته الدبلوماسية في طهران، التي انتهت في الثالث والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1965، عمل على توثيق علاقات بلاده مع إيران التي توجت لاحقاً بأول زيارة رسمية للشاه محمد رضا بهلوي إلى الكويت عام 1968، وتسنى له الالتقاء بعدد كبير من زعماء الدول العربية والآسيوية والأفريقية والأوروبية الزائرين، كما تشهد الصور الفوتوغرافية العديدة التي نشرها الباحث عادل العبدالمغني في كتابه آنف الذكر.
محطته الدبلوماسية التالية بعد طهران كانت العاصمة السودانية الخرطوم، التي عين بها سفيراً ابتداء من شهر كانون الثاني/يناير 1966. ويبدو أن الرجل لم يطب له المقام في السودان فتقدم باستقالته في الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1967. وخلال عمله في الخرطوم انضم إلى الوفد الكويتي المشارك في القمة العربية الرابعة (قمة اللاءات الثلاث) برئاسة الأمير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح (ت: 1977)، التي عقدت هناك في الفترة ما بين التاسع والعشرين من آب/أغسطس والأول من أيلول/ سبتمبر 1967، لبحث آثار هزيمة حزيران/يونيو ودعم دول المواجهة.
في أعقاب استقالته من عمله الدبلوماسي، قرر الزعابي أن يتقاعد عن العمل فاختار بلدة حمانا اللبنانية الجميلة المطلة على وادي لامارتين على بعد 26 كلم شرق بيروت مقاماً دائماً له. وبالفعل عاش هناك سنوات جميلة من حياته، منشغلاً بممارسة هوايته في قراءة الكتب الأدبية والتاريخية، حتى سنة 1975، التي اندلعت فيها الحرب الأهلية اللبنانية، فاضطر لمغادرة لبنان مثلما فعل الكثيرون غيره. وهكذا عاد الرجل إلى الكويت سنة 1978 ليُتوفى على أرضها ووسط أهله وعشيرته في كانون الثاني/يناير من العام نفسه، مخلفاً وراءه سيرة عطرة والعديد من شهادات ودروع وأوسمة التكريم والتقدير.
لم يُكتب عن الرجل كثيراً، بل لا نجد معلومات وافرة عنه باستثناء ما أورده الصديق الباحث المجتهد الدكتور عادل محمد العبدالمغني في كتابه «سفراء دولة الكويت 1961 ــ 2002». وهو كتاب قيم تناول فيه المؤلف سيرة أكثر من 90 سفيراً كويتياً منذ استقلال بلاده عام 1961، مخصصاً عدة صفحات موثقة بالصور الفوتوغرافية للحديث عن الزعابي وسيرته ومشواره الوظيفي وصولاً إلى سنوات تقاعده في لبنان وما حدث له بعد اندلاع الحرب الأهلية هناك.
وقبل أن نتوسع في الحديث عن هذه الشخصية السابقة لزمانها وأوانها، نتحدث قليلاً عن تاريخ المعتمديات البريطانية في الخليج العربي (سميت أيضاً تسميات أخرى مثل الوكالة السياسية البريطانية والمقيمية البريطانية) باعتبارها المكان الذي عمل فيه صاحبنا في فترة شبابه في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، والمنهل الذي استقى منه خبراته الأولى قبل انتقاله إلى المجال الدبلوماسي في الستينات الميلادية.
الوكالة البريطانية في الخليج
البداية كانت مع البحرين ذات الموقع الجغرافي المتميز في وسط الخليج العربي، حيث ظهر اهتمام بريطانيا بها لأول مرة في عام 1613 عندما اقترح توماس ألدورث الوكيل الرئيسي لشركة الهند الشرقية بمدينة سورات الهندية عدة مواقع لتأسيس معتمدية أو وكالة أو مقيمية بريطانية في الخليج لأغراض تيسير التجارة مع إيران. لكن الاختيار وقع على مدينة بوشهر الإيرانية كمقر رسمي للمقيم الرسمي البريطاني لمتابعة مصالح بريطانيا في المنطقة منذ العام 1763. وفي أعقاب الزيارة الرسمية الأولى التي قام بها إلى البحرين المقيم السياسي في بوشهر وليام بروس سنة 1819 تقرر تعيين وكيل محلي لبريطانيا في البحرين بدءاً من عشرينات القرن التاسع عشر، ثم تقرر لاحقاً في أوائل القرن العشرين استبداله تدريجياً بمسؤول بريطاني بسبب قلق بريطانيا من الأنشطة والتحركات العثمانية والفرنسية في الخليج.
وأثناء الحرب العالمية الأولى، تقرر أن تفصل معتمدية البحرين عن سلطة المقيم البريطاني في بوشهر، وأن توضع تحت السلطة المباشرة للسير بيرسي كوكس المسؤول السياسي البريطاني الأول في العراق، لكن هذه الوضعية تغيرت بحلول عام 1922، في ضوء تطور مصالح بريطانيا في الخليج وعلاقاتها مع سلطان نجد وملحقاتها السلطان (الملك) عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه، لاسيما بعد توقيع معاهدة دارين لسنة 1915.
وقبل استقلال الهند البريطانية بسنة واحدة، أي في عام 1946 انتقلت المقيمية السياسية البريطانية من بوشهر إلى البحرين، خصوصاً أن تلك الفترة شهدت صعود نجم البحرين كمركز تجاري ومحطة ترانزيت وتزويد للوقود للرحلات الجوية ما بين الغرب والشرق، ناهيك عن تأسيس قاعدة لسلاح الجو الملكي البريطاني في المحرق.
وهكذا راحت المعتمدية أو المقيمية البريطانية في المنامة تباشر مصالح بريطانيا العظمى ليس في البحرين وحدها وإنما أيضاً في قطر، وتنسق وتتعاون مع مثيلاتها في كل من الكويت والشارقة ضمن نظام إداري صارم طوال عقود التاريخ الكولونيالي البريطاني في الخليج. أما في ما خص عمان، فقد تأسست الوكالة السياسية البريطانية فيها في عام 1800، بموجب اتفاقية عام 1798 مع سلطانها السيد سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (ت: 1804)، وكانت لهذه الوكالة أدوار سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية واسعة ومختلفة بحكم ظروف عمان الخاصة وموقعها الجغرافي المتميز القريب من الهند البريطانية وحرص بريطانيا على بسط سلطة صارمة على عمان للحد من تنافس القوى المحلية والإقليمية والدولية حولها، ولاسيما فرنسا وهولندا.
مواليد القبلي
وبالعودة إلى سيرة الزعابي، نجد أن ميلاده كان في الحي القبلي بمدينة الكويت القديمة عام 1911، لأسرة تنتمي إلى قبيلة الزعاب (مفرده الزعابي) العربية المعروفة التي ينتشر أفرادها في الإمارات وسلطنة عمان والبحرين والكويت والأحساء. لكن على حين تُجمع مصادر تاريخية كثيرة ومتنوعة (مثل كتاب «بنو سليم» لمؤرخ المدينة المنورة وصاحب مجلة المنهل السعودية العلامة عبدالقدوس الأنصاري، وكتاب «جزيرة العرب» لمصطفى مراد الدباغ، وكتاب «تاريخ وجغرافيا الخليج العربي» للمستشرق جي جي لوريمرز، و«موسوعة القبائل العربية» لمحمد سليمان الطيب، و«موسوعة قبائل العرب» لعبدالكريم الوائلي، وغيرها)، أن الزعاب في شبه الجزيرة العربية والخليج العربي من بني سليم ويتواجد أكثرهم في سلطنة عمان وإمارات الساحل، حيث كانت لهم أدوار تاريخية مشهودة، يرى زعاب الكويت أنهم يرجعون إلى بني تميم، ولا توجد صلة لهم بزعاب عمان والإمارات، وأنهم لقبوا باسم زعاب لأنهم كانوا يزعبون الماء من الآبار.
وأياً تكن الحقيقة، فإن الزعابي في الكويت عملوا في الغوص قديماً، وتصاهروا مع العديد من الأسر الكويتية المعروفة مثل: الرويح والعمر والدرباس والفجري والجاسم والزيد، طبقاً لما ورد في موقع تاريخ الكويت. كما برزت منهم شخصيات معروفة في أكثر من مجال مثل: النوخذة ماجد الزعابي، والمصور العالمي ماجد سلطان الزعابي، ومؤرخ التراث فهد علي الزعابي، ورئيسة قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب في جامعة الكويت الدكتورة إبتهاج الزعابي، والنوخذة خميس محمود الزعابي (حفيد ابن عقاب رامي مدفع رمضان والعيد في عهد الشيخ مبارك الصباح)، والوكيل المساعد بوزارة الداخلية اللواء الدكتور مصطفى الزعابي، وغيرهم.
المدرسة الأحمدية
في بدايات افتتاحها سنة 1922، التحق حمد علي السالم الزعابي للدراسة بالمدرسة الأحمدية (ثانية مدارس الكويت النظامية، التي افتتحت أبوابها في أواخر أيار/ مايو 1921، وسُميت كذلك نسبة للشيخ أحمد الجابر الصباح الذي حكم من عام 1921 وحتى تاريخ وفاته عام 1950)، وفي الوقت نفسه، وبسبب عشقه لتعلم اللغات الأجنبية، التحق بأول مدرسة تأسست في الكويت لتعليم اللغة الإنجليزية التي كانت تُعرف عند العامة بـ«مدرسة الأمريكاني»، وهي مدرسة افتتحها في الكويت القس الأمريكي «أدوين كالفرلي Edwin Calverley» زوج طبيبة الإرسالية الأمريكية الدكتورة إلينور، التي عاشت في الكويت من عام 1912 إلى عام 1932، وأطلق عليها الحاكم الشيخ مبارك الصباح (ت: 1915) اسم «الخاتون حليمة».
استمر الزعابي في دراسة الإنجليزية عدة سنوات حتى تمكن منها كتابة وقراءة وتخاطباً بصورة مدهشة. وأتبع ذلك بدراسة اللغتين الفرنسية والألمانية حتى أجادهما في زمن لم يكن أحد من مواطنيه يتحدث غير اللغة العربية، فسجل بذلك اسمه ضمن طليعة الكويتيين المثقفين.
مترجماً في دار الاعتماد البريطاني
في تلك الفترة من تاريخ الكويت المبكر، لم تكن هناك وظائف تناسب مؤهلات الرجل سوى العمل لدى دار الاعتماد البريطاني. وبالفعل تمّ توظيفه في عام 1930 للقيام بأعمال الترجمة. ولم يمضِ سوى عامين على ذلك إلا ويتم إرساله إلى مسقط للعمل بالمعتمدية البريطانية هناك في كتابة الرسائل وترجمتها. وفي مسقط، أمضى الزعابي خمس سنوات متواصلة من حياته، تماهى خلالها مع العادات والتقاليد العمانية واندمج أثناءها في البيئة العمانية التي استهوته كثيراً لدرجة أنه واظب على ارتداء الملابس والعمامة العمانية التقليدية. وخلال تلك السنوات عمل في أعمال أخرى، غير وظيفته الرسمية، ومنها العمل وسيطاً بين الإنجليز وسلطان عمان الأسبق السيد سعيد بن تيمور بن فيصل البوسعيدي (ت: 1972). أما أوقات فراغه في مسقط فكان يستغلها في دراسة القوانين والاتفاقيات وترجمتها، ما جعله خبيراً في أمور القضاء نظراً لعلاقة القضاء بتلك القوانين التي عكف على دراستها.
في عام 1937 عاد إلى الكويت، غير أن المقام لم يطل به، إذ سرعان ما استدعي في العام نفسه للعمل بدار المعتمدية البريطانية في المنامة، بعد أن تزايدت الأعمال الإدارية للمعتمدية ومراسلاتها الداخلية والخارجية في فترة ما بين الحربين العالميتين، خصوصاً أن أغلب كتاب ومترجمي المعتمدية وقتذاك كان من رعايا الهند البريطانية يساعدهم عدد قليل من الموظفين العرب.
اللغات.. طريقه للتجارة
يقول الصديق الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم، في كتابه «المنامة المدينة العربية: دراسة نقدية أنثروبولوجية»، الصادر عن مركز دراسات البحرين بجامعة البحرين عام 2015: «من نشاطات المُعتمد الأسبوعية بصفته قاضياً، النظر في القضايا ذات الصلة بالأجانب المقيمين بالبحرين في محكمة دار الاعتماد بالمُعتمدية، وكذلك الحضور مع حاكم البحرين، أو من ينوب عنه، في جلسات المحكمة المختلطة بمقرها في مبنى الحكومة وذلك للنظر في القضايا المختلطة بين الأجانب والبحرينيين». وهكذا يمكن القول إنه مع تزايد أعداد الأجانب من غير المسلمين المقيمين في البحرين كنتيجة لازدهار أعمال النفط، ازدادت أعمال محاكم المعتمدية زيادة تصاعدية، وهو ما فتح الطريق أمام الزعابي، بصفته ملماً بالقوانين ومطلعاً عليها، للعمل قاضياً بمحاكم المعتمدية حتى عام 1948، وهو العام الذي عاد فيه إلى الكويت، حيث راح يمارس أعمالاً تجارية حرة، ومنها تأسيسه لبعض الشركات التجارية الخاصة، التي باشر من خلالها مراسلة الشركات الأجنبية لاستيراد احتياجات السوق المحلي من مختلف البضائع، والتفاوض معها مباشرة مستخدماً إجادته للغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية. كما أسس الزعابي في هذه الفترة شركة للمقاولات والإنشاءات حصل من خلالها على مقاولة بناء مساكن لموظفي شركة نفط الكويت بمنطقة الأحمدي مع مرافقها المختلفة، وأخرى لبناء سكن لعمال الشركة بمنطقة الفحيحيل.
استقلال الكويت.. منعطف دبلوماسي للزعابي
كانت سنة 1961، التي نالت فيها الكويت استقلالها بمثابة منعطف جديد في حياة الزعابي. ففيها استدعاه ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح السالم الصباح بصفته وزيراً للخارجية، وفاتحه للعمل كسفير بسبب خبرته القانونية والإدارية وإجادته للغات الأجنبية. وقد استجاب الرجل لنداء الوطن فتم تعيينه بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 1961 سفيراً فوق العادة مفوضاً لدولة الكويت في طهران، وقدم أوراق اعتماده لشاه إيران في قصر كلستان عام 1962، فصار بذلك أول سفير كويتي معتمد لدى البلاط الشاهنشاهي، وسادس سفير كويتي من حيث الأقدمية. وخلال فترة مهمته الدبلوماسية في طهران، التي انتهت في الثالث والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1965، عمل على توثيق علاقات بلاده مع إيران التي توجت لاحقاً بأول زيارة رسمية للشاه محمد رضا بهلوي إلى الكويت عام 1968، وتسنى له الالتقاء بعدد كبير من زعماء الدول العربية والآسيوية والأفريقية والأوروبية الزائرين، كما تشهد الصور الفوتوغرافية العديدة التي نشرها الباحث عادل العبدالمغني في كتابه آنف الذكر.
محطته الدبلوماسية التالية بعد طهران كانت العاصمة السودانية الخرطوم، التي عين بها سفيراً ابتداء من شهر كانون الثاني/يناير 1966. ويبدو أن الرجل لم يطب له المقام في السودان فتقدم باستقالته في الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير 1967. وخلال عمله في الخرطوم انضم إلى الوفد الكويتي المشارك في القمة العربية الرابعة (قمة اللاءات الثلاث) برئاسة الأمير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح (ت: 1977)، التي عقدت هناك في الفترة ما بين التاسع والعشرين من آب/أغسطس والأول من أيلول/ سبتمبر 1967، لبحث آثار هزيمة حزيران/يونيو ودعم دول المواجهة.
في أعقاب استقالته من عمله الدبلوماسي، قرر الزعابي أن يتقاعد عن العمل فاختار بلدة حمانا اللبنانية الجميلة المطلة على وادي لامارتين على بعد 26 كلم شرق بيروت مقاماً دائماً له. وبالفعل عاش هناك سنوات جميلة من حياته، منشغلاً بممارسة هوايته في قراءة الكتب الأدبية والتاريخية، حتى سنة 1975، التي اندلعت فيها الحرب الأهلية اللبنانية، فاضطر لمغادرة لبنان مثلما فعل الكثيرون غيره. وهكذا عاد الرجل إلى الكويت سنة 1978 ليُتوفى على أرضها ووسط أهله وعشيرته في كانون الثاني/يناير من العام نفسه، مخلفاً وراءه سيرة عطرة والعديد من شهادات ودروع وأوسمة التكريم والتقدير.