زياد السالم لـ «عكاظ»: أنا ابن حضارات قديمة لا وريث خيمة
قال إن الناقد يشبه ذبابة تعرقل الحصان
Class="articledate">الجمعة 24 04 2023 02:41 / / / فبراير شعبان Class="articledate">الجمعة
الرباعي حاوره: Al_arobai@ علي
ترددتُ كثيراً في محاورة الشاعر المرهف زياد السالم، لمعرفتي بشخصيته، فهو شديد الحساسية، وعندما بعثت له بمحاور هذا اللقاء توقعتُ اعتذاره، كون الأسئلة لن تروق له، أو أنه يود أن يكون في منأى عن الصحافة والصحفيين، إلا أنه كان سخياً وهو يأخذنا في رحلة يتداخل فيها العام بالخاص، والذاتي بالموضوعي. وكعادته في إيمانه بالشفافية حضر بكامل أناقته، وهنا نص الحوار:
• كيف تسللت قصيدة النثر لبيت شعر تشتعل فيه نار الغضى وتصطف المعاميل؟
•• أنا وريث حضاراتٍ قديمة ولستُ وريثاً لبيت شعرٍ أو خيمة، أمّا الصحراء فقد شهدت ولادتي الثانية التي تحرّضني على مصافحة الطوفان بقلبٍ لا يرتجف، بين جبالها ووديانها كانت لي مسامراتٌ مع امرئ القيس والنابغة الذبياني والحارث بن حلّزة اليشكُري، بين أشجار العوسج وطلح الفتنة وشجيرات الحرمل قرأتُ فهرس الرمل المجنون ورتّبت للريح مقاماتها ومراتبها وتضاريسها المُشتهاة. سؤالك يمنحني فرصةً ممتازة لأعرّج على طفولتي التي كانت بين غابات النخيل وبساتين الزيتون والرمان، وأعشاش الطيور في مزاريب المنازل القديمة. أحلامي يحنو عليها الطينُ ويرحمها لأنّها لا تتحقّق أبداً. مدينتي دومة الجندل ضاربة جذورها في عمق التاريخ ومنها انتقل الخط العربي (خط الجزم) إلى مكة والحجاز قبل الإسلام بـ100 عام، لقد نقله بشر بن عبدالملك أخو أكيدر بن عبدالملك ملك دومة الجندل. وهنا لا بد من الإشارة إلى «سوق دومة الجندل» الذي يعدّ من أشهر أسواق العرب عبر التاريخ. أود القول: هناك مرجعيات وعناصر ومناخات كثيرة شكّلت تجربتي الأدبية، أنا أتحرّك في فضاء خصب يمتاز بالثراء والتنوّع، قد يحضر بيت الشعر ضمن هذه الفضاءات الشاسعة، لكن بالتأكيد ليس له حق الهيمنة والاستحواذ على فضاء المدينة التي أنتمي إليها. من جهة أخرى، لا يوجد تناقض بين قصيدة النثر وبيت الشعر، لأنها قصيدة رعويّة بامتياز، تقتحم وتزحزح وتحتل، صحيحٌ أنّها تُعنى بالتفاصيل الصغيرة والظلال الخافتة في فضاء المدينة، لكنّها في الوقت نفسه تعقدُ في الصحراء أعراساً سريّة ماكرة وملتبسة ومراوغة كالسراب. قصيدة النثر سلاحٌ حديث يناسب الغُزاة الذين ليس لديهم وقتٌ للالتفات، هؤلاء البدو الرُحّل الذين يدركون أنّ كلّ نظرةٍ في الصحراء هي نظرة وداع.
• ماذا عن إرهاصات البدايات؟
•• لا أستطيع الإشارة إلى هذه الإرهاصات ولا إلى بواكير التجربة لأنّي في حالة ولادة دائمة ومتجدّدة، أنا الشعاعُ الذي يشعلُ الغابةَ ويحوّلها إلى شظايا صغيرة، أنا طاقةٌ يسبحُ في محيطها شيطانٌ معتم لا يكترث بالسيرة والتاريخ، أنا ضوءٌ يصعبُ اصطيادُه، إذ لا بداية لي ولا نهاية.
• أي كتاب يسكن ذاكرتك الأولى؟
•• في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة كنتُ أقرأ كلّ كتابٍ يقع بين يدي (أتحدّث عن مكتبة البيت) غالباً في مجال الأدب والشعر القديم، وبعضها الآخر في علوم الدين والثقافة بشكل عام. خلال مرحلة الثانوية اكتشفت بالمصادفة جبران خليل جبران، إذ وجدتُ بعض أعماله في مكتبة صغيرة في مدينتي، كان جبران صوتاً غريباً يختلف عن الذين قرأتهم في المدرسة والبيت، تفتّحتُ وأنا كعود النعناع الغض على عواصف جبران! أعجبني وأحزنني واختطفني من نفسي، لم أخبر أحداً عنه كما لو كان كنزاً أو خطيئة. ارتشفتُ أشعاره ونصوصه مبكراً، كنتُ حين أغلق كتابه وأعودُ إلى الأهل والأصدقاء أشعرُ بالغربة كما لو كنتُ قادماً من رحلةٍ بعيدة. بعد ذلك قرأتُ بلذّةٍ وشغف مجلّدات «حكايات ألف ليلة وليلة» لقد وضعتها في صندوقٍ حديدي غير مستعمل فوق سطح منزلنا القديم، غالباً في الظهيرة والعصر أبحرُ مع هذه الحكايات الساحرة.
• ما أثر القرب الجغرافي من عواصم عربية على الوعي؟
•• هذا القرب الجغرافي خلق منّي كائناً متعدد الآفاق، وحفّزني لملامسة ممكناتٍ كثيرة، لم أزر العراق لكنّي التقيت بعض المثقفين العراقيين في عمّان ومن بينهم رئيس هيئة الدفاع عن الرئيس الراحل صدّام حسين (خليل الدليمي)، إذ وجّهتُ إليه دعوةً وديّة فزارني في الفندق الذي كنتُ أقيمُ فيه. سافرتُ كثيراً إلى عمّان ودمشق وبيروت أيضاً، ولأنّ بلاد الشام على مرمى حجر منّي فقد ساعدني هذا في أن أكون دائماً على رأس النبع، اغترفتُ من هذه الينابيع أسرارها وأسئلتها وكنوزها الغامضة، رحلاتي إلى عمّان ودمشق امتازت بطابعها الثقافي، اكتشفتُ روائع السينما البولنديّة والهنغارية والفرنسيّة داخل أكشاكٍ صغيرة (وسط البلد في عمّان) كذلك المكتبات العريقة في الأردن أعرفها أكثر من أهل البلد نفسه. لكنّني نادمٌ على تلك السنوات الطويلة التي ضاعت بين رفوف الكتب، أجمل سنوات عمري ذهبت هباءً منثوراً، ليتني انتهزتُ رحلاتي في سبيل المتعة والهوى! سأذكرُ شيئاً لا يخلو من دلالة، قبل 14 عاماً سافرت أنا وصديق عامي من أبناء البادية إلى الأردن، في أحد الأيام استيقظت مبكراً كي أذهب إلى مكتبة بعيدة، كان مستنكراً ما أفعل، قلت له ونحن نتحاور «أنا لم أسافر من أجل العبث، وإنما للبحث عن هذه الكتب التي تسخر منها!»، قال بابتسامةٍ ساخرة «لو تدري! العبثُ أفضل لك ألف مرّة من هذا الشقاء!»، بعد هذه السنوات الطويلة أقول: ليتني نذرتُ شبابي للعبث وفهمتُ مغزى الحياة كما فهمها هذا البدوي البسيط! وطالما أنّنا بصدده لا بأس من الإشارة إلى أنّه رافقني أيضاً إلى دمشق حين زرتُ الروائي الراحل عبدالرحمن منيف في شقّته بدمشق، لقد ابتهج منيف حين رآه ولمس فطرته الصافية، وأخبرنا منيف عن رحلاته إلى القريّات والجوف في مطلع شبابه. زبدة القول: ما أجمل أن يعيش المرءُ ويتسكّعُ كصعلوكٍ نبيل في مدن العالم.
• من هو صاحب الفضل على تجربتك؟
•• الفضلُ لله ثم لموهبتي، كنتُ باسلاً في الدفاع عن هذه الموهبة، لم أستسلم ولم أضعف، صقلتها بالقراءة الراسخة والاطّلاع المستمر والتضحيات الكثيرة التي برت العود وصنعت من أنين القصب نغمةَ نايٍ حزينة. لكن بطبيعة الحال هناك بعض الرفاق الذين كنتُ أتقاسمُ معهم هواجس التجربة ومنعطفاتها الجارحة، وقيمها الجمالية، هنا سأذكر المبدعين الذين اقتسمتُ معهم وهج الأشياء الجميلة: عبدالرحمن الدرعان، جارالله الحميد، عبدالله السفر، إلياس فركوح.. وإذا ما عدتُ بالذاكرة إلى الوراء سأذكر اسم الدكتور أحمد زلط (أستاذ جامعي من مصر) كان من أساتذتي أيّام الدراسة (قسم اللغة العربية)، شجّعني كثيراً وأكّد على تميّز موهبتي منذ البدء حتّى قبل أن أفارق الشرنقة.
• بماذا طبعتك البيئة القريبة من الصحراء؟
•• طبعتني على الشك والحذر والتوجّس، لقد اغترفتُ المكيدةَ من السّراب ملْء اليدين، لكنها طبعتني أيضاً على الكرم وفن الضيافة.
• لماذا قصيدة النثر عندنا مظلومة؟
•• هي مظلومةٌ في كل مكان، حتى في فرنسا، أجمل ما في قصيدة النثر هو افتقارها إلى الشرعيّة، فهذا يجعلها مهدّدة باستمرار، ممّا يجعلها كتابة محوٍ وريبةٍ وانقلاب، هي على الحافّة دائماً، لا استقرار معها ولا يقين.
• متى نشرت أول نص؟
•• في البدايات حين كنت طالباً نشرت بعض النصوص في «الملحق الأدبي.. صحيفة الجزيرة» ثم توقفت عن النشر بسبب مشاغل الدراسة، بعد سنوات عدتُ إلى نشر النصوص وكانت انطلاقتي الواسعة عبر صفحات الأدب والثقافة التي كان يحررها الروائي القدير يوسف المحيميد (مجلة اليمامة) يوسف إنسان صادق ومخلص للفن والجمال، وكان له الفضل أيضاً في تسليط الضوء على تجربتي، هو وصديقي الروائي الجميل فهد العتيق.
• هل تخليت عن ممارسة النقد تفادياً للصدام؟
•• ربما هو تشيخوف الذي قال «الناقد يشبه ذبابة الخيل التي تعرقل الحصان أثناء حراثة الأرض، فالحصان يعمل وكل عضلاته مشدودة كأوتار آلة الكونترباص أو الكمان الأجهر، فجأةً تنقضُّ الذبابةُ على ردف الحصان تطن وتخدشُ وتعرقل». الحس النقدي موجود لدي كما تفضلت لكنّي أنحاز إلى الخلق والإبداع أكثر، لن أهدر طاقتي في مجال ضيّق لا قيمة له، هنا تجدر الإشارة إلى أن الشعراء في مقارباتهم وتصوراتهم عن الشعر يتفوقون على أطروحات النقّاد، فالشاعر أكثر قدرة من الناقد في ملامسة الخفي الغامض، لقد وهبته الغابةُ أسرارها وكنوزها ومدخراتها الخفيّة، إنّه غوّاصٌ في صميم الباطن.
• ألا تثقل نصوصك بالتضمين الفلسفي؟
•• الشعر نفسه هو من حرّضني على الفلسفة، يجمعهما «فضاء الممكن» كما قال أرسطو. ولأنني كائنٌ مسكونٌ بأسئلة الوجود والعدم كنت أبحث وأستقصي وأقلّبُ الجواهر والوجوه والماهيّات. يجتذبني «الفلاسفة ما قبل السقراطيين مثل هيراقليطس» هؤلاء أصحابُ حدوسات ورؤى هائلة، في شذراتهم يتجلّى الدهرُ عبر ومضةٍ صغيرة كما هو حال نيتشه وسيوران. لقد حطّم نيتشه بمطرقته الفولاذيّة أيقونات وأصنام الأنساق الفلسفيّة الصارمة، ليس لأنّه فيلسوف وإنّما لأنّه شاعرٌ جبّار. هنا أستطيع القول: المنظومة المفاهيمية الراسخة تتزعزع من جذورها وتسقطُ بالكامل أمام صورةٍ شعريّة من مقام شفرات البرق وماء الليل وحبر النهار.
• ماذا عن المثاقفة مع المحيط العربي؟
•• التقيت أغلبهم في عواصم متعدّدة، كذلك في مهرجان الجنادرية ومعرض الكتاب. أمّا الذي كنت أراه باستمرار وأعدّه من رفاقي فهو الروائي والشاعر الراحل إلياس فركوح، لقد أحببت هذا الإنسان النقي الذي يسكن منطقة البياض، يمتلك بصيرةً فلسفية ولغةً مذهلة، حساسيته الجمالية قُدّت من مخملٍ ممتاز. كنّا نلتقي في عمّان كثيراً. في الآونة الأخيرة اعتزلت مجتمع الكتّاب والمثقفين ورجال الفكر، لأنّهم يميلون إلى تلميع ذواتهم، واللمعة تناسب الحذاء وليس الذات. يجب أن تكون الذاتُ حرّةً جميلةً متوحّشةً كأحراش الغابة البكر. أنا الآن أقضي أغلب وقتي في الصحراء بين الجبال وشجر الوعر وغدران المياه المتقشّفة.
• ما الذي جذبك للطرب الشعبي؟
•• قلتُ في تغريدةٍ قديمة: إنْ كانت هناك سيرة تستحق التدوين فهي سيرة مطربٍ شعبي، لأنّها سيرةٌ جارحة وحزينة بالضرورة. يشدُّني تشرّدهم ومكابداتهم وتضحياتهم في سبيل الفن، كأنّهم خُلِقوا للشقاء وحده، لقد نذروا أنفسهم للعراء والعذاب الأليم. يستهويني سماع أغاني الفنّان الراحل بدر الليمون وهو ابن منطقتي، تشكّلت بيننا صداقة قبل رحيله بسنوات قليلة، كذلك يستهويني صوت سلامة العبدالله، أيضاً لن أنسى الفنّان المرهف خالد عبدالرحمن الذي لعب دوراً كبيراً في تحديث الأغنية الشعبيّة. من جهةٍ أخرى، أنتمي بشكلٍ كامل إلى المجرّة الغنائية التي قام بتشكيلها طلال مدّاح، لكن ذائقتي لا تقف عند هؤلاء، إذ يطيب لي أن أبحرَ مع أغاني غجر إسبانيا. على صعيدٍ آخر، تأسرني سيمفونيات باخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي وآخرين.
• على ماذا تراهن وأنت في منتصف الطريق؟
•• منطلقات العقل النقدي الحر، رؤيتي متجذرة في قيم الحداثة، أراهن كثيراً على المستقبل وأرى أن الأمير المحبوب محمد بن سلمان صاحب مشروع نهضوي غير مسبوق، في عهده نالت المرأة حقوقها وحضرت بقوّة في فضاءاتٍ كثيرة، يقول ابن عربي «كل مكانٍ لا يؤنث لا يعوّل عليه». ومن ملامح هذا المشروع، ترسيخ الأفق القانوني وتعزيز التنمية بصورة شاملة، نحن نتجه إلى المستقبل بخطواتٍ واثقة ونموٍ متصاعد. أصبحت الدولةُ ذات فضاءٍ مدني يمتاز بالثراء والتعدّد والاختلاف.
• من تفقد؟ ومن تتمنى عودته؟
•• بصراحة لم أفتقد أحداً من الأصوات الشعريّة المحليّة ولا أُلحُّ على عودة أحد.
• كيف ترى قربك من فضاء يضم عبدالواحد الحميد، وعبدالرحمن الدرعان، وإبراهيم الحميد؟
•• فضاءٌ يعدُ بالجمال والفن والإبداع، الدكتور عبدالواحد الحميد أراه قليلاً لكنّه صوتٌ مضيء ورمزٌ مشرق في فضاء الوطن، وبالمناسبة دائماً يتحدّث الشعراء والكتّاب عن العصر الذهبي لصحيفة «اليوم» وملحقها الشهير، لكنّهم قلّما يشيرون إلى من منحهم هذا الأفق وهو رئيس تحريرها في ذلك الوقت أقصد عبدالواحد الحميد. أمّا الأديب عبدالرحمن الدرعان فهو صديقٌ نادر، يسكن روحي وبيننا هواجس وأسئلة مشتركة، نلتقي أسبوعيّاً، عبدالرحمن مبدع من طراز رفيع وهو من أجمل الأصوات ليس في المشهد المحلي وحسب، بل حتّى على المستوى العربي. أمّا الكاتب المتوهّج إبراهيم الحميد فهو صاحب بصمات مضيئة في المشهد الثقافي، أعتقد أن الفترة الذهبيّة الحاسمة لنادي الجوف الأدبي كانت خلال رئاسته للنادي، لقد انحدر النادي وتراجع كثيراً بعد رحيله، إبراهيم صاحب رؤية مختلفة ومواقف ثقافيّة تتسم بالشجاعة والإخلاص، أتمنى على وزارة الثقافة أن تستقطب هذا المثقف النبيل بحيث يعود مجدّداً إلى إدارة دفّة العمل الثقافي في إحدى المؤسسات الثقافية داخل منطقة الجوف.
• ماذا تقول عن صديقك عبدالسلام الحميد؟
•• عبدالسلام هو عرّاب الحراك الثقافي الذي شهده نادي حائل الأدبي، قاص جميل وصاحب كاريزما عالية، نتقاسم أنا وإيّاه محبّة قصائد ونصوص الأصدقاء.
• هل انتهت الرحلة؟
•• عينُ الإبرة مقامٌ واسعٌ كالبحر، لكنّ المترحّل لا يسعى لامتلاك شيء، فالأصلُ في التّرحال توطين النفس على كثرة المفقودات. هذا الزاهد المتجرّد يأخذه سهوٌ دائم وشرودٌ أبدي عمّا يحيط به من ساعاتٍ ومواعين. اختر أغنيةً لطريقك، فالرحلةُ موغلةٌ في البعد، وأنت لا تزال في بداية الطريق.
• كيف تسللت قصيدة النثر لبيت شعر تشتعل فيه نار الغضى وتصطف المعاميل؟
•• أنا وريث حضاراتٍ قديمة ولستُ وريثاً لبيت شعرٍ أو خيمة، أمّا الصحراء فقد شهدت ولادتي الثانية التي تحرّضني على مصافحة الطوفان بقلبٍ لا يرتجف، بين جبالها ووديانها كانت لي مسامراتٌ مع امرئ القيس والنابغة الذبياني والحارث بن حلّزة اليشكُري، بين أشجار العوسج وطلح الفتنة وشجيرات الحرمل قرأتُ فهرس الرمل المجنون ورتّبت للريح مقاماتها ومراتبها وتضاريسها المُشتهاة. سؤالك يمنحني فرصةً ممتازة لأعرّج على طفولتي التي كانت بين غابات النخيل وبساتين الزيتون والرمان، وأعشاش الطيور في مزاريب المنازل القديمة. أحلامي يحنو عليها الطينُ ويرحمها لأنّها لا تتحقّق أبداً. مدينتي دومة الجندل ضاربة جذورها في عمق التاريخ ومنها انتقل الخط العربي (خط الجزم) إلى مكة والحجاز قبل الإسلام بـ100 عام، لقد نقله بشر بن عبدالملك أخو أكيدر بن عبدالملك ملك دومة الجندل. وهنا لا بد من الإشارة إلى «سوق دومة الجندل» الذي يعدّ من أشهر أسواق العرب عبر التاريخ. أود القول: هناك مرجعيات وعناصر ومناخات كثيرة شكّلت تجربتي الأدبية، أنا أتحرّك في فضاء خصب يمتاز بالثراء والتنوّع، قد يحضر بيت الشعر ضمن هذه الفضاءات الشاسعة، لكن بالتأكيد ليس له حق الهيمنة والاستحواذ على فضاء المدينة التي أنتمي إليها. من جهة أخرى، لا يوجد تناقض بين قصيدة النثر وبيت الشعر، لأنها قصيدة رعويّة بامتياز، تقتحم وتزحزح وتحتل، صحيحٌ أنّها تُعنى بالتفاصيل الصغيرة والظلال الخافتة في فضاء المدينة، لكنّها في الوقت نفسه تعقدُ في الصحراء أعراساً سريّة ماكرة وملتبسة ومراوغة كالسراب. قصيدة النثر سلاحٌ حديث يناسب الغُزاة الذين ليس لديهم وقتٌ للالتفات، هؤلاء البدو الرُحّل الذين يدركون أنّ كلّ نظرةٍ في الصحراء هي نظرة وداع.
• ماذا عن إرهاصات البدايات؟
•• لا أستطيع الإشارة إلى هذه الإرهاصات ولا إلى بواكير التجربة لأنّي في حالة ولادة دائمة ومتجدّدة، أنا الشعاعُ الذي يشعلُ الغابةَ ويحوّلها إلى شظايا صغيرة، أنا طاقةٌ يسبحُ في محيطها شيطانٌ معتم لا يكترث بالسيرة والتاريخ، أنا ضوءٌ يصعبُ اصطيادُه، إذ لا بداية لي ولا نهاية.
• أي كتاب يسكن ذاكرتك الأولى؟
•• في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة كنتُ أقرأ كلّ كتابٍ يقع بين يدي (أتحدّث عن مكتبة البيت) غالباً في مجال الأدب والشعر القديم، وبعضها الآخر في علوم الدين والثقافة بشكل عام. خلال مرحلة الثانوية اكتشفت بالمصادفة جبران خليل جبران، إذ وجدتُ بعض أعماله في مكتبة صغيرة في مدينتي، كان جبران صوتاً غريباً يختلف عن الذين قرأتهم في المدرسة والبيت، تفتّحتُ وأنا كعود النعناع الغض على عواصف جبران! أعجبني وأحزنني واختطفني من نفسي، لم أخبر أحداً عنه كما لو كان كنزاً أو خطيئة. ارتشفتُ أشعاره ونصوصه مبكراً، كنتُ حين أغلق كتابه وأعودُ إلى الأهل والأصدقاء أشعرُ بالغربة كما لو كنتُ قادماً من رحلةٍ بعيدة. بعد ذلك قرأتُ بلذّةٍ وشغف مجلّدات «حكايات ألف ليلة وليلة» لقد وضعتها في صندوقٍ حديدي غير مستعمل فوق سطح منزلنا القديم، غالباً في الظهيرة والعصر أبحرُ مع هذه الحكايات الساحرة.
• ما أثر القرب الجغرافي من عواصم عربية على الوعي؟
•• هذا القرب الجغرافي خلق منّي كائناً متعدد الآفاق، وحفّزني لملامسة ممكناتٍ كثيرة، لم أزر العراق لكنّي التقيت بعض المثقفين العراقيين في عمّان ومن بينهم رئيس هيئة الدفاع عن الرئيس الراحل صدّام حسين (خليل الدليمي)، إذ وجّهتُ إليه دعوةً وديّة فزارني في الفندق الذي كنتُ أقيمُ فيه. سافرتُ كثيراً إلى عمّان ودمشق وبيروت أيضاً، ولأنّ بلاد الشام على مرمى حجر منّي فقد ساعدني هذا في أن أكون دائماً على رأس النبع، اغترفتُ من هذه الينابيع أسرارها وأسئلتها وكنوزها الغامضة، رحلاتي إلى عمّان ودمشق امتازت بطابعها الثقافي، اكتشفتُ روائع السينما البولنديّة والهنغارية والفرنسيّة داخل أكشاكٍ صغيرة (وسط البلد في عمّان) كذلك المكتبات العريقة في الأردن أعرفها أكثر من أهل البلد نفسه. لكنّني نادمٌ على تلك السنوات الطويلة التي ضاعت بين رفوف الكتب، أجمل سنوات عمري ذهبت هباءً منثوراً، ليتني انتهزتُ رحلاتي في سبيل المتعة والهوى! سأذكرُ شيئاً لا يخلو من دلالة، قبل 14 عاماً سافرت أنا وصديق عامي من أبناء البادية إلى الأردن، في أحد الأيام استيقظت مبكراً كي أذهب إلى مكتبة بعيدة، كان مستنكراً ما أفعل، قلت له ونحن نتحاور «أنا لم أسافر من أجل العبث، وإنما للبحث عن هذه الكتب التي تسخر منها!»، قال بابتسامةٍ ساخرة «لو تدري! العبثُ أفضل لك ألف مرّة من هذا الشقاء!»، بعد هذه السنوات الطويلة أقول: ليتني نذرتُ شبابي للعبث وفهمتُ مغزى الحياة كما فهمها هذا البدوي البسيط! وطالما أنّنا بصدده لا بأس من الإشارة إلى أنّه رافقني أيضاً إلى دمشق حين زرتُ الروائي الراحل عبدالرحمن منيف في شقّته بدمشق، لقد ابتهج منيف حين رآه ولمس فطرته الصافية، وأخبرنا منيف عن رحلاته إلى القريّات والجوف في مطلع شبابه. زبدة القول: ما أجمل أن يعيش المرءُ ويتسكّعُ كصعلوكٍ نبيل في مدن العالم.
• من هو صاحب الفضل على تجربتك؟
•• الفضلُ لله ثم لموهبتي، كنتُ باسلاً في الدفاع عن هذه الموهبة، لم أستسلم ولم أضعف، صقلتها بالقراءة الراسخة والاطّلاع المستمر والتضحيات الكثيرة التي برت العود وصنعت من أنين القصب نغمةَ نايٍ حزينة. لكن بطبيعة الحال هناك بعض الرفاق الذين كنتُ أتقاسمُ معهم هواجس التجربة ومنعطفاتها الجارحة، وقيمها الجمالية، هنا سأذكر المبدعين الذين اقتسمتُ معهم وهج الأشياء الجميلة: عبدالرحمن الدرعان، جارالله الحميد، عبدالله السفر، إلياس فركوح.. وإذا ما عدتُ بالذاكرة إلى الوراء سأذكر اسم الدكتور أحمد زلط (أستاذ جامعي من مصر) كان من أساتذتي أيّام الدراسة (قسم اللغة العربية)، شجّعني كثيراً وأكّد على تميّز موهبتي منذ البدء حتّى قبل أن أفارق الشرنقة.
• بماذا طبعتك البيئة القريبة من الصحراء؟
•• طبعتني على الشك والحذر والتوجّس، لقد اغترفتُ المكيدةَ من السّراب ملْء اليدين، لكنها طبعتني أيضاً على الكرم وفن الضيافة.
• لماذا قصيدة النثر عندنا مظلومة؟
•• هي مظلومةٌ في كل مكان، حتى في فرنسا، أجمل ما في قصيدة النثر هو افتقارها إلى الشرعيّة، فهذا يجعلها مهدّدة باستمرار، ممّا يجعلها كتابة محوٍ وريبةٍ وانقلاب، هي على الحافّة دائماً، لا استقرار معها ولا يقين.
• متى نشرت أول نص؟
•• في البدايات حين كنت طالباً نشرت بعض النصوص في «الملحق الأدبي.. صحيفة الجزيرة» ثم توقفت عن النشر بسبب مشاغل الدراسة، بعد سنوات عدتُ إلى نشر النصوص وكانت انطلاقتي الواسعة عبر صفحات الأدب والثقافة التي كان يحررها الروائي القدير يوسف المحيميد (مجلة اليمامة) يوسف إنسان صادق ومخلص للفن والجمال، وكان له الفضل أيضاً في تسليط الضوء على تجربتي، هو وصديقي الروائي الجميل فهد العتيق.
• هل تخليت عن ممارسة النقد تفادياً للصدام؟
•• ربما هو تشيخوف الذي قال «الناقد يشبه ذبابة الخيل التي تعرقل الحصان أثناء حراثة الأرض، فالحصان يعمل وكل عضلاته مشدودة كأوتار آلة الكونترباص أو الكمان الأجهر، فجأةً تنقضُّ الذبابةُ على ردف الحصان تطن وتخدشُ وتعرقل». الحس النقدي موجود لدي كما تفضلت لكنّي أنحاز إلى الخلق والإبداع أكثر، لن أهدر طاقتي في مجال ضيّق لا قيمة له، هنا تجدر الإشارة إلى أن الشعراء في مقارباتهم وتصوراتهم عن الشعر يتفوقون على أطروحات النقّاد، فالشاعر أكثر قدرة من الناقد في ملامسة الخفي الغامض، لقد وهبته الغابةُ أسرارها وكنوزها ومدخراتها الخفيّة، إنّه غوّاصٌ في صميم الباطن.
• ألا تثقل نصوصك بالتضمين الفلسفي؟
•• الشعر نفسه هو من حرّضني على الفلسفة، يجمعهما «فضاء الممكن» كما قال أرسطو. ولأنني كائنٌ مسكونٌ بأسئلة الوجود والعدم كنت أبحث وأستقصي وأقلّبُ الجواهر والوجوه والماهيّات. يجتذبني «الفلاسفة ما قبل السقراطيين مثل هيراقليطس» هؤلاء أصحابُ حدوسات ورؤى هائلة، في شذراتهم يتجلّى الدهرُ عبر ومضةٍ صغيرة كما هو حال نيتشه وسيوران. لقد حطّم نيتشه بمطرقته الفولاذيّة أيقونات وأصنام الأنساق الفلسفيّة الصارمة، ليس لأنّه فيلسوف وإنّما لأنّه شاعرٌ جبّار. هنا أستطيع القول: المنظومة المفاهيمية الراسخة تتزعزع من جذورها وتسقطُ بالكامل أمام صورةٍ شعريّة من مقام شفرات البرق وماء الليل وحبر النهار.
• ماذا عن المثاقفة مع المحيط العربي؟
•• التقيت أغلبهم في عواصم متعدّدة، كذلك في مهرجان الجنادرية ومعرض الكتاب. أمّا الذي كنت أراه باستمرار وأعدّه من رفاقي فهو الروائي والشاعر الراحل إلياس فركوح، لقد أحببت هذا الإنسان النقي الذي يسكن منطقة البياض، يمتلك بصيرةً فلسفية ولغةً مذهلة، حساسيته الجمالية قُدّت من مخملٍ ممتاز. كنّا نلتقي في عمّان كثيراً. في الآونة الأخيرة اعتزلت مجتمع الكتّاب والمثقفين ورجال الفكر، لأنّهم يميلون إلى تلميع ذواتهم، واللمعة تناسب الحذاء وليس الذات. يجب أن تكون الذاتُ حرّةً جميلةً متوحّشةً كأحراش الغابة البكر. أنا الآن أقضي أغلب وقتي في الصحراء بين الجبال وشجر الوعر وغدران المياه المتقشّفة.
• ما الذي جذبك للطرب الشعبي؟
•• قلتُ في تغريدةٍ قديمة: إنْ كانت هناك سيرة تستحق التدوين فهي سيرة مطربٍ شعبي، لأنّها سيرةٌ جارحة وحزينة بالضرورة. يشدُّني تشرّدهم ومكابداتهم وتضحياتهم في سبيل الفن، كأنّهم خُلِقوا للشقاء وحده، لقد نذروا أنفسهم للعراء والعذاب الأليم. يستهويني سماع أغاني الفنّان الراحل بدر الليمون وهو ابن منطقتي، تشكّلت بيننا صداقة قبل رحيله بسنوات قليلة، كذلك يستهويني صوت سلامة العبدالله، أيضاً لن أنسى الفنّان المرهف خالد عبدالرحمن الذي لعب دوراً كبيراً في تحديث الأغنية الشعبيّة. من جهةٍ أخرى، أنتمي بشكلٍ كامل إلى المجرّة الغنائية التي قام بتشكيلها طلال مدّاح، لكن ذائقتي لا تقف عند هؤلاء، إذ يطيب لي أن أبحرَ مع أغاني غجر إسبانيا. على صعيدٍ آخر، تأسرني سيمفونيات باخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي وآخرين.
• على ماذا تراهن وأنت في منتصف الطريق؟
•• منطلقات العقل النقدي الحر، رؤيتي متجذرة في قيم الحداثة، أراهن كثيراً على المستقبل وأرى أن الأمير المحبوب محمد بن سلمان صاحب مشروع نهضوي غير مسبوق، في عهده نالت المرأة حقوقها وحضرت بقوّة في فضاءاتٍ كثيرة، يقول ابن عربي «كل مكانٍ لا يؤنث لا يعوّل عليه». ومن ملامح هذا المشروع، ترسيخ الأفق القانوني وتعزيز التنمية بصورة شاملة، نحن نتجه إلى المستقبل بخطواتٍ واثقة ونموٍ متصاعد. أصبحت الدولةُ ذات فضاءٍ مدني يمتاز بالثراء والتعدّد والاختلاف.
• من تفقد؟ ومن تتمنى عودته؟
•• بصراحة لم أفتقد أحداً من الأصوات الشعريّة المحليّة ولا أُلحُّ على عودة أحد.
• كيف ترى قربك من فضاء يضم عبدالواحد الحميد، وعبدالرحمن الدرعان، وإبراهيم الحميد؟
•• فضاءٌ يعدُ بالجمال والفن والإبداع، الدكتور عبدالواحد الحميد أراه قليلاً لكنّه صوتٌ مضيء ورمزٌ مشرق في فضاء الوطن، وبالمناسبة دائماً يتحدّث الشعراء والكتّاب عن العصر الذهبي لصحيفة «اليوم» وملحقها الشهير، لكنّهم قلّما يشيرون إلى من منحهم هذا الأفق وهو رئيس تحريرها في ذلك الوقت أقصد عبدالواحد الحميد. أمّا الأديب عبدالرحمن الدرعان فهو صديقٌ نادر، يسكن روحي وبيننا هواجس وأسئلة مشتركة، نلتقي أسبوعيّاً، عبدالرحمن مبدع من طراز رفيع وهو من أجمل الأصوات ليس في المشهد المحلي وحسب، بل حتّى على المستوى العربي. أمّا الكاتب المتوهّج إبراهيم الحميد فهو صاحب بصمات مضيئة في المشهد الثقافي، أعتقد أن الفترة الذهبيّة الحاسمة لنادي الجوف الأدبي كانت خلال رئاسته للنادي، لقد انحدر النادي وتراجع كثيراً بعد رحيله، إبراهيم صاحب رؤية مختلفة ومواقف ثقافيّة تتسم بالشجاعة والإخلاص، أتمنى على وزارة الثقافة أن تستقطب هذا المثقف النبيل بحيث يعود مجدّداً إلى إدارة دفّة العمل الثقافي في إحدى المؤسسات الثقافية داخل منطقة الجوف.
• ماذا تقول عن صديقك عبدالسلام الحميد؟
•• عبدالسلام هو عرّاب الحراك الثقافي الذي شهده نادي حائل الأدبي، قاص جميل وصاحب كاريزما عالية، نتقاسم أنا وإيّاه محبّة قصائد ونصوص الأصدقاء.
• هل انتهت الرحلة؟
•• عينُ الإبرة مقامٌ واسعٌ كالبحر، لكنّ المترحّل لا يسعى لامتلاك شيء، فالأصلُ في التّرحال توطين النفس على كثرة المفقودات. هذا الزاهد المتجرّد يأخذه سهوٌ دائم وشرودٌ أبدي عمّا يحيط به من ساعاتٍ ومواعين. اختر أغنيةً لطريقك، فالرحلةُ موغلةٌ في البعد، وأنت لا تزال في بداية الطريق.