ثقافة وفن

نجران.. قيمة راسخة وثقافة مشعة بروح المحبة والسلام

01:17 Class="articledate">الجمعة محرم / 1444

محمد آل صبيح

آل صبيح محمد

تُخبئ الشعوب كنوز روحها عميقاً من تاريخها وحضارتها وإرثها الثقافي، وفي ما تبدعه من ثقافة وفنون، وبهذا تعتبر الثقافة والفنون ذاكرة جمعية.

وإذا أردت أن تتعرف على المجتمع، استمع لغنائه وما تبوح به أشعاره وأساطيره وقصص أسلافه، وأمعن النظر في آثاره وتراثه ومسرحه ورقصاته، وتأمل مجسماته، وأعماله التشكيلية والفوتوغرافية، هناك تخبئ الأمة كنوز روحها وتقرأها حتى في طقوس دورات الحياة.

فالمجتمع يتعرف على نفسه حين يطالع صورته في مرآة ما ينتج من منجزات، ويتعرف العالم عليه وعلى ما يميزه عن غيره من المجتمعات عبر إبداعاته، لذا فإن كل عبور نهضوي للمجتمع، ينبغي أن يمر عبر جسور الثقافة والفنون، على هذا النحو فهي ليست مجرد حلى للزينة، وإن كانت هي التي تضفي الجمال على الحياة، وهي ليست مجرد آليات للترفيه، وإن كانت هي التي تفتح آفاقاً للتحرر من أسر رتابة الحياة اليومية، إنها رافعة نهضوية، حين تكون طاقة تستنهض الهمم نحو البناء.

إن الثقافة والفنون إذا نظرنا إليها بعين شاملة، فهي البوابة التي تمر عبرها أفكارنا، ومشاريعنا التنموية بانسجام، أغلبنا يعرف هذا على نحو نظري ومعرفي، بهذه الدرجة أو تلك، أو بهذا المستوى أو ذاك من التعمق، إلا أن تجربة واقعية وحقيقية، أكدت لي بشكل عملي وجسّدت هذا المفهوم، على نحو يثير الدهشة والإعجاب، خلال زيارة منطقة نجران برفقة نخبة من المثقفين، حيث أثارت الزيارة ذهولنا لما شاهدناه من ثقافة شاملة.

قبل أن تهبط الطائرة التي تقلنا كانت مشاهد السحاب من نافذة الطائرة توحي بصور مذهلة تستدعي قصيدة الأمير خالد الفيصل: شمس العصر فوق السحابة توهج والمزن من زاهي ذهبها تتوج ذاب الذهب فوق السحاب وتموج سبحان مـن شكل سمانا بالأمثال مطار نجران بوابة حضارية وعنوان للتطور الذي تشهده، وبعيداً عن المقارنات، كان مكتمل الخدمات، وغاية في الأناقة، والجمال، في كل زواياه في الممرات وفي صالة الاستقبال، الابتسامة وحدها ترتسم على وجوه الناس، ونبض قلوبهم يتغنى بأبيات الشاعر عبدالله عبيان: هلا وارحب هلا يا سيدي ماجور ويش الحال تحية لابة دونك تسوم ارواحها غيره هنا يتجلى بكل وضوح مفهوم الثقافة من خلال السلوك الإنساني ولسان الحال يردد خُذ ما تراهُ ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل نسير في طرقات المدينة التي تفيض ترحيباً، وعطراً، تصحبنا الجبال بقلاعها الشامخة، ونقوشها العتيقة، والأودية بشجرها ونخيلها المثمرة، والمنازل الحديثة الفسيحة كشاهد حال على النهضة الحضارية.

على ضفاف وادي نجران، توقفنا في مدينة الأخدود، واستمعنا لشرح المرشدين الذين تحدثوا عن تاريخها، ومحتوياتها، وشاهدنا النقوش المختلفة، والأشجار المعمرة داخل الأخدود، كانت رهبة المكان مع الغروب والشمس تلقي بظلالها علينا، مع بعض الهمس من الروائي عبده خال، والدكتور حمود أبو طالب، ومصمم الأزياء يحيى البشري، غير أن الإعلامي الشاعر سعد زهير بدد ذلك الشعور، وهو يستحضر قصيدة مع الشاعر سليمان المانع: إن خانوا الناس ما خانتني التربة والعز نبته مصادرها من بلادي في حين كان الإعلامي صبري باجسير، وحسن الناهسي، يمارسان هواية التصوير والتوثيق.

ومن ضفاف الوادي، صعودا إلى جبل العان، لزيارة قصر سعدان الأثري ومشاهدة نجران، من على قمة القصر، وقفنا نستنشق نسيم الحضارة، مع هبوب الرياح المبشرة بالمطر والراية الخضراء ترفرف عالياً، في صورة امتزج فيها الماضي بالحاضر.

وفي ظل هذه المصافحة الحارة، والحفاوة البالغة، تطل ابتسامة أمين أمانة نجران، المهندس صالح الغامدي، كعلامة فارقة للمسؤول المثقف، الذي يعمل بإستراتيجية تطوير متسارعة، استقبلنا في منتزه الملك فهد، بغابة سقام، وهذا المنتزه حكاية لم تروَ بكل تفاصيلها بعد. يمتد المنتزه على مساحة شاسعة من المسطحات الخضراء، ويحتوي على الأشجار المعمرة، والأزهار والورود، والمجسمات والأعمال الفنية، إضافة إلى المسارات الرياضية للمشي، وركوب الدراجات، والألعاب، ونوافير المياه، وغيرها من الخدمات، ليصبح وجهة سياحية تلبي أهداف برنامج جودة الحياة، وفي مسار مبادرة السعودية الخضراء التي أطلقها سمو ولي العهد.

مجالس أهل نجران عبارة عن حواضن إبداعية، تحتضن كل المكونات الثقافية، بمختلف المشارب، وتُشكِّل بانسجام وحدة تغذي الشعور بالانتماء، وتزيد اللحمة الوطنية قوة على قوة، وقد لمسنا تلك الروح المفعمة بالحيوية بصحبة واجهة نجران الإعلامية والثقافية، الأستاذ عبدالله آل هتيلة والقامة الفاعلة اللواء متقاعد قناص اليامي والإعلامي القدير علي اليامي والشاعر مهدي بن سداح والأستاذ بدر آل لعجم والأستاذ مبارك اليامي، ووقف بنا المسير على أنهار الكرم والجود مجالس (آل عامر وآل منجم وآل منصور وآل العوف).

لقد حددت لنا رؤية المملكة 2030 بوصلة الاتجاه الذي نسير عليه، كما حددت الإطار الذي نتحرك فيه، بقولها: «إن أرضنا عُرفت – على مرّ التاريخ – بحضاراتها العريقة وطرقها التجارية التي ربطت حضارات العالم بعضها ببعض، مما أكسبها تنوعاً وعمقاً ثقافياً فريداً. ولذلك، سنحافظ على هويتنا الوطنية ونبرزها ونعرّف بها، وننقلها إلى أجيالنا القادمة، وذلك من خلال غرس المبادئ والقيم الوطنية، والعناية بالتنشئة الاجتماعية واللغة العربية، وإقامة المتاحف والفعاليات وتنظيم الأنشطة المعزّزة لهذا الجانب»، إن تحقيق تطلعات الرؤية العظيمة، وأهداف برنامج جودة الحياة من خلال تنفيذ خطط التنمية على أرض الواقع، يتطلب مسؤولين يتدرعون بالوطنية، متكئين على روح الإرادة، وعمق الثقافة، وسعة الوعي، واستشراف المستقبل، وصاحب السمو الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد، جمع كل تلك الخصال مع هيبته، وتواضعه، فقد لمسنا محبة الناس لسموه من سيل كلمات الثناء، والتقدير، والإشادة بجهوده وتواصله مع الجميع في الأفراح، والأتراح، وقيادته الحكيمة لعجلة التنمية في المنطقة، وكما يقال من رأى ليس كمن سمع فقد التقينا سموه في حفل افتتاح الصرح الحضاري (مركز الفعاليات والمؤتمرات) وتشرفنا بحضور مجلسه العامر باللحمة الوطنية، والمتأمل، في تلك العلاقة التي تجمعه بالحضور، يجدها علاقة إنسانية، مبنية على الاحترام والتقدير، استمع لبعض المواطنين وطلباتهم وكان تعامله راقياً، وحديثه شافياً، وفي كلمته الشاملة، تطرق للثقافة والفنون ودورها في ترسيخ القيم، وتوجيهه بتجميل المنطقة بأعمال فنية، ومجسمات تعبر عن هوية المكان، بينما كان حديثه على مأدبة الغداء عن أهمية الحفاظ على التراث المادي، واللا مادي، في رسالة تؤكد أن هاجسه الأول الذي لا يكف ولا يملّ من العمل عليه هو تحقيق التنمية الشاملة المستدامة المعبرة عن الهوية، إن إتقان الأعمال والنجاح في تجسيد الأفكار على أرض الواقع، ليست ضربة حظ، ولا تحدث عشوائياً، وإنما هي نتيجة تفكير واقعي عميق وسديد، وتخطيط مدروس متقن، وتنفيذ احترافي، وهي تتنزل من أعلى هرم القيادة إلى مستويات التنفيذ الميداني، وهذا ما كان وراء هذا التطور الذي تشهده نجران، نعم سيبقى مجلس الأمير ومجالس المواطنين وجهين لعملة الولاء والانتماء، وستبقى كلمات سموه تضيء دروبنا، وستبقى نجران الإنسان والمكان عامرة بالقيم والثقافة والفنون، مشعة بروح المحبة والسلام.