ثقافة وفن

محمد جميح لـ«عكاظ»: هربتُ من نكد القصيدة إلى جحيم السياسة

02:26 شعبان / هـ / Class="articledate">الجمعة 2022 / 08

محمد جميح متحدثاً لـ عكاظ.

علي حاوره: الرباعيal_arobai@

لعل إحدى خصائص الحوار الفاعل تقاطع شخصية الضيف مع مضيفه، ومندوب اليمن لدى اليونسكو الدكتور محمد جميح؛ أحد أبناء مديرية حريب بمحافظة مأرب اليمنية. ولد في بيئة ريفية بسيطة، أقرب ما تكون إلى البداوة، وتفتّح ذهنه على لون الرمل الذي لا يبرح الذاكرة في مواسم الأمطار، مطرزاً بالأزهار البرية التي تعطي للمكان عبقاً يشبه عبق الأماكن السحرية في كتب الأساطير الشعبية، لا تزال البيئة تفترش مساحات واسعة في أعماقه رغم مرور أعوام عدة عليه؛ متنقلاً بين ضفاف التايمز والسين وأنهار كتالونيا وغيرها. رعى غنم أهله وعقد صداقات مع بعض الحيوانات، وانحاز للقطط ضد الكلاب، وللعصافير ذات الألوان المختلفة الزاهية ضد الغراب الفاحم. لم يخلُ من ميل للشغب -نوعاً ما- والدخول في عراك مستمر يبدأ مزاحاً خفيفاً وينتهي حقيقياً عنيفاً، وعلى عادة صبيان الأرياف في الانقسام إلى فريقين لتبدأ «الحرب» بالحجارة التي كانت تصيب من رؤوسهم ما تشاء أيادي الرماة، غير أنه في بدايات الشباب بدأ يلجم رغبة العراك، برصانة الرجل، مع احتفاظه في داخله بذلك البدوي الصغير الذي بدأ يتعرف إلى القصيدة، فكتب الشعر باكراً، وبه عرفه قراء صحف الثورة والجمهورية و26 سبتمبر وغيرها من الصحف ذات الملاحق الثقافية في بلاده، وشارك في المهرجانات والفعاليات الشعرية في اليمن وخارجها، وظل الشعر اهتمامه الأول، إلى أن أدخلته المصادفة إلى عالم السياسة، فقال؛ أجربها هرباً من «نكد الشعر» الذي حدّثه عنه الأصمعي ذات تاريخ، دون أن يخبره أن السياسة أشد جحيماً ونكداً وأضيق سبيلاً.

في صنعاء درس في الجامعة، بقسم اللغة العربية وآدابها، ثم نال الماجستير عن رسالته «توالد البنى وتوليد الدلالة في سيفيات المتنبي»، وفي صنعاء لقي شعراء يمنيين وعرباً، وجلس إلى البردوني وحضر أماسيه، غير أنه تبتل في محراب العارف الكبير والشاعر المفكر الدكتور عبدالعزيز المقالح، الذي كان ولا يزال له أباً روحياً تأثر به في كثير من قصائده وتوجهاته النقدية والأدبية.

وفي صنعاء، كان أدونيس ومحمود درويش وأمجد ناصر وعلي جعفر العلاق، وكان جابر عصفور وعزالدين إسماعيل وكمال أبوديب وحاتم الصقر وصبحي حديدي، كانوا يأتون إلى مقيل الدكتور المقالح الذي يحضره عدد كبير من الأسماء التي لقي بعضها في المقيل والبعض على صفحات كتب اقتناها وشكلت مزاجه النفسي ومدياته الذهنية على مدى عقود، قبل أن يسافر لدراسة الدكتوراه في المملكة المتحدة في حقل ترجمة النصوص.

كتب المقال السياسي الذي أبعده عن القصيدة وأجوائها إلا من بعض زورات لها في الليالي المكتنزة بشيء من الحس والخيال المحلق.

وفي لندن عمل في عدد من الصحف، قبل أن ينتقل للعمل سفيراً ومندوباً دائماً لليمن لدى منظمة اليونسكو. التقيناه في «عكاظ» فكان هذا الحوار:

• ما أكثر ما يشغلك باعتبارك مندوب اليمن في منظمة اليونسكو؟

•• نعمل حالياً مع فريق من علماء الآثار والخبراء الدوليين على إعداد ومتابعة ملف آثار مملكة سبأ في محافظة مأرب لتكون ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ولدينا كذلك ملف «الدان الحضرمي» كتراث لا مادي. ونحاول مع بعض المانحين وبالتنسيق مع اليونسكو حماية مواقع التراث العالمي في اليمن، سواء المادي أو الطبيعي، وهناك مشاريع ترميمات تجري في كل من صنعاء القديمة وزبيد التاريخية وشبام حضرموت وكذا في عدن. كما نعمل على توفير دعم لمشاريع حماية بعض المواقع التراثية في مناطق مختلفة.

وهناك ملفات عربية مشتركة يتم الاشتغال عليها، بعضها تم تسجيله والبعض ينتظر، وقد تم في اجتماع لجنة التراث العالمي الأخير اعتماد فن «الخط العربي» ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، وهو ملف مشترك عملت عليه عدة دول عربية -من ضمنها اليمن- وتولت المملكة العربية السعودية تقديم الملف، كما نعمل مع عدد من الدول الشقيقة على إعداد ملف «النقش على المعادن» ضمن التراث غير المادي، ومن المقرر أن نتقدم به خلال الفترة القصيرة المقبلة ليكون ضمن قائمة اليونسكو، وغير ذلك من الملفات والمشاريع العربية المشتركة.

ناهيك عن التنسيق لبعض البرامج في مجالات التربية والتعليم في اليمن، وبعض الدعم الفني، وهناك أفكار تناقش حول دعوة لدعم العملية التعليمية في البلاد، في مجالات التدريب والتأهيل وبناء القدرات وإعادة تأهيل الأطفال المجندين في الحرب من قبل المليشيات، وإعادة تأهيل المدارس، وبرامج أخرى تدعمها الأمم المتحدة حول توظيف التعليم في نشر ثقافة السلام، عدا عن مشاريع صغيرة مخصصة لدعم الصحفيين والفنانين الشباب.

• كيف ترى واقع الآثار في اليمن؟

•• يعاني قطاع الآثار في البلاد من علل كثيرة، يعاني من الإهمال وسرقة الآثار وتهريبها ويعاني من العوامل البيئية ومن التطور العمراني الذي يزحف نحوها دون اعتبار لخصوصياتها التاريخية والتراثية، ناهيك عن ظروف الصراع، وسيطرة مليشيات الحوثي التي يصف مؤسسها آثار البلاد بأنها تنتمي إلى حضارات وثنية، ساخراً من أعمدة معابد السبئيين ومن بقايا آثار مأرب.

ومع ظروف الحرب ارتخت القبضة الأمنية ونشطت سرقة وتهريب الآثار، واشتغل بها لصوص وسماسرة آثار، حيث خرجت آلاف القطع خلال السنوات الأخيرة وبيع الكثير منها، وتم عرض بعضها في صالات عرض في باريس وواشنطن ونيويورك.

وقد قمنا في المندوبية بإخطار بعض الدول بوجود بعض القطع على أراضيها، والتواصل مستمر لتوثيق هذه القطع كمرحلة أولى قبل أن تتم استعادتها في مراحل قد تأخذ فترات طويلة.

• بماذا ترد على من ينعت دور المندوبين برفع اليد وهز الرأس؟

•• هناك بعض الأمور يتلقى المندوب تعليماته من الحكومة ويسير وفقاً لها، مثل الترشيحات والتصويت والمصادقة على الاتفاقيات، وهو هنا ملزم بأن ينفذ ما يصله من تعليمات حكومية، لكن المساحة الأكبر من عمل السفراء المندوبين فيها مجال واسع للتصرف وفقاً لمقتضيات العمل، وهنا نتحدث عن طرح الأفكار ومتابعة المشاريع والنقاشات المستفيضة حول القضايا المختلفة واللقاءات الثنائية والإسهام في صياغة السياسات الثقافية والتربوية وغير ذلك.

يصعب على المندوب أن يكتفي برفع اليد وهز الرأس إذا كان يحمل فكرة وهدفاً ورؤية، فكيف إذا كان المندوب يرفع الحرف ويهز جذع القصيدة؟

• لماذا لا يشكل المندوبون العرب والمسلمون لوبياً لخدمة مشاريعهم الثقافية باعتمادها وتمويلها؟

•• لدينا في نطاق أعمالنا في اليونسكو مجموعات تنتظم الدول الأعضاء ضمنها، والمجموعة العربية إحدى هذه المجموعات، وسوف يرأس اليمن عمل هذه المجموعة لفترة عام مقبل ابتداء من بداية الشهر المقبل.

ونحن في إطار المجموعة العربية لدينا اجتماعات دورية واجتماعات لما يطرأ من أحداث وأعمال، ويتم التنسيق في كثير من القضايا، مع الاحتفاظ ببعض التباينات التي تفرضها الرؤى والسياسات المختلفة لكل دولة عربية في إطار المجموعة. وأعتقد أن المجموعة العربية في اليونسكو من أكثر المجموعات انسجاماً، كون معظم جداول أعمالها تدور حول قضايا تربوية وثقافية وعلمية متخففة من القيود السياسية التي تقيد عمل مجموعات عربية أخرى ضمن هيئات ومنظمات الأمم المتحدة التي تعد اليونسكو واحدة منها.

وبطبيعة الحال هناك مجموعة للدول الإسلامية، لكن الدول الإسلامية بشكل عام مقسمة حسب المجموعات الجغرافية التي تنتمي إليها.

ومن ضمن أهم عوامل الانسجام في مجموعتنا العربية وجود مندوبية للجامعة العربية، وهذه تسهم في تقريب وجهات النظر، في إطار المجموعة، كما أن وجود مندوبية للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) يسهم في تذليل الكثير من الصعوبات، وكما أسلفت فإن من أهم عوامل الانسجام أننا نعمل في أجواء ثقافية وتعليمية متخففة إلى حد ما من الحسابات السياسية التي غالباً ما يأتي منها الاختلاف في التوجهات والآراء والسياسات.

• متى يمكن أن نلمس جهود اليونسكو في تحجيم الخلافات وتعزيز أوجه التعاون ونبذ الكراهية والعنف؟

•• اليونسكو هي منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، وتأسست عام 1945، وتهتم بتطوير الحياة التربوية والثقافية والعلمية بما يخدم أهداف السلام والتعايش والديمقراطية والتنمية المستدامة، وشعار اليونسكو الحالي يقول: «لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام»، وتسعى المنظمة عن طريق وسائل غير سياسية لبث روح التفاهم والتركيز على المشتركات الإنسانية والعناية بالثقافة في أبعادها العالمية، كوسيلة من وسائل إحلال السلام ومكافحة العنف والتطرف والحروب.

لكن اليونسكو لا تملك سلطة إلزامية على الدول الأعضاء، ولا تستطيع بشكل مباشر إيقاف الحروب وفض النزاعات بشكل مباشر.

• أين تكمن أزمة الثقافة العربية؟

•• هذا سؤال لا يمكنني الإجابة عنه بما أتيح من إمكانات المساحة المتاحة والحيز الزمني والإدراك المفاهيمي، وكتب في الإجابة عن هذا السؤال كبار فلاسفة العرب في العصر الحديث مؤلفات وسلاسل موسوعية كثيرة، ولذا من الصعب ضغط البحر في قارورة -على حد تعبير نزار قباني- لكن الاكتفاء ببعض العناوين العريضة يمكن أن يلقي بعض الضوء على بعض الزوايا.

وبالنسبة لي أعتقد أن أهم الإشكالات التي نواجهها في الحقل الثقافي هو تحديد ماهية الفعل الثقافي، أو ما هي الثقافة، حيث يسود قدر من الضبابية حول هذا المفهوم الذي يلتبس لدى البعض بالدين تارة وبالآيديولوجيا تارة أخرى، وبالتاريخ والتراث والمخرجات التربوية لدى الكثير من الناس.

لدينا في هذه المنطقة من العالم خلط بين الثقافة والآيديولوجيا، وهو ما أتاح الفرصة للسياسي للتحكم في الثقافي عن طريق سلطة «المثقف المؤدلج»، الذي يتصرف بشعور أو لا شعور لخدمة أجندات سياسية لا ثقافية ولا دينية.

كما أن واحدة من أهم مشكلات الثقافة العربية اليوم أنها لا تهتم بالإنسان في تطلعاته نحو قيم الحرية والعدالة والمساواة، ثقافتنا المتأثرة بأنماط سلوك اجتماعي ترجع إلى مرحلة ما قبل الانتقال من طور القبيلة، هذه الثقافة ربما تعمل على سحق الإنسان الفرد لصالح «المجموع السياسي أو الآيديولوجي»، ولهذا السبب -ربما- لم نحقق ما نصبو إليه من تحولات كبرى حققها أجدادنا القدامى الذين فهموا الدين والثقافة والسياسة فهماً سليماً، وفق شروط السلامة المكانية والزمانية، وكانت نتيجة هذا الفهم واحدة من أهم الحضارات الإنسانية في العالم.

غير أن هذا التواصل الحضاري والثقافي لم يكتب له الاستمرار بفعل الانقطاع الذي تسببت به منظومات سياسية وفقهية لاحقة لم تستمر في التوجهات التي أسس لها الرعيل الأول من المثقفين والمفكرين والفلاسفة والعلماء والشعراء والكتاب الذين كانوا وراء تأسيس الحواضر الكبرى في مكة والمدينة وبغداد ودمشق وقرطبة والقاهرة والقيروان ومراكش، وغيرها من مراكز الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسيطة، ثم جاء الاستعمار وأحدث نوعاً من «الرجة الثقافية» التي لم تستثمر في بناء ثقافة متماسكة قدر ما كرس واقع «الانقطاع الثقافي»، ودخلنا في صراع القديم والحديث والأصالة والمعاصرة، وهو الصراع الذي لا يزال مستمراً بأشكال وأساليب مختلفة إلى يومنا هذا.

هذا الانقطاع أدى إلى نوع مما يمكن أن يشبه «فقدان الذاكرة» بفعل تطاول العهد، وهو ما أدى إلى جملة من الالتباسات في المفاهيم انعكست سلباً على ثقافتنا العربية.

ولا ينبغي -كذلك- أن نغفل هنا عن حقيقة ضعف أداء المؤسسات الثقافية المعاصرة -رسمياً ومجتمعياً- الأمر الذي أدى إلى تراجع الأصوات الثقافية وانصراف الكثيرين عن الاشتغال على الفعل الثقافي إلى أفعال أخرى سياسية وآيديولوجية، ربما كانت فوائدها أنجع من غيرها.

ويمكن كذلك الحديث عن تلك المؤسسات التربوية المتهالكة التي لم تخرج بعد عن «ثقافة التلقين»، والتي تقتل في المخرجات روح الفعل الثقافي المبدع، وتساعد على انتشار ما بات يعرف بـ«الأمية الثقافية»، وأجيال من «أنصاف المتعلمين» من حملة الشهادات الجامعية بل والعليا في أحيان كثيرة.

• هل تتسع رؤية المثقف العربي إذا خرج من وطنه بحيث يستطيع تشخيص علل مجتمعه العربي؟

•• لا شك أن خروج المثقف العربي إلى فضاء أوسع عالمياً يتيح له فرصة مراقبة المشهد عن بُعد، الأمر الذي يمكنه من بعض التشخيص، لكنه في الوقت نفسه يفقده -مع الزمن- القدرة على رؤية بعض التفاصيل الدقيقة والتحولات البطيئة التي قد يتسبب البعد «الجغرافي والذهني والعاطفي» في حجبها عنه.

ووجدت لدينا نماذج لمثقفين عرب تمكنوا بالمهجر من الانفتاح على الفضاء الأرحب، كما وجدت نماذج لآخرين ولدت المسافة الجغرافية لديهم بعداً شعورياً عن واقعهم العربي، وأصبحوا ينظرون إلى المشهد بعيون جديدة لا ترى كثيراً من التفاصيل.