الشنطي لـ«عكاظ»: الحداثة ظاهرة لا مشروع لها
عمل في المملكة 47 عاما وأنجز 15 كتاباً عن الأدب السعودي
الثاني ربيع Class="articledate">الجمعة الجمعة 01:25 21 1443 /
حاوره: علي الرباعيal_arobai@
تتميز شخصية أستاذ النقد الدكتور محمد صالح الشنطي، بخصائص فذة، قلّ ما توفّرت في منجز قامة ثقافية، إذ أنجز ما يفوق 40 مؤلفاً، وكتبه مقررة على طلاب الأدب في الجامعات العربية والسعودية، منها: الأدب القديم، والأدب الحديث، والأدب السعودي، والأدب الإسلامي، والنقد الحديث، والنحو والتطبيقات النحوية والصرفية، وأدب الطفل، ويظل محتفظاً بسمت العلماء، وأدب الوجهاء، وتواضع الشرفاء، وصفاء الأنقياء، ويسعدنا أن تتاح له مساحة لتوثيق سيرة عمل وإبداع في المملكة قاربت نصف قرن.. وهنا نص الحوار:
• كيف ترى المشهد الثقافي السعودي؟
•• فيما يتعلق بالمشهد الثقافي السعودي وتطوّره في نصف القرن الأخير فشتان بين البدايات وما نشهده الآن؛ فعلى الرغم من ثرائه وتنوّعه وأصالته منذ أن استقرت الأمور إثر بسط سلطان الدولة على أرجائها الواسعة وتنوّع فنونها واتجاهاتها، شهدت هذه الربوع تحوّلات كبرى استندت على رؤىً متكاملة ذات صلة بالأسس الإسلاميّة المصفّاة من مظاهر الغلو والشطط، ووفّرت مناخاً مناسباً للشعر في تشكّله الإحيائي المرتبط بالمفاهيم العقدية، إذ نهض بمهمة إرساء القواعد والأسس بعيداً عن المحظورات، فكان ثمة بذور تتنامى على مهل لتستنبت الفنون الحديثة في المسرح والقصّة والوقوف على مشارف التجديد في الشعر، ساعد على ذلك جملة من العوامل لا يتسع المجال لذكرها؛ ولكن ما يلفت الانتباه هو الطّفرة الثقافية التي حدثت موازيةً للطفرة الاقتصادية في سبعينيّات القرن الماضي، وما رافقها من تغيّر في البنية الاجتماعية؛ إذ ظهرت شرائح جديدة وبدت تضاريسها ومعالمها تشهد تحوّلات جذريّة، وقد شهدت حوارات صاخبة حول الحداثة والفنون الأدبية الجديدة، فنجم عن التسارع في إيقاع التطوّر ما تمخض عنه ما يشبه الهِزّة التي انتابت التقاليد المأثورة في الثقافة السائدة؛ الأمر الذي أدى إلى الجدل الصاخب حول الحداثة وما أحدثته من شروخ لتعدد زوايا النظر إليها من مواقع فكرية متعددة، وكان للصحافة الثقافية والأندية الأدبية والمؤسسات المدنية الأخرى أثر كبير -فضلا عن دخول الجامعات إلى ساحة الحوار عبر من استقطبتهم من أعلام أدبية وأكاديمية مؤثرة، وعبر عودة المبتعثين من الخارج وما أحدثته الطفرة من تحولات- أسهم في احتدام الجدل حول العديد من المسائل الثقافية، ولعل ما كتبه الدكتور الغذامي في كتابه (حكاية الحداثة) وما أحدثه من ردود عبر مؤلفات ومقالات وتعقيبات من لدن عددٍ من النقاد، مثل حسين بافقيه ومحمد العباس والسريحي وشاكر النابلسي، وغيرهم وما تناوله الباحثون في ملتقى قراءة النص في نادي جدة الثقافي، الذي خصص دورة كاملة من سلسلة دوراته السنويّة لحقبة الثمانينيات الميلادية، وشاركتُ فيها بدراسة متواضعة تحت عنوان (هوامش على متن المرحلة).
أما المشهد الثقافي الآن فهو حافل بالحوارات والرؤى والاتجاهات الأدبية والدراسات والقراءات النقدية والملتقيات والندوات والمؤتمرات العلمية والمسابقات والجوائز ومئات المبدعين من شعراء وروائيين وكتاب قصة قصيرة وقصيرة جدا وبحوث أكاديمية وفق مناهج نقدية متنوعة، وتضاعف عدد الجامعات والنوادي الثقافية، وأصبح من العسير متابعة الإصدارات والندوات والمحافل الثقافية والمجامع اللغوية الافتراضية وغير الافتراضية؛ وبالتالي فإن المملكة تفيض بمبدعيها وكتابها وباحثيها وأعلامها على من حولها في الوطن العربي ولا أبالغ إذا قلت وربما في العالم أيضا.
• أي الأسماء راهنت على تميزها ولم تخذل رهانك؟
•• كثيرة هي الأسماء التي لم يخب ظني فيها واعذرني إذا اعتذرت عن ذكرها لسببين الأول: ربما خانتني الذاكرة فنسيت من هم جديرون بالذكر، والثاني: لما قد يجري تأويله من ذكر بعض الأسماء وما تثيره من حساسيات قمين بي أن أتجنبها.
• كم دراسة وورقة عمل قدمتها عن المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، وماذا تشكل من نشاطك في البحث والتأليف؟
•• ليس من عادتي أن أدلّ بإنجازاتي، وأوراق العمل والبحوث التي قدمتها عن المشهد الثقافي، أراها -يشهد الله- متواضعة وقليلة ولا تلبي طموحاتي ولا ما أتمناه، ولكني قمت بتأليف كتب عدة بدأتها بمتابعات أدبية وكتابين عن القصة القصيرة وكتابين عن الرواية وثلاثة كتب عن الشعر ومجلدين في النقد أي اثني عشر كتاباً عن الأدب في المملكة العربية السعودية، وثمة كتب ثلاثة في الشعر والسرد تنتظر النشر أي حوالي خمسة عشر كتابا، ودراسات ومقالات ومحاضرات عن المشهد الثقافي لا أذكر عددها وذلك من مجموع ما ألفت من كتب يصل عددها إلى أكثر من ثلاثة وأربعين كتابا، وأترك تقييم ذلك كله لغيري انصياعاً لأمر الخالق جل وعلا (فلا تزكوا أنفسكم).
• بماذا تفاديت نقمة خصوم الحداثة؟
•• تفاديت هجوم خصوم الحداثة بموقف رأيته يمثّل الاعتدال والوسطيّة، ولا أعني بذلك إمساك العصا من الوسط؛ فإن ذلك مثلبة انتهازية تجعل صاحبها متذبذباً، لا إلى هؤلاء ولا أولئك (إذا الريح مالت مال حيث تميل)، وأبرأ إلى الله من هذا الموقف الجبان المنافق، وإنما أعني بالوسطيّة؛ الاستقامة على منهج الاعتدال، فلا أسدر في غيّ الخصومة ولا أتعصب لموقفي؛ بل أبتغي الحقيقة كما أتوقع أن تكون، فرأيي كما هو مأثور (صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) فأنا لست مع الجمود والتكلّس؛ بل مع التجديد والتطوير وشعاري (الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها) لهذا كنت معنياً بالتجديد ونتاجات الجيل الجديد من الشباب، على ألّا يكون فيها مساس بثوابت الدين والأخلاق، وقد التقيت ببعض رموز التيار الآخر؛ الذي أسميه التيار المحافظ، وأذكر أن ذلك كان في وقت مبكر في أواخر الثمانينيات، وكنت مدعوّا بوصفي ناقدا لأمسية قصصية؛ أقامها نادي جازان الأدبي، وأعتقد أن من التقيتهم كانوا يظنون أن ناقد الأمسية أحد رموز الحداثة في ذلك الوقت (وأعتذر عن تسميتهم) ففوجئوا بأنني ليس من جاءوا من أجله، ودار بيني وبينهم حوار طويل بدا لي أنهم قد اقتنعوا بما أبديته من آراء، وذلك قبل أن يصدر كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) بقليل، وكانت الأمسية للروائي المعروف عبده خال وكان من بين الحضور الناقد عبد الله نور (رحمه الله) وكنت أعتمد الحوار الهادئ وأقف ضد الشطط والغلو وأنظر إلى الحداثة من زاويتها الجمالية، وأرى أنها في الحياة العامة موقف حضاري ضد التكلس والجمود تسعي إلى التطور (وليس للإنسان إلا ما سعى) ولذلك كنت على صلة طيبة بمختلف الاتجاهات، وكنت أتلقّى الدعوات منهم للمشاركة في فعاليات منبرية ولا أتردد في تلبية أي دعوة .
• هل حققت الحداثة مشروعها في المملكة؟
•• كثير مما نشر بعد عقد الثمانينيات الميلادية من كتب تقارب موضوع الحداثة في المملكة، وفي كثير منها إشارات إلى أن الحداثة لم تحقق شيئاً، إذ لم يكن لها مشروع أصلاً، وأن الحداثة لم تُفهم على حقيقتها، والواقع أنه كان ينظر إليها من زوايا مختلفة؛ فالبعض عدّها حركة جذرية راديكالية تنهض على القطيعة بين ما قبلها وبينها، وأنها من هذه الزاوية ظلّت معنيّة بالتجديد الجزئي الذي لا يشمل الموقف الفنّي الجمالي برُمّته، وإنما قامت على التلفيق بين ظواهر حداثيّة ودمجها في سياق تقليدي، والبعض الآخر عمد إلى أدلجتها من زاوية فكرية تؤصّل لرؤية جديدة كليّة لا تعتدّ بالماضي وتنحو منحى تغريبياً ذات اليمين وذات اليسار، ولهذا نُظر إليها خارج سياقها التاريخي؛ بينما يفترض أن يقع أي تقييم ضمن شروطها التاريخيّة وسياقها العربي والإسلامي دون غلوّ، فهي تحوّل طبيعي إلى مرحلة جديدة تواكب نموّ المجتمعات والثقافات والتماسّ الحضاري مع الآخر، كما حدث في العصور العباسية أن تعالقت الثقافة العربية مع ثقافات الأمم الأخرى، وتنامت العلوم العربية الإنسانيّة فقُعّدت القواعد وأُصّلت الأصول، وظهرت العلوم بأنساقها ممنهجةً ومنظّمةً ومرتّبة، وظهرت علوم مصطلح الحديث وعلوم القرآن الكريم وعلوم النحو والبلاغة، وظهر ما يشبه النظرية النقدية من خلال عمود الشعر ونظرية النظم وما إلى ذلك، ثم تنامت فيما بعد لدى الفلاسفة النّقاد والبلاغيين من أصحاب المذاهب وما إلى ذلك؛ فالحداثة من هذا المنظور ظاهرة ثقافيّة تاريخيّة حضارية، ولعلّها حقّقت ما يمكن أن ينظر إليه على أنه إنجاز؛ فقد أرست دعائم حركة شعرية جديدة بجمالياتها المتنوعة وشعريّتها المتميّزة، وحركة روائيّة على قدم المساواة، وربما فاقت نظيراتها في الوطن العربي، ففازت بالبوكر أكثر من مرة، وكذلك في مجالات السرد الأخرى، ونمت حركة نقدية مبهرة تعدّدت مشاربها ومناهجها واتجاهاتها، وتمخّضت الجامعات والمراكز البحثية العلمية عن حراك واسع النطاق.
• ما أبرز الفنون المتبوّئة للصدارة محليّاً وعربيّاً؟
•• أبرز الفنون التي تتبوأ مكانة الصدارة فهي -بلا شك- فن الرواية، والفنون السردية بعامة التي لا تقتصر على النثر؛ بل تتخذ منحىّ فنّيّاً يتغلغل في الفنون الأخرى، فهو الأقدر على التقاط الظواهر المتكاثرة والأحداث المتسارعة وتوظيفها عبر رؤى تخترق البنية السطحية الظاهرة وتلامس أغوارها، وتشفّ عمّا هو مسكوت عنه، أو مستتر في بنيتها العميقة؛ والرواية التي يرى الكثير من النقاد أنها مجمع الفنون ومختبر الثقافات والأنواع الأكثر قدرة ومرونة على استيعاب الواقع بالغ التعقيد الذي يعيشه الإنسان المعاصر بمعضلاته وإشكالياته المتعددة، وتياراته وأيديولوجياته التي بدت مطواعة لمصالح الليبراليين الجدد وصناع العولمة، والصراع على مناطق النفوذ والاقتصاديات المتنامية عبر رؤى اقتصادية جديدة، ودخول لاعبين جدد منافسين للقوة الاقتصادية الكبرى في العالم، واصطناع مختلف الوسائل مشروعة وغير مشروعة لتحقيق أهدافهم، فضلاً عما انتاب خريطة العالم جغرافيّاً وجيولوجيّاً وسياسيّاً من تغيير، وما أسفرت عنه الفوضى المصطنعة وركوب موجات الغضب الجماهيري من قبل فئات مغرضة، وانتشار الإرهاب وتوظيفه لصالح القوى المتنفذة في العالم. واستطاعت الرواية التي لم تعد مقصورة على الروائيين؛ بل خاض غمارها الشعراء والأكاديميون والنقاد، وأحرز بعضهم فيها تفوقاً ظاهراً؛ إذ نجد شاعراً مشهوراً في حجم غازي القصيبي (رحمه الله) شكّل منعطفاً هاماً في تاريخ الرواية في المملكة العربية السعودية، وهذه الظاهرة التي تحدثت عنها حول شيوع الإبداع الروائي في أوساط الشعراء لها نظائر في كثير من البلدان العربية؛ ففي الأردن هناك إبراهيم نصر الله الذي نهض بدور شبيه بالدور الذي قام به القصيبي؛ الأمر الذي يدل على أن الرواية تتصدّر الأنواع الأدبية، ولهذا لاحظنا وفرةً في الكتب النقديّة النظريّة والتطبيقيّة التي صدرت في الحقبة الأخيرة، وربما كان من أقوى الإشارات على ذلك ما نلحظه في معارض الكتب من رواج للأعمال الروائية.
• أين تقع الفنون القولية في ظل تغوّل البصري ؟
•• تغوّل البصري ظلّ رديفاً للفنون القوليّة يعزّز دلالاتها، ويكمل بنيتها الرؤيويّة ؛ ولم تكن الصورة ولا التشكيل بالرسم يوماً بديلاً عن القول، لا في السينما ولا في التلفاز؛ اللهم إلا في الفنون التشكيلية الخالصة؛ ولعل كتاب الدكتور عبد الله الغذامي عن الثقافة التلفزيونية من أكثر الكتب التي لفتت الانتباه إلى بروز هذا اللون التعبيري، ولكن الصورة وحدها من منظوراتها المختلفة لم تستطع أن تقلل من مكانة الفنون القولية أو تطغى عليها؛ بل ظلت على هامشها تردفها فحسب، وحتى تشكيل الكتابة في الفراغات البيضاء في الدواوين الشعرية وغيرها ظلت تنهض بهذه المهمة دون أن تتحوّل إلى المركز، وهذا شيء طبيعي، وعلى الرغم من ظهور الفنون الأدبية التفاعليّة فإن البصريات لم تطغ على الكتابة.
• متى تستعيد الثقافة الصلبة مكانتها؟
•• الثقافة الصلبة تعبير موفق، ولكن صلابة أي ثقافة أو هلاميتها منوطة بأهلها وبتراثها وبمواهب القائمين عليها والمنتجة لها، وكانت هذه الثقافة الراسخة بمقوماتها وتراثها ونبضها ماثلة لم تتزحزح عن مكانتها؛ ولكن الطّفرة الإعلاميّة كان لها أثرها في الترويج لأعمال هشّة تقدمت عليها مدعومة بأصحاب المصالح ومن قبل الفاسدين الذين هيمن بعضهم على منابر الثقافة في الوطن العربي؛ ولعل الكثيرين منّا يذكرون كيف غادرت كوكبة من كبار الأدباء والمثقفين والأكاديميين في مصر (أرض الكنانة) إلى دول الخليج وكثير من العواصم الأوروبية المركزيّة ومارسوا إبداعاتهم فيها بعيداً عن الأجواء الاستهلاكية الخانقة التي أتى بها عصر الانفتاح فهي لم تتقهقر؛ بل بحثت عن ملاذات آمنة تكفل لها حرية الإبداع بعيداً عن جشع المتغوّلين والفاسدين الذي نجم وجودهم عن التحولات الكبرى في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
• لماذا زحزحت مواقع التواصل الاجتماعي النخبويّة؟
•• مواقع التواصل والنخبوية مسألة جدلية، ومصطلح النخبوية متعدّد الدلالات، فهو يبدو في هذا السياق دالّا على أصحاب الثقافة الرفيعة من مبدعين ونقاد وإعلاميين، وانطلاقاً من هذا المفهوم تبدو مواقع التواصل محدودة الأثر فإنها لم تستطع أن تجعل من أدعياء الأدب والثقافة رموزاً، فضلا عن أنها لم تستطع أن تحجب إبداعات المتميّزين، وربما أغرقت ساحاتها الخاصة بتوافه الأمور والبحث عن أدوار مدّعاة هنا أو هناك؛ ولكن الشمس لا تحجب بغربال؛ فقد ظل للثقافة منابرها الرصينة وبيئاتها الجادّة وأعلامها المتميزون، فمواقع التواصل مازالت ميداناً مفتوحاً لكلّ من هبّ ودب، ومن يلتمس الثقافة يجدها في مظانها الرئيسة.
•هل غدت الثقافة نشاطاً فرديّاً؟
•• الثقافة متعدّدة المصادر ومتنوعة المفاهيم، ولاشك أن الإبداع له طابعه المتفرّد؛ ولكن الثقافة فعالية جماعيّة؛ فلكل أمة هُويّتها الثقافيّة المتميّزة؛ وقد يطغى عليها أحياناً الطابع العولمي، ولكنه لا يستطيع أن يمحو سماتها الخاصة المميّزة، ولذلك نرى دراسات جادّة تصنّف ثقافات الشعوب وفق ما يطغى عليها من سمات؛ والثقافة ذات مستويات متعددة: الثقافة الخاصة بالذات المفردة، والثقافة المؤسّسيّة والثقافة المجتمعيّة التي تجعل لكل شعب أو أمة ثقافتها المتميزة.
• ماذا تبقى من ذكريات حائل والمملكة؟
•• هي باقية في وعيي ووجداني؛ فقد قضيت الشطر الأكبر من حياتي في المملكة وفي حائل وحدها ربع قرن، وفي تبوك أربع عشرة سنة، وفي المدينة المنوّرة ما يقرب من سبع سنوات، فكيف يمكن أن ينسى المرء هذا التاريخ الطويل من حياته، ففي تبوك كنت شابا في الثانية والعشرين عملت في ثانوية تبوك منذ عام 1968 إثر تخرجي من جامعة القاهرة إلى عام 1982م، فاستقلت من التدريس لإتمام أطروحة الدكتوراه في جامعة القاهرة أيضا، وعملت منذ عام 1984م، في كلية المعلمين في حائل وفي الجامعة العربية المفتوحة متعاوناً ومع كلية المجتمع أيضاً إلى عام 2006م، وقضيتُ عاما مديرا للتعليم بالوكالة في مدارس حائل النموذجية ومتعاوناً مع الجامعة العربية المفتوحة، ثم عدت أستاذاً زائرا في كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إلى عام 2021م، وأمضيت ثمانية أعوام في جامعة جدارا في إربد رئيسا لقسم اللغة العربية ثم عميدا لكلية الدراسات الأدبية واللغوية ثم عميدا للبحث العلمي والدراسات العليا ثم عميدا لكلية الآداب من عام 2006 إلى عام 2014. فما قضيته في الأردن من مدة زمنية لا يزيد عن 20% من المدة التي قضيتها في المملكة العربية السعودية، وولد جميع أبنائي وبناتي فيها وفي كنف رعاية كريمة من أهلٍ أُصلاء شهامةً ونخوةٍ ومودةً، فكيف أنسى هذا التاريخ الطويل، فهو مناط اعتزازي وتقديري، وسأظل وفيّا للمملكة ما حييت مهما نأى بي المكان.
• ما مدى رضاك عن تكريمك في المملكة بانتهاء فترة عملك؟
•• كلّ الرضا والامتنان، إذ وجدتُ كلّ تقدير واحترام ومحبة من لدن كل من عملت معهم، وعقب انتهاء عملي تم تكريمي من وزير الثقافة آنذاك إياد مدني، وفي اثنينية عبد المقصود خوجة والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في الرياض، ونادي جدة الثقافي بجدة وكل النوادي الأدبية وثلوثية السيف وكلية المعلمين وكل الهيئات والمؤسسات الثقافية، وجريدة الجزيرة التي أصدرت ملحقا خاصا لتكريمي، فلهم مني جميعا كل الوفاء والمحبة والاعتراف بالجميل.
•كلمة أخيرة لكم؟
••لك ولجريدة «عكاظ» الغراء إدارة ورئيسا للتحرير ومحررين كل التحية والتقدير. جريدة (عكاظ الغراء) التي كانت الثقافة وما زالت في مقدمة اهتماماتها، وظلّت الصفحات الثقافية فيها منبراً للحراك الأدبي على مدى عقود؛ وكان لي شرف الإطلالة من خلالها على المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، والإسهام المتواضع في نشر قراءاتي النقديّة على صفحاتها في ثمانينيّات القرن الماضي.
• كيف ترى المشهد الثقافي السعودي؟
•• فيما يتعلق بالمشهد الثقافي السعودي وتطوّره في نصف القرن الأخير فشتان بين البدايات وما نشهده الآن؛ فعلى الرغم من ثرائه وتنوّعه وأصالته منذ أن استقرت الأمور إثر بسط سلطان الدولة على أرجائها الواسعة وتنوّع فنونها واتجاهاتها، شهدت هذه الربوع تحوّلات كبرى استندت على رؤىً متكاملة ذات صلة بالأسس الإسلاميّة المصفّاة من مظاهر الغلو والشطط، ووفّرت مناخاً مناسباً للشعر في تشكّله الإحيائي المرتبط بالمفاهيم العقدية، إذ نهض بمهمة إرساء القواعد والأسس بعيداً عن المحظورات، فكان ثمة بذور تتنامى على مهل لتستنبت الفنون الحديثة في المسرح والقصّة والوقوف على مشارف التجديد في الشعر، ساعد على ذلك جملة من العوامل لا يتسع المجال لذكرها؛ ولكن ما يلفت الانتباه هو الطّفرة الثقافية التي حدثت موازيةً للطفرة الاقتصادية في سبعينيّات القرن الماضي، وما رافقها من تغيّر في البنية الاجتماعية؛ إذ ظهرت شرائح جديدة وبدت تضاريسها ومعالمها تشهد تحوّلات جذريّة، وقد شهدت حوارات صاخبة حول الحداثة والفنون الأدبية الجديدة، فنجم عن التسارع في إيقاع التطوّر ما تمخض عنه ما يشبه الهِزّة التي انتابت التقاليد المأثورة في الثقافة السائدة؛ الأمر الذي أدى إلى الجدل الصاخب حول الحداثة وما أحدثته من شروخ لتعدد زوايا النظر إليها من مواقع فكرية متعددة، وكان للصحافة الثقافية والأندية الأدبية والمؤسسات المدنية الأخرى أثر كبير -فضلا عن دخول الجامعات إلى ساحة الحوار عبر من استقطبتهم من أعلام أدبية وأكاديمية مؤثرة، وعبر عودة المبتعثين من الخارج وما أحدثته الطفرة من تحولات- أسهم في احتدام الجدل حول العديد من المسائل الثقافية، ولعل ما كتبه الدكتور الغذامي في كتابه (حكاية الحداثة) وما أحدثه من ردود عبر مؤلفات ومقالات وتعقيبات من لدن عددٍ من النقاد، مثل حسين بافقيه ومحمد العباس والسريحي وشاكر النابلسي، وغيرهم وما تناوله الباحثون في ملتقى قراءة النص في نادي جدة الثقافي، الذي خصص دورة كاملة من سلسلة دوراته السنويّة لحقبة الثمانينيات الميلادية، وشاركتُ فيها بدراسة متواضعة تحت عنوان (هوامش على متن المرحلة).
أما المشهد الثقافي الآن فهو حافل بالحوارات والرؤى والاتجاهات الأدبية والدراسات والقراءات النقدية والملتقيات والندوات والمؤتمرات العلمية والمسابقات والجوائز ومئات المبدعين من شعراء وروائيين وكتاب قصة قصيرة وقصيرة جدا وبحوث أكاديمية وفق مناهج نقدية متنوعة، وتضاعف عدد الجامعات والنوادي الثقافية، وأصبح من العسير متابعة الإصدارات والندوات والمحافل الثقافية والمجامع اللغوية الافتراضية وغير الافتراضية؛ وبالتالي فإن المملكة تفيض بمبدعيها وكتابها وباحثيها وأعلامها على من حولها في الوطن العربي ولا أبالغ إذا قلت وربما في العالم أيضا.
• أي الأسماء راهنت على تميزها ولم تخذل رهانك؟
•• كثيرة هي الأسماء التي لم يخب ظني فيها واعذرني إذا اعتذرت عن ذكرها لسببين الأول: ربما خانتني الذاكرة فنسيت من هم جديرون بالذكر، والثاني: لما قد يجري تأويله من ذكر بعض الأسماء وما تثيره من حساسيات قمين بي أن أتجنبها.
• كم دراسة وورقة عمل قدمتها عن المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، وماذا تشكل من نشاطك في البحث والتأليف؟
•• ليس من عادتي أن أدلّ بإنجازاتي، وأوراق العمل والبحوث التي قدمتها عن المشهد الثقافي، أراها -يشهد الله- متواضعة وقليلة ولا تلبي طموحاتي ولا ما أتمناه، ولكني قمت بتأليف كتب عدة بدأتها بمتابعات أدبية وكتابين عن القصة القصيرة وكتابين عن الرواية وثلاثة كتب عن الشعر ومجلدين في النقد أي اثني عشر كتاباً عن الأدب في المملكة العربية السعودية، وثمة كتب ثلاثة في الشعر والسرد تنتظر النشر أي حوالي خمسة عشر كتابا، ودراسات ومقالات ومحاضرات عن المشهد الثقافي لا أذكر عددها وذلك من مجموع ما ألفت من كتب يصل عددها إلى أكثر من ثلاثة وأربعين كتابا، وأترك تقييم ذلك كله لغيري انصياعاً لأمر الخالق جل وعلا (فلا تزكوا أنفسكم).
• بماذا تفاديت نقمة خصوم الحداثة؟
•• تفاديت هجوم خصوم الحداثة بموقف رأيته يمثّل الاعتدال والوسطيّة، ولا أعني بذلك إمساك العصا من الوسط؛ فإن ذلك مثلبة انتهازية تجعل صاحبها متذبذباً، لا إلى هؤلاء ولا أولئك (إذا الريح مالت مال حيث تميل)، وأبرأ إلى الله من هذا الموقف الجبان المنافق، وإنما أعني بالوسطيّة؛ الاستقامة على منهج الاعتدال، فلا أسدر في غيّ الخصومة ولا أتعصب لموقفي؛ بل أبتغي الحقيقة كما أتوقع أن تكون، فرأيي كما هو مأثور (صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) فأنا لست مع الجمود والتكلّس؛ بل مع التجديد والتطوير وشعاري (الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها) لهذا كنت معنياً بالتجديد ونتاجات الجيل الجديد من الشباب، على ألّا يكون فيها مساس بثوابت الدين والأخلاق، وقد التقيت ببعض رموز التيار الآخر؛ الذي أسميه التيار المحافظ، وأذكر أن ذلك كان في وقت مبكر في أواخر الثمانينيات، وكنت مدعوّا بوصفي ناقدا لأمسية قصصية؛ أقامها نادي جازان الأدبي، وأعتقد أن من التقيتهم كانوا يظنون أن ناقد الأمسية أحد رموز الحداثة في ذلك الوقت (وأعتذر عن تسميتهم) ففوجئوا بأنني ليس من جاءوا من أجله، ودار بيني وبينهم حوار طويل بدا لي أنهم قد اقتنعوا بما أبديته من آراء، وذلك قبل أن يصدر كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) بقليل، وكانت الأمسية للروائي المعروف عبده خال وكان من بين الحضور الناقد عبد الله نور (رحمه الله) وكنت أعتمد الحوار الهادئ وأقف ضد الشطط والغلو وأنظر إلى الحداثة من زاويتها الجمالية، وأرى أنها في الحياة العامة موقف حضاري ضد التكلس والجمود تسعي إلى التطور (وليس للإنسان إلا ما سعى) ولذلك كنت على صلة طيبة بمختلف الاتجاهات، وكنت أتلقّى الدعوات منهم للمشاركة في فعاليات منبرية ولا أتردد في تلبية أي دعوة .
• هل حققت الحداثة مشروعها في المملكة؟
•• كثير مما نشر بعد عقد الثمانينيات الميلادية من كتب تقارب موضوع الحداثة في المملكة، وفي كثير منها إشارات إلى أن الحداثة لم تحقق شيئاً، إذ لم يكن لها مشروع أصلاً، وأن الحداثة لم تُفهم على حقيقتها، والواقع أنه كان ينظر إليها من زوايا مختلفة؛ فالبعض عدّها حركة جذرية راديكالية تنهض على القطيعة بين ما قبلها وبينها، وأنها من هذه الزاوية ظلّت معنيّة بالتجديد الجزئي الذي لا يشمل الموقف الفنّي الجمالي برُمّته، وإنما قامت على التلفيق بين ظواهر حداثيّة ودمجها في سياق تقليدي، والبعض الآخر عمد إلى أدلجتها من زاوية فكرية تؤصّل لرؤية جديدة كليّة لا تعتدّ بالماضي وتنحو منحى تغريبياً ذات اليمين وذات اليسار، ولهذا نُظر إليها خارج سياقها التاريخي؛ بينما يفترض أن يقع أي تقييم ضمن شروطها التاريخيّة وسياقها العربي والإسلامي دون غلوّ، فهي تحوّل طبيعي إلى مرحلة جديدة تواكب نموّ المجتمعات والثقافات والتماسّ الحضاري مع الآخر، كما حدث في العصور العباسية أن تعالقت الثقافة العربية مع ثقافات الأمم الأخرى، وتنامت العلوم العربية الإنسانيّة فقُعّدت القواعد وأُصّلت الأصول، وظهرت العلوم بأنساقها ممنهجةً ومنظّمةً ومرتّبة، وظهرت علوم مصطلح الحديث وعلوم القرآن الكريم وعلوم النحو والبلاغة، وظهر ما يشبه النظرية النقدية من خلال عمود الشعر ونظرية النظم وما إلى ذلك، ثم تنامت فيما بعد لدى الفلاسفة النّقاد والبلاغيين من أصحاب المذاهب وما إلى ذلك؛ فالحداثة من هذا المنظور ظاهرة ثقافيّة تاريخيّة حضارية، ولعلّها حقّقت ما يمكن أن ينظر إليه على أنه إنجاز؛ فقد أرست دعائم حركة شعرية جديدة بجمالياتها المتنوعة وشعريّتها المتميّزة، وحركة روائيّة على قدم المساواة، وربما فاقت نظيراتها في الوطن العربي، ففازت بالبوكر أكثر من مرة، وكذلك في مجالات السرد الأخرى، ونمت حركة نقدية مبهرة تعدّدت مشاربها ومناهجها واتجاهاتها، وتمخّضت الجامعات والمراكز البحثية العلمية عن حراك واسع النطاق.
• ما أبرز الفنون المتبوّئة للصدارة محليّاً وعربيّاً؟
•• أبرز الفنون التي تتبوأ مكانة الصدارة فهي -بلا شك- فن الرواية، والفنون السردية بعامة التي لا تقتصر على النثر؛ بل تتخذ منحىّ فنّيّاً يتغلغل في الفنون الأخرى، فهو الأقدر على التقاط الظواهر المتكاثرة والأحداث المتسارعة وتوظيفها عبر رؤى تخترق البنية السطحية الظاهرة وتلامس أغوارها، وتشفّ عمّا هو مسكوت عنه، أو مستتر في بنيتها العميقة؛ والرواية التي يرى الكثير من النقاد أنها مجمع الفنون ومختبر الثقافات والأنواع الأكثر قدرة ومرونة على استيعاب الواقع بالغ التعقيد الذي يعيشه الإنسان المعاصر بمعضلاته وإشكالياته المتعددة، وتياراته وأيديولوجياته التي بدت مطواعة لمصالح الليبراليين الجدد وصناع العولمة، والصراع على مناطق النفوذ والاقتصاديات المتنامية عبر رؤى اقتصادية جديدة، ودخول لاعبين جدد منافسين للقوة الاقتصادية الكبرى في العالم، واصطناع مختلف الوسائل مشروعة وغير مشروعة لتحقيق أهدافهم، فضلاً عما انتاب خريطة العالم جغرافيّاً وجيولوجيّاً وسياسيّاً من تغيير، وما أسفرت عنه الفوضى المصطنعة وركوب موجات الغضب الجماهيري من قبل فئات مغرضة، وانتشار الإرهاب وتوظيفه لصالح القوى المتنفذة في العالم. واستطاعت الرواية التي لم تعد مقصورة على الروائيين؛ بل خاض غمارها الشعراء والأكاديميون والنقاد، وأحرز بعضهم فيها تفوقاً ظاهراً؛ إذ نجد شاعراً مشهوراً في حجم غازي القصيبي (رحمه الله) شكّل منعطفاً هاماً في تاريخ الرواية في المملكة العربية السعودية، وهذه الظاهرة التي تحدثت عنها حول شيوع الإبداع الروائي في أوساط الشعراء لها نظائر في كثير من البلدان العربية؛ ففي الأردن هناك إبراهيم نصر الله الذي نهض بدور شبيه بالدور الذي قام به القصيبي؛ الأمر الذي يدل على أن الرواية تتصدّر الأنواع الأدبية، ولهذا لاحظنا وفرةً في الكتب النقديّة النظريّة والتطبيقيّة التي صدرت في الحقبة الأخيرة، وربما كان من أقوى الإشارات على ذلك ما نلحظه في معارض الكتب من رواج للأعمال الروائية.
• أين تقع الفنون القولية في ظل تغوّل البصري ؟
•• تغوّل البصري ظلّ رديفاً للفنون القوليّة يعزّز دلالاتها، ويكمل بنيتها الرؤيويّة ؛ ولم تكن الصورة ولا التشكيل بالرسم يوماً بديلاً عن القول، لا في السينما ولا في التلفاز؛ اللهم إلا في الفنون التشكيلية الخالصة؛ ولعل كتاب الدكتور عبد الله الغذامي عن الثقافة التلفزيونية من أكثر الكتب التي لفتت الانتباه إلى بروز هذا اللون التعبيري، ولكن الصورة وحدها من منظوراتها المختلفة لم تستطع أن تقلل من مكانة الفنون القولية أو تطغى عليها؛ بل ظلت على هامشها تردفها فحسب، وحتى تشكيل الكتابة في الفراغات البيضاء في الدواوين الشعرية وغيرها ظلت تنهض بهذه المهمة دون أن تتحوّل إلى المركز، وهذا شيء طبيعي، وعلى الرغم من ظهور الفنون الأدبية التفاعليّة فإن البصريات لم تطغ على الكتابة.
• متى تستعيد الثقافة الصلبة مكانتها؟
•• الثقافة الصلبة تعبير موفق، ولكن صلابة أي ثقافة أو هلاميتها منوطة بأهلها وبتراثها وبمواهب القائمين عليها والمنتجة لها، وكانت هذه الثقافة الراسخة بمقوماتها وتراثها ونبضها ماثلة لم تتزحزح عن مكانتها؛ ولكن الطّفرة الإعلاميّة كان لها أثرها في الترويج لأعمال هشّة تقدمت عليها مدعومة بأصحاب المصالح ومن قبل الفاسدين الذين هيمن بعضهم على منابر الثقافة في الوطن العربي؛ ولعل الكثيرين منّا يذكرون كيف غادرت كوكبة من كبار الأدباء والمثقفين والأكاديميين في مصر (أرض الكنانة) إلى دول الخليج وكثير من العواصم الأوروبية المركزيّة ومارسوا إبداعاتهم فيها بعيداً عن الأجواء الاستهلاكية الخانقة التي أتى بها عصر الانفتاح فهي لم تتقهقر؛ بل بحثت عن ملاذات آمنة تكفل لها حرية الإبداع بعيداً عن جشع المتغوّلين والفاسدين الذي نجم وجودهم عن التحولات الكبرى في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
• لماذا زحزحت مواقع التواصل الاجتماعي النخبويّة؟
•• مواقع التواصل والنخبوية مسألة جدلية، ومصطلح النخبوية متعدّد الدلالات، فهو يبدو في هذا السياق دالّا على أصحاب الثقافة الرفيعة من مبدعين ونقاد وإعلاميين، وانطلاقاً من هذا المفهوم تبدو مواقع التواصل محدودة الأثر فإنها لم تستطع أن تجعل من أدعياء الأدب والثقافة رموزاً، فضلا عن أنها لم تستطع أن تحجب إبداعات المتميّزين، وربما أغرقت ساحاتها الخاصة بتوافه الأمور والبحث عن أدوار مدّعاة هنا أو هناك؛ ولكن الشمس لا تحجب بغربال؛ فقد ظل للثقافة منابرها الرصينة وبيئاتها الجادّة وأعلامها المتميزون، فمواقع التواصل مازالت ميداناً مفتوحاً لكلّ من هبّ ودب، ومن يلتمس الثقافة يجدها في مظانها الرئيسة.
•هل غدت الثقافة نشاطاً فرديّاً؟
•• الثقافة متعدّدة المصادر ومتنوعة المفاهيم، ولاشك أن الإبداع له طابعه المتفرّد؛ ولكن الثقافة فعالية جماعيّة؛ فلكل أمة هُويّتها الثقافيّة المتميّزة؛ وقد يطغى عليها أحياناً الطابع العولمي، ولكنه لا يستطيع أن يمحو سماتها الخاصة المميّزة، ولذلك نرى دراسات جادّة تصنّف ثقافات الشعوب وفق ما يطغى عليها من سمات؛ والثقافة ذات مستويات متعددة: الثقافة الخاصة بالذات المفردة، والثقافة المؤسّسيّة والثقافة المجتمعيّة التي تجعل لكل شعب أو أمة ثقافتها المتميزة.
• ماذا تبقى من ذكريات حائل والمملكة؟
•• هي باقية في وعيي ووجداني؛ فقد قضيت الشطر الأكبر من حياتي في المملكة وفي حائل وحدها ربع قرن، وفي تبوك أربع عشرة سنة، وفي المدينة المنوّرة ما يقرب من سبع سنوات، فكيف يمكن أن ينسى المرء هذا التاريخ الطويل من حياته، ففي تبوك كنت شابا في الثانية والعشرين عملت في ثانوية تبوك منذ عام 1968 إثر تخرجي من جامعة القاهرة إلى عام 1982م، فاستقلت من التدريس لإتمام أطروحة الدكتوراه في جامعة القاهرة أيضا، وعملت منذ عام 1984م، في كلية المعلمين في حائل وفي الجامعة العربية المفتوحة متعاوناً ومع كلية المجتمع أيضاً إلى عام 2006م، وقضيتُ عاما مديرا للتعليم بالوكالة في مدارس حائل النموذجية ومتعاوناً مع الجامعة العربية المفتوحة، ثم عدت أستاذاً زائرا في كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إلى عام 2021م، وأمضيت ثمانية أعوام في جامعة جدارا في إربد رئيسا لقسم اللغة العربية ثم عميدا لكلية الدراسات الأدبية واللغوية ثم عميدا للبحث العلمي والدراسات العليا ثم عميدا لكلية الآداب من عام 2006 إلى عام 2014. فما قضيته في الأردن من مدة زمنية لا يزيد عن 20% من المدة التي قضيتها في المملكة العربية السعودية، وولد جميع أبنائي وبناتي فيها وفي كنف رعاية كريمة من أهلٍ أُصلاء شهامةً ونخوةٍ ومودةً، فكيف أنسى هذا التاريخ الطويل، فهو مناط اعتزازي وتقديري، وسأظل وفيّا للمملكة ما حييت مهما نأى بي المكان.
• ما مدى رضاك عن تكريمك في المملكة بانتهاء فترة عملك؟
•• كلّ الرضا والامتنان، إذ وجدتُ كلّ تقدير واحترام ومحبة من لدن كل من عملت معهم، وعقب انتهاء عملي تم تكريمي من وزير الثقافة آنذاك إياد مدني، وفي اثنينية عبد المقصود خوجة والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في الرياض، ونادي جدة الثقافي بجدة وكل النوادي الأدبية وثلوثية السيف وكلية المعلمين وكل الهيئات والمؤسسات الثقافية، وجريدة الجزيرة التي أصدرت ملحقا خاصا لتكريمي، فلهم مني جميعا كل الوفاء والمحبة والاعتراف بالجميل.
•كلمة أخيرة لكم؟
••لك ولجريدة «عكاظ» الغراء إدارة ورئيسا للتحرير ومحررين كل التحية والتقدير. جريدة (عكاظ الغراء) التي كانت الثقافة وما زالت في مقدمة اهتماماتها، وظلّت الصفحات الثقافية فيها منبراً للحراك الأدبي على مدى عقود؛ وكان لي شرف الإطلالة من خلالها على المشهد الثقافي في المملكة العربية السعودية، والإسهام المتواضع في نشر قراءاتي النقديّة على صفحاتها في ثمانينيّات القرن الماضي.