سبق علمي من «كاوست»: الشعاب المرجانية تنقل أنماط الحمض النووي لذريّتها
«علم ما فوق الجينات» يسهم في إنقاذها من الانهيار الوشيك
شعبان 19 26 أبريل هـ 01:47 الاحد الأحد
(جدة) «عكاظ» _online@
كشفت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، في الآونة الأخيرة، النقاب عن بحث علميّ جديد يبرهن على أن الشعاب المرجانية تنقل أنماط الحمض النووي لذريتها. ويمثل هذا البحث الرائد إنجازاً سبّاقاً، تتم فيه ملاحظة هذه العملية لأول مرة في دراسة الحيوانات في علم الأحياء. إذ أوضح الباحثون أن الشعاب المرجانية لا تتكيف فحسب مع التغيرات التي تطرأ على بيئاتها، بل تورّث أيضاً تلك السمات إلى ذريتها من خلال أنماط مثيلة الحمض النووي، في عمليّة سبق أن لوحظت فقط في النباتات.
يأتي هذا البحث في اطار جهود العلماء حول العالم لوقف التدهور الحاصل في النظم الإيكولوجية الساحلية حيث يعيش أكثر من (3.1 مليار نسمة) من سكان العالم على مسافة 100 كيلومتر من البحار والمحيطات، وخسارتها تعنى أضراراً بيئية واقتصادية واجتماعية جسيمة للعالم. وبحسب تقارير الأمم المتحدة فإن 70 % من الشعاب المرجانية في العالم معرضة للتهديد: حيث إن 20 % قد تم تدميرها بالفعل دون أمل في نموها من جديد، و24 % معرضة لخطر الانهيار الوشيك، و26 % إضافية معرضة لخطر التهديدات على المدى الأبعد. فريق البحث الذي قام بالدراسة ضم عدداً من العلماء في مقدمتهم عضو هيئة التدريس الأستاذ المشارك في علوم البحار في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) بالمملكة العربية السعودية الدكتور مانويل أراندا، الذي يسلط لنا الضوء هنا على ما تحقق، ومدى الأهمية التي يكتسبها هذا البحث بالنسبة للعالم، ومساهمته في دعم رؤية المملكة 2030.
• بداية، حدثنا عن مفهوم علم ما فوق الجينات؟
•• علم ما فوق الجينات «الأبيجينيتكس Epigenetics» هو الذي يهتم بدراسة التغيرات في الأنماط الظاهرية الوراثية التي تنشّط أو تثبّط عمل الجينات، وتسمح بتعديلها دون تغيير التسلسل الوراثي الفعلي. ومن المعلوم أن هناك 4 قواعد نيتروجينية مكونة للحمض النووي (DNA) هي: السيتوزين، الدينوزين، الثايمين والغوانين. تلك القواعد هي التي تعمل على تخزين المعلومات في الجينوم، وغالبا ما تكون غير معدلة، ومع ذلك فان قاعدة واحدة وهي «السيتوزين» لديها مجموعة ميثيل مضافة إليها تشكل ما نسميه «ميثيل السيتوزين»، وهو ما نعنيه عادة عندما نتحدث عن «مثيلة الحمض النووي».
لا تغير مجموعة الميثيل الإضافية «للسيتوزين» ترميز هذه القاعدة (أي أن المعلومات الجينية المخزنة تبقى كما هي) ولكنها تغير كيفية تفاعل الحمض النووي مع البروتينات التي تنظم كيف ومتى تتم قراءة المعلومات المخزنة في الجينوم. فمثلا يمكن لخلايا الإنسان استخدامها كنوع من نظام الإشارات المرجعية لتخزين «البرامج»، أي الاستجابة لظروف بيئية معينة مثل الأنظمة الغذائية أو الضغوطات عن طريق تحسين التعبير عن الجينات التي تسمح لها بالاستجابة للضغوط. وبما أن مثيلة DNA لا تغير الشفرة الجينية الأساسية، فإنها تعتبر آلية «لا جينية»، لذا يمكن التفكير في علم ما فوق الجينات على أنه بمثابة آلية إضافية تساعد على تعديل الاستجابات الوراثية للكائن الحي للتحديات البيئية.
• ما هي النتائج الرئيسية التي توصلتم إليها في هذا السبق العلمي؟•• كانت نتائجنا الأولية مذهلة، إذ تبين لنا أن الشعاب المرجانية تنقل أنماط الحمض النووي لذريتها. نعتقد أن هذا هو أول دليل قوي تم تقديمه على انتقال التغيرات «الأبيجينية» أو ما يعرف باسم «علم ما فوق الجينات» بين أجيال الشعاب المرجانية (لاحظ استخدامنا الدقيق لـكلمة «بين الأجيال»، نحن نتحدث هنا فقط عن نقل معلومات لأنماط مثيلة الحمض النووي للجينوم في الحيوان عبر جيل واحد، وليس عبر الأجيال أو أجيال متعددة). من جانب آخر، ثبت لدينا أيضا أن التغيرات «الأبيجينية» تنتقل عبر 11 جيلاً في الفئران، ولكن هذا الأمر يتم عن طريق آلية جينية أخرى تسمى «تعديل الهيستون» والهِستونات، في علم الأحياء، هي بروتينات قلويه تساعد في تنظيم تركيب الـDNA داخل انوية الخلايا.
حماية بيئية واقتصادية
• ما هي الأهمية التي يكتسبها هذا الاكتشاف؟
•• حينما نتحدث عن الشعاب المرجانية، فإنني على يقين من إدراك الجميع التهديدات التي تواجه الشعاب المرجانية في جميع أنحاء العالم جراء تغير المناخ. وأهمية الشعاب المرجانية لكوكب الأرض عظيمة، فهي تعدّ من أكثر النظم البيئية تنوعاً في العالم، وتوفر ملاذاً للأنواع البحرية، وتمكّن من حماية السواحل ومصايد الأسماك من العواصف، كما أن لها جوانب اقتصادية هامة لمنفعة البشر. لكنّ الشعاب المرجانية حساسة للغاية للتغيرات البيئية الطفيفة، وغيرها من التغيرات التي تتفاقم بفعل تدخل الإنسان. لقد أظهرت الأبحاث السابقة أن الشعاب المرجانية، التي تعد من الحيوانات وليست من النباتات، شديدة اللدونة، ما يعني أنها بارعة في التغيّر لكي تتأقلم مع احتياجات الموائل المتطورة، عند ارتفاع درجات حرارة المحيطات، أو حدوث تغيرات في معدلات ملوحتها، أو تقلب مستويات ضوء الشمس فيها. لكن تلك التغييرات المرصودة لم تظهر سوى قدرة الشعاب المرجانية على ثني الذاكرة العضلية، ومن ثم العودة دائماً إلى حالتها الطبيعية بمجرد زوال التغيّرات الطارئة. بيد أنّ ما تمكنا من إظهاره في مختبراتنا اليوم هو أنه مع تكيف الشعاب المرجانية، يتم تمرير تلك التغييرات في مثيلة الحمض النووي (DNA methylation) إلى ذريتها، ما يسمح للشعاب المرجانية الجديدة بأن تكون في استعداد للتأقلم مع البيئة المتغيرة التي تعيش فيها، والصمود فيها. أعتقد اننا قد اكتشفنا على الأمد القريب، طريقة للمساعدة في معالجة زوال الشعاب المرجانية جرّاء تغير المناخ. فمن خلال هذه الأبحاث، سيتمكن علماء الأحياء من تدريب الشعاب المرجانية في «دور حضانة»، من أجل إنتاج ذرية تتّسم بالسمات اللازمة للنمو في بيئات معينة، مثل الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا والعديد من أنظمة الشعاب المرجانية في أنحاء منطقة الكاريبي. ونتيجة لهذا البحث، ومن خلال التجارب القائمة، نتوقّع أن يغدو العلماء أكثر قدرة على فهم آليات التأقلم.
• هل لك أن تخبرنا عن الإطار التعاوني الذي أجرته جامعة الملك عبدالله مع جامعة نيويورك أبوظبي بشأن هذا الاكتشاف؟•• قامت الباحثة السابقة في جامعة نيويورك أبوظبي الدكتورة إميلي هاولز، بمعظم العمل الميداني بجمع وتحليل أجزاء من مستوطنات مرجانية صخرية موجودة في أوساط مائية مختلفة (أبوظبي والفجيرة)، وحصلوا على عينات من اليرقات والحيوانات المنوية والشعاب المرجانية البالغة والناتجة عن التلقيح التبادلي، وتم تحديد العوامل «الأبيجينية» في الشعاب المرجانية باستخدام تقنيات تسلسل الجينوم الكامل، حيث لوحظ تأثير بيئي واضح على جينوم الشعاب المرجانية، كما تم تحديد العوامل «الأبيجينية» المرتبطة بالبيئة الحارة والمالحة، وتوضيح تأثيرها المحتمل على قدرة مقاومة الشعاب المرجانية. ولقد توصلنا إلى أن المرجان الصخري الذي يعرف باسم «مرجان المخ» قادر على نقل التغييرات «الأبيجينية» بين الأجيال لمساعدتها على التكيّف بسرعة مع التغيرات البيئية الضارة. كما ناقشنا طرقًا لتحليل البيانات مع أستاذ علم الأحياء في جامعة نيويورك أبوظبي المتخصص في علم الجينوم الدكتور يوسف إدغضور، الذي يعمل على مثيلة الحمض النووي في البشر.
• ما هو التحدي الرئيسي الذي واجهتموه حينما بدأتم هذا البحث؟•• كان التحدي الرئيسي هو الحصول على العينات، وهو الأمر الذي ساعدتنا فيه الدكتورة إميلي هاولز التي كانت تعمل على المحركات الجينية للدونة في «مرجان المخ». بعد سماع حديثها، علمت أنني وجدت مصدري للعينات واقترحت عليها هذا التعاون. كان الباقي في الغالب العمل لتحليل أنماط المثيلة وتحديد المخاطر والصعوبات المحتملة. في الدراسات البيئية عادةً ما نواجه انفسنا بالسؤال التالي: ماذا لو كانت الاختلافات التي نلاحظها، ببساطة، انعكاسًا لمورثات (جينات) مختلفة للعينات التي تم جمعها؟
تحدى نظرية داروين
• ما هي الآثار المترتبة على هذا البحث على المدى الطويل؟•• يمكن أن تكون الآثار طويلة المدى واسعة النطاق. فإلى جانب التأثير المحتمل على إمكانية استعادة الشعاب المرجانية، فإن نتائج هذا البحث قد تكون لها أيضا آثار عامة مثيرة للاهتمام. فمثلا، تعتمد نظرية داروين لتطور الإنسان على اختيار السمات المفيدة التي تظهر في سكان مجتمع ما، أي أن الأفراد الذين لديهم أداء أفضل ستكون لديهم ذرية أكثر، وعلى المدى الطويل، يتفوقون على الآخرين. وإذا كان الشريط الوراثي (الجينوم) هو المخزن الأساسي للمعلومات الوراثية لكل الكائنات الحية، إلا أننا اليوم نعلم أن الجينوم يمكن أن يستجيب للمتغيرات البيئية عن طريق تغيير ناتج تلك المعلومات المخزنة. نحن نطلق على هذه العملية مسمى «اللدونة» أي تغيير سمات معينة للتعامل بشكل أفضل مع بيئة متغيرة. وإذا أصبح بمقدورنا الآن نقل هذه الصفات المكتسبة بالفعل إلى الجيل التالي، فهذا يعني أن لدينا الآن مستوى إضافياً من التكيف التطوري (وراثة الصفات) يتجاوز معلومات الترميز المخزنة في الجينوم. وبالتالي، فإن الكشف عن أن التغيرات «الأبيجينية» يمكن أن تنتقل في حالة الشعاب المرجانية، يتحدى عقيدة أساسية للداروينية الجديدة.
• بتقديرك كيف سيؤثر هذا الاكتشاف على حياة المجتمعات خاصة في المملكة العربية السعودية؟ وما هو الإسهام المتوقع لها في دعم رؤية 2030؟•• جزء كبير من رؤية 2030 في المملكة العربية السعودية يكمن في تنويع الاقتصاد، وتعد السياحة البيئية أحد الأسواق الجديدة الرئيسية التي تدعم هذا التوجه. وإذا نظرنا إلى كافة المشاريع العملاقة التي ستقام بمحاذاة البحر الأحمر في المملكة، سنجد أن جميعها يعتمد بشكل كبير على صحة وجمال الشعاب المرجانية. ومع ذلك، يؤثر تغير المناخ أيضاً على المنطقة رغم أن الشعاب المرجانية في المنطقة لا تزال في حالة جيدة، الا أنه من الضروري إيجاد طرق لتأمين مستقبل تلك المنظومة البيئية حتى لا تلقى مصير العديد من الشعاب المرجانية الأخرى في العالم. نأمل أن يسهم بحثنا في الحفاظ واستعادة الشعاب المرجانية ويساعد في تأمين مستقبل هذه النظم البيئية الرائعة.
يأتي هذا البحث في اطار جهود العلماء حول العالم لوقف التدهور الحاصل في النظم الإيكولوجية الساحلية حيث يعيش أكثر من (3.1 مليار نسمة) من سكان العالم على مسافة 100 كيلومتر من البحار والمحيطات، وخسارتها تعنى أضراراً بيئية واقتصادية واجتماعية جسيمة للعالم. وبحسب تقارير الأمم المتحدة فإن 70 % من الشعاب المرجانية في العالم معرضة للتهديد: حيث إن 20 % قد تم تدميرها بالفعل دون أمل في نموها من جديد، و24 % معرضة لخطر الانهيار الوشيك، و26 % إضافية معرضة لخطر التهديدات على المدى الأبعد. فريق البحث الذي قام بالدراسة ضم عدداً من العلماء في مقدمتهم عضو هيئة التدريس الأستاذ المشارك في علوم البحار في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) بالمملكة العربية السعودية الدكتور مانويل أراندا، الذي يسلط لنا الضوء هنا على ما تحقق، ومدى الأهمية التي يكتسبها هذا البحث بالنسبة للعالم، ومساهمته في دعم رؤية المملكة 2030.
• بداية، حدثنا عن مفهوم علم ما فوق الجينات؟
•• علم ما فوق الجينات «الأبيجينيتكس Epigenetics» هو الذي يهتم بدراسة التغيرات في الأنماط الظاهرية الوراثية التي تنشّط أو تثبّط عمل الجينات، وتسمح بتعديلها دون تغيير التسلسل الوراثي الفعلي. ومن المعلوم أن هناك 4 قواعد نيتروجينية مكونة للحمض النووي (DNA) هي: السيتوزين، الدينوزين، الثايمين والغوانين. تلك القواعد هي التي تعمل على تخزين المعلومات في الجينوم، وغالبا ما تكون غير معدلة، ومع ذلك فان قاعدة واحدة وهي «السيتوزين» لديها مجموعة ميثيل مضافة إليها تشكل ما نسميه «ميثيل السيتوزين»، وهو ما نعنيه عادة عندما نتحدث عن «مثيلة الحمض النووي».
لا تغير مجموعة الميثيل الإضافية «للسيتوزين» ترميز هذه القاعدة (أي أن المعلومات الجينية المخزنة تبقى كما هي) ولكنها تغير كيفية تفاعل الحمض النووي مع البروتينات التي تنظم كيف ومتى تتم قراءة المعلومات المخزنة في الجينوم. فمثلا يمكن لخلايا الإنسان استخدامها كنوع من نظام الإشارات المرجعية لتخزين «البرامج»، أي الاستجابة لظروف بيئية معينة مثل الأنظمة الغذائية أو الضغوطات عن طريق تحسين التعبير عن الجينات التي تسمح لها بالاستجابة للضغوط. وبما أن مثيلة DNA لا تغير الشفرة الجينية الأساسية، فإنها تعتبر آلية «لا جينية»، لذا يمكن التفكير في علم ما فوق الجينات على أنه بمثابة آلية إضافية تساعد على تعديل الاستجابات الوراثية للكائن الحي للتحديات البيئية.
• ما هي النتائج الرئيسية التي توصلتم إليها في هذا السبق العلمي؟•• كانت نتائجنا الأولية مذهلة، إذ تبين لنا أن الشعاب المرجانية تنقل أنماط الحمض النووي لذريتها. نعتقد أن هذا هو أول دليل قوي تم تقديمه على انتقال التغيرات «الأبيجينية» أو ما يعرف باسم «علم ما فوق الجينات» بين أجيال الشعاب المرجانية (لاحظ استخدامنا الدقيق لـكلمة «بين الأجيال»، نحن نتحدث هنا فقط عن نقل معلومات لأنماط مثيلة الحمض النووي للجينوم في الحيوان عبر جيل واحد، وليس عبر الأجيال أو أجيال متعددة). من جانب آخر، ثبت لدينا أيضا أن التغيرات «الأبيجينية» تنتقل عبر 11 جيلاً في الفئران، ولكن هذا الأمر يتم عن طريق آلية جينية أخرى تسمى «تعديل الهيستون» والهِستونات، في علم الأحياء، هي بروتينات قلويه تساعد في تنظيم تركيب الـDNA داخل انوية الخلايا.
حماية بيئية واقتصادية
• ما هي الأهمية التي يكتسبها هذا الاكتشاف؟
•• حينما نتحدث عن الشعاب المرجانية، فإنني على يقين من إدراك الجميع التهديدات التي تواجه الشعاب المرجانية في جميع أنحاء العالم جراء تغير المناخ. وأهمية الشعاب المرجانية لكوكب الأرض عظيمة، فهي تعدّ من أكثر النظم البيئية تنوعاً في العالم، وتوفر ملاذاً للأنواع البحرية، وتمكّن من حماية السواحل ومصايد الأسماك من العواصف، كما أن لها جوانب اقتصادية هامة لمنفعة البشر. لكنّ الشعاب المرجانية حساسة للغاية للتغيرات البيئية الطفيفة، وغيرها من التغيرات التي تتفاقم بفعل تدخل الإنسان. لقد أظهرت الأبحاث السابقة أن الشعاب المرجانية، التي تعد من الحيوانات وليست من النباتات، شديدة اللدونة، ما يعني أنها بارعة في التغيّر لكي تتأقلم مع احتياجات الموائل المتطورة، عند ارتفاع درجات حرارة المحيطات، أو حدوث تغيرات في معدلات ملوحتها، أو تقلب مستويات ضوء الشمس فيها. لكن تلك التغييرات المرصودة لم تظهر سوى قدرة الشعاب المرجانية على ثني الذاكرة العضلية، ومن ثم العودة دائماً إلى حالتها الطبيعية بمجرد زوال التغيّرات الطارئة. بيد أنّ ما تمكنا من إظهاره في مختبراتنا اليوم هو أنه مع تكيف الشعاب المرجانية، يتم تمرير تلك التغييرات في مثيلة الحمض النووي (DNA methylation) إلى ذريتها، ما يسمح للشعاب المرجانية الجديدة بأن تكون في استعداد للتأقلم مع البيئة المتغيرة التي تعيش فيها، والصمود فيها. أعتقد اننا قد اكتشفنا على الأمد القريب، طريقة للمساعدة في معالجة زوال الشعاب المرجانية جرّاء تغير المناخ. فمن خلال هذه الأبحاث، سيتمكن علماء الأحياء من تدريب الشعاب المرجانية في «دور حضانة»، من أجل إنتاج ذرية تتّسم بالسمات اللازمة للنمو في بيئات معينة، مثل الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا والعديد من أنظمة الشعاب المرجانية في أنحاء منطقة الكاريبي. ونتيجة لهذا البحث، ومن خلال التجارب القائمة، نتوقّع أن يغدو العلماء أكثر قدرة على فهم آليات التأقلم.
• هل لك أن تخبرنا عن الإطار التعاوني الذي أجرته جامعة الملك عبدالله مع جامعة نيويورك أبوظبي بشأن هذا الاكتشاف؟•• قامت الباحثة السابقة في جامعة نيويورك أبوظبي الدكتورة إميلي هاولز، بمعظم العمل الميداني بجمع وتحليل أجزاء من مستوطنات مرجانية صخرية موجودة في أوساط مائية مختلفة (أبوظبي والفجيرة)، وحصلوا على عينات من اليرقات والحيوانات المنوية والشعاب المرجانية البالغة والناتجة عن التلقيح التبادلي، وتم تحديد العوامل «الأبيجينية» في الشعاب المرجانية باستخدام تقنيات تسلسل الجينوم الكامل، حيث لوحظ تأثير بيئي واضح على جينوم الشعاب المرجانية، كما تم تحديد العوامل «الأبيجينية» المرتبطة بالبيئة الحارة والمالحة، وتوضيح تأثيرها المحتمل على قدرة مقاومة الشعاب المرجانية. ولقد توصلنا إلى أن المرجان الصخري الذي يعرف باسم «مرجان المخ» قادر على نقل التغييرات «الأبيجينية» بين الأجيال لمساعدتها على التكيّف بسرعة مع التغيرات البيئية الضارة. كما ناقشنا طرقًا لتحليل البيانات مع أستاذ علم الأحياء في جامعة نيويورك أبوظبي المتخصص في علم الجينوم الدكتور يوسف إدغضور، الذي يعمل على مثيلة الحمض النووي في البشر.
• ما هو التحدي الرئيسي الذي واجهتموه حينما بدأتم هذا البحث؟•• كان التحدي الرئيسي هو الحصول على العينات، وهو الأمر الذي ساعدتنا فيه الدكتورة إميلي هاولز التي كانت تعمل على المحركات الجينية للدونة في «مرجان المخ». بعد سماع حديثها، علمت أنني وجدت مصدري للعينات واقترحت عليها هذا التعاون. كان الباقي في الغالب العمل لتحليل أنماط المثيلة وتحديد المخاطر والصعوبات المحتملة. في الدراسات البيئية عادةً ما نواجه انفسنا بالسؤال التالي: ماذا لو كانت الاختلافات التي نلاحظها، ببساطة، انعكاسًا لمورثات (جينات) مختلفة للعينات التي تم جمعها؟
تحدى نظرية داروين
• ما هي الآثار المترتبة على هذا البحث على المدى الطويل؟•• يمكن أن تكون الآثار طويلة المدى واسعة النطاق. فإلى جانب التأثير المحتمل على إمكانية استعادة الشعاب المرجانية، فإن نتائج هذا البحث قد تكون لها أيضا آثار عامة مثيرة للاهتمام. فمثلا، تعتمد نظرية داروين لتطور الإنسان على اختيار السمات المفيدة التي تظهر في سكان مجتمع ما، أي أن الأفراد الذين لديهم أداء أفضل ستكون لديهم ذرية أكثر، وعلى المدى الطويل، يتفوقون على الآخرين. وإذا كان الشريط الوراثي (الجينوم) هو المخزن الأساسي للمعلومات الوراثية لكل الكائنات الحية، إلا أننا اليوم نعلم أن الجينوم يمكن أن يستجيب للمتغيرات البيئية عن طريق تغيير ناتج تلك المعلومات المخزنة. نحن نطلق على هذه العملية مسمى «اللدونة» أي تغيير سمات معينة للتعامل بشكل أفضل مع بيئة متغيرة. وإذا أصبح بمقدورنا الآن نقل هذه الصفات المكتسبة بالفعل إلى الجيل التالي، فهذا يعني أن لدينا الآن مستوى إضافياً من التكيف التطوري (وراثة الصفات) يتجاوز معلومات الترميز المخزنة في الجينوم. وبالتالي، فإن الكشف عن أن التغيرات «الأبيجينية» يمكن أن تنتقل في حالة الشعاب المرجانية، يتحدى عقيدة أساسية للداروينية الجديدة.
• بتقديرك كيف سيؤثر هذا الاكتشاف على حياة المجتمعات خاصة في المملكة العربية السعودية؟ وما هو الإسهام المتوقع لها في دعم رؤية 2030؟•• جزء كبير من رؤية 2030 في المملكة العربية السعودية يكمن في تنويع الاقتصاد، وتعد السياحة البيئية أحد الأسواق الجديدة الرئيسية التي تدعم هذا التوجه. وإذا نظرنا إلى كافة المشاريع العملاقة التي ستقام بمحاذاة البحر الأحمر في المملكة، سنجد أن جميعها يعتمد بشكل كبير على صحة وجمال الشعاب المرجانية. ومع ذلك، يؤثر تغير المناخ أيضاً على المنطقة رغم أن الشعاب المرجانية في المنطقة لا تزال في حالة جيدة، الا أنه من الضروري إيجاد طرق لتأمين مستقبل تلك المنظومة البيئية حتى لا تلقى مصير العديد من الشعاب المرجانية الأخرى في العالم. نأمل أن يسهم بحثنا في الحفاظ واستعادة الشعاب المرجانية ويساعد في تأمين مستقبل هذه النظم البيئية الرائعة.