الصالة التي يقف أمامها أكبر عدد من الناس هي التي سأحضر عرضها هذه الليلة. كان هذا معياراً جريئاً للغاية اتخذته بعد عناء وتردد طويلين في البحث عن اسم لفيلم يستحق فعلاً منحه قطعتين من أهم خزينتين في الحياة؛ الوقت والمال. ذلك بعد وعد وهبته نفسي تحت تأثير إحدى الأزمات؛ أن أكون منذ اليوم أشد حرصاً وأقل تهوراً تجاههما. وقفت على بعد بضعة مترات من أمام بوابة السينما التي لو أن ذبابة تتسكع الآن في الداخل، لسمعت أزيزها المستفز يدب في أذني؛ إذ لا أحد هنا، المكان هادئ تماماً، إنه يذكرني بالهدوء الذي يسكن المدرسة بعد أن يغادرها الجميع ويبقى حارسها ينتظر مغادرة الطالب الأخير. رأيت هناك ثلاثة من العاملين فقط، كان وجه أحدهم خاملاً جداً؛ حتى أنه حفزني فور رؤيتي له إلى تثاؤب طويل لم يكن سينتهي لولا اصطدامي المضحك بالباب وأنا أحاول الدخول. سرت بعد ذلك على مهل أتفقد الأرجاء يميناً وشمالاً؛ أملاً في ظهور عاشقين قادمين من دورات المياه أو صديقين يقتربان بحذر شديد حفاظاً على توازن قهوتهما، أو أخوين... لا يهم من يكونان، المهم أن يكونا قد اختارا فيلماً جميلاً ذا قيمة وفكرة ومعنى؛ لأدخل خلفهما مطمئناً. لكنني اضطررت أن أذهب مع اقتراح أحد العاملين لاختيار فيلم بطريقة عشوائية؛ وهي أن أدخل إحدى الصالات الست مغمض العينين. تمددت كما لم أتمدد من قبل، في المكان الذي أرغب، على المقعد الذي في الصف الأخير، هناك في الأعلى مقابل الشاشة الكبيرة وحدي، لا أحد سيعكر صفو متعتي هذه الليلة، كلّ السينما بصالاتها وأفلامها ومنتجاتها، كل شيء بين يدي؛ هكذا مددت قدماي وتناولت قليلاً من (الفشار) الأصفر. وعندما أطفأت الإضاءات استعداداً لبدء العرض، أدركت معها بقلق خفيف أنني ما زلت لا أعلم ما هو الفيلم الذي سيعرض بعد عشر دقائق من الآن؛ فور انتهاء الإعلانات الترويجية. ترى، هل سيكون فيلماً رومانسيّاً أم جريمة، دراما نفسية أم كوميدية؟! أم هو بوليسي ممل؟! ظللت أتساءل بشغف حتى تهادت إلى مسامعي من الجهة المقابلة عبارة عنيفة جدّاً، نطقت بها امرأة حين أطلّت بصوت باهٍ مفتتحة عرض الفيلم قائلة: «إن لم يكف الماضي عن ملاحقتك؛ فهناك لطخة لم تزل عالقة في منتصف ضميرك». كانت افتتاحية غاية في الروعة والحماسة، وزعمت حينها أنّ نهايته ستبقى في الذاكرة إلى الأبد. كنت أتوق كثيراً إلى مشاهدة الطريقة التي سينتهي عليها الفيلم، إلّا أنّ سرعان ما أشعلت الأضواء وهلّ تصفيق حار يكاد لا يتوقف داخل رأسي!