يجافي بعض المدونين والباحثين والموثقين، الموضوعية والأمانة العلمية والأدبية، ويميل مع هوى نفس أو أيديولوجيا، أو نفع ما، فيميل لصالح طرف أو مجموعة، أو تيار، ويعتني بأفراد لاعتناقهم ما يرضيه من توجهاته، ويهمل آخرين لذاتية مفرطة، وأنانية غير مبررة.. وهنا نستعيد مع نخبة من النقاد، توثيق السيرة الثقافية، والفعل الثقافي بين الإنصاف والانحياز؛ فيرى الشاعر الأكاديمي الدكتور أحمد قران الزهراني، أنه لو اعتمدنا على التعريف الشامل للثقافة، فإننا سندخل في متاهة كبيرة، كون الثقافة بمفهومها الشامل تعني الأدب والتاريخ والفنون والعادات والتقاليد والسلوك وغيرها، ويذهب إلى أن لكل جانب من هذه الجوانب منهجيته العلمية التي تحدد عملية التوثيق مع الأخذ في الاعتبار تأثير الأوضاع الاجتماعية والسياسية حال التدوين والكتابة والتوثيق، واتجاهات الباحث العرقية والدينية والطائفية وتوجهه الثقافي بشكل عام، ودعا قران الذين يتصدون لكتابة التاريخ بشكل عام وتاريخ الثقافة بشكل خاص، أن يكونوا منصفين؛ لأن كتاباتهم ستؤثر على أجيال متعاقبة، وسيستند إليها باحثون كثر عبر الزمن، مشيراً إلى أن المؤرخ لقضية من القضايا حدثت في عصره وزمنه، دون توثيق الوقائع والأحداث والثقافة بشكل منصف، يعني أن هناك عملية تزوير في تلك الأحداث.
وأكد قران على الحيادية؛ إذ ربما تؤدي إلى الإنصاف لأن الكاتب أو المؤرخ ينظر في هذه الحالة إلى الأحداث بعين واقعية لا تميل مع تيار ضد آخر، وبالتالي فإنه في الغالب يكون منصفاً، وعدّ الانحياز في توثيق وكتابة التاريخ، تضخيماً للإنجازات والأشخاص الذي يميل معهم، والتقليل أو تغييب منجزات الشخصيات التي يقف موقفاً مضاداً منها.
لافتاً إلى أن المنصفين من كتاب التاريخ نقلوا أحداثاً كبيرة بكل تفاصيلها، ودونوا ثقافات الشعوب وتاريخها وشعرها وخطبها وحروبها وفنونها، ما أسهم في حفظ تلك الثقافة والفنون إلى يومنا هذا، مضيفاً بأنه لولا المؤرخون المنصفون لما عرفنا عادات وتقاليد وثقافة وفنون شعوب غير عربية؛ ومنها اليونانية والرومانية والأندلسية والصينية والأوربية والهندية والإفريقية وغيرها، ولولاهم لاندثر الكثير من تلك الثقافات والفنون، مؤكداً أن الإنسان مجبول على الميل؛ وفق ما تقوده اتجاهاته.
فيما عدّ الناقد الدكتور أحمد بن عيسى الهلالي، رصد وتوثيق الفعل الثقافي بمؤسساته وشخصياته من الأعمال المهمة لقراءة المرحلة آنياً ومستقبلاً، مشيراً إلى أن ثمة رجالات اضطلعوا بالدور، وهم محل ثقة لأمانتهم العلمية وقدراتهم المعرفية، ويرى الهلالي أن الموضوعية سبيل الوثوق بموثقي ومؤرخي الفعل الثقافي، كون الذاتية بطبيعتها تحرف مسار الأحداث، وعدّها عيباً عند بعض كُتَّاب السيرة الذاتية، ويُخشى منه أثناء عزمهم على كتابة سيرهم، إذ كلما نأى المؤرخ الثقافي عن ذاتيته وحساباته الشخصية (السلبية والإيجابية)، كانت معلوماته أكثر موثوقية من الآخر الذي تتبدى ذاتيته في ثنايا تأريخه. وقال: لا يجازف موثق أو مؤرخ ثقافي بمصداقية وثيقته التاريخية إلا في حالات قليلة تتجلى فيها بشرية الكاتب وضعفه أمام بعض المغريات أو يستجيب للدوافع النفسية، فينحاز أحياناً إلى النفعية، وذلك من خلال إضفاء ضياءات غير مستحقة، على شخصيات أو مؤسسات، أو ينحاز إلى ذاتية مغلفة بالحسابات الخاصة فيحجب منجزات مستحقة عن مؤسسات أو شخصيات، أو يحاول التقليل منها، ويرى أنه غالباً ما تكون مثل هذه الأفعال (المشينة) مكشوفة للمتخصصين والعارفين، إلا أن انكشافها لا يغني عن واجب كشفها وإشهارها للناس، وتبيين الحقائق المزورة؛ لأن تلك المؤلفات تروج بين الناس، وربما تصبح وثائق تاريخية في الأجيال القادمة، وتقدم صورة خاطئة عن مرحلة ما.
وذهب الهلالي إلى أن أشد الخطر، يأتي من تلك المؤلفات المغمورة؛ التي تظل ساكنة زمناً طويلاً، ثم تروج بين الناس في وقت ربما ينعدم فيه العارفون بالزمن الذي ألفت فيه أو عنه، وتطلّع إلى أن تكون أعين المؤسسات الثقافية؛ وعلى رأسها وزارة الثقافة ودارة الملك عبدالعزيز، وبصر المتخصصين والباحثين مفتوحة على كل ما يصدر في موضوع التوثيق الثقافي، بجميع أنواعه المكتوبة والمسموعة والمرئية، كون التاريخ الممزوج بالذاتية غالبا ما يفقد أهميته وتتهم معلوماته وأمانة كاتبه.
وتؤكد الناقدة الدكتورة أسماء الأحمدي، أن كتابة تاريخ الثقافة -بأشكالها المتعددة- شاهد على مراحل وكيانات أدبية، لذا ينبغي أن تكون على أسس ومعايير واضحة، كون التوثيق يمثلُ تاريخاً ممتداً لا يقبل التشويه، أو الارتهان لمزاجية المدوّن أو علاقاته. وقالت: في حقيقة الأمر هذا ما ينخر في جسد الثقافة ويُدميها، ويجعل في مسارها نتوءات يصعب تمهيدها أو ترميمها؛ إذ يرحل الكاتب ويبقى ما دوّنه من وثائق، إمّا شاهدة على تاريخ نزيه، أو خلاف ذلك، ودعت أصحاب القرار للتريّث -قليلاً.. كثيراً- قبل إسناد هذه المهمة، أو البتّ فيها دون دراسة، فالأمر لا يتعلّق بمرحلة آنية، أو التفاف جماعة ما، يأخذ بعضها بزمام بعض، المسألة أبعد من ذلك بكثير؛ وعدّت من العدالة والإنصاف، عقد لجنة لا تنتسب للمؤسسة الثقافية، ومن ثم يُوكل لها الأمر بشفافية عالية، وتطلعت إلى الاستعانة بأصحاب القلم التوثيقي -الاحترافي- من داخل وخارج البلاد، واختيار لجنة عليا من جهة مستقلة تراقب سير العمل، وتوجهه بالمتابعة والتدقيق، دون علاقة مباشرة بين الجهتين. وأضافت الأحمدي: بأي حال من الأحوال، مهما ادّعينا النّزاهة والموضوعيّة، سيبقى التّاريخ بسجلاته شاهداً ممتداً على الأشخاص، ومن سعى لرسم أبعاد المنجزات بأمانة واجتهاد.
وعدّ الكاتب وحيد الغامدي سطوة الانطباع عن الآخر؛ أكبر مشكلة تواجه كثيراً من المثقفين والمؤرخين والنقاد، ما يؤثر على دقة ومصداقية أطروحاتهم العلمية والنقدية والتاريخية وغيرها، ويراها مشكلة نادراً ما ينجو منها معنيّ بالتوثيق، بمن فيهم أولئك الذين أوتوا القدرة على الفصل الحاد والحاسم بين الانطباع الشخصي، والحقيقة الماثلة.
ويرى الغامدي أن كل ذلك ناتج عن تلك الحالة من سطوة الانطباع، والميل، والهوى، التي يفترض بمن يطلق عليهم (النخبة)، كما يحبون أن يوصفوا دائماً، أن يكونوا أبعد عنها وعن منطقها الطفولي غير الناضج؛ إذ لن يكون هناك فرق جوهري -في هذه الحالة- بينهم وبين عامة الناس فعلياً في هذه المعايير من الفرز والتقييم، مؤكداً أن الاحتمالات تحتّم علينا أن نعيد قراءة التاريخ، والنقد، والتراجم... بوعي متجّرد من الارتهان لأمزجة كتّابه الأوائل، وميولهم في مرحلتهم الزمنية، وعلاقاتهم التي كانوا محكومين بها. فضلاً عن ضرورة تلك العملية من (الغربلة) والشك المستمر فيما يُعتقد أنها حقائق ثابتة في التاريخ؛ وذلك لفتح الباب لطرح التساؤلات الجادة التي تنهض بالعقل.
ويذهب الشاعر عبدالعزيز أبو لسة، إلى أنه في ظل عدم وجود منهجية لتوثيق الفعل الثقافي، إذا ما استثنينا دارة الملك عبدالعزيز؛ التي تمارس فعلاً دقيقاً وموضوعياً بما في ذلك قائل (بيت من الشعر) ربما نُسب إلى أكثر من شاعر، فنجدها تدقق كثيراً لتصل إلى الحقيقة، وأكد أبو لسة أنه لا يعمم، إلا أنه يجب أن نحدد الوصف الوظيفي لمؤرخ الفعل الثقافي؛ بمعنى ماذا يجب عليه القيام به انطلاقاً من سيرته الثقافية والمعرفية، لافتاً إلى أنه عندما يكتب عن التاريخ الثقافي، مثقف بقامة ومهارة محمّد القشعمي أو خالد اليوسف فيجب التوقف عند هذين الاسمين والتعامل مع منتجهما باحترام، وأضاف: فيما غيرهم، يظل الأمر فيه نظر، ولن ينجو التوثيق من المحاباة أو الانحياز أو حتى النفعية وربما يذهب الى الحسد، ويرى أبو لسة أن هناك أسماء طغت النرجسية وتضخمت الأنا لديهم، خصوصاً في كتاباتهم عن التوثيق والسير الثقافية، وصنع لنفسه دوراً أبوياً مفتعلاً وكأنه قيّم على من هو المثقف ومن هو غير المثقف، وتطلع إلى أن يميّز الحراك الثقافي المعرفي في بلادنا بين الجدير بالتوثيق من غيره.
فيما ترى الروائية الدكتورة هناء حجازي، أن كتابة تاريخ الثقافة يجب ألا تكون منحازة؛ كونه أمراً بديهياً، وتساءلت: متى كان الإنسان منصفاً، أو بعيداً عن الهوى. هل تتخيل أن لا تذكر اسم شخص كان شاغل الناس وأنت توثق لفترة ما فقط؛ لأنك لا تحبه أو لأن بينك وبينه مشكلة شخصية. لا تحب فكره، لا تحب شكله، الطريقة التي يكتب بها ليست على مزاجك. وأوضحت أن هناك كل أنواع الضغائن الصغيرة والكبيرة التي تتحكم في مدون تاريخ الثقافة. يحدث ذلك دائماً، ما يجعلنا تتساءل عن المعايير التي يضعها أي شخص لنفسه قبل أن يبدأ في الكتابة. ولفتت إلى أن النزاهة والإنصاف، تبدوان من الكلمات السهلة وتعتقد أنها ضرورية وبديهية إلا أنه، في عالم الإنسان، تصبح ساذجاً إذا تصورت أن الانحيازات لا تحدث.
توفيق قريرة: تاريخ عربي بريشة أجنبيّة
أكد أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية الدكتور توفيق قريرة، أن العرب يمتلكون؛ كونهم من أعرق الشعوب، ثقافة ثريّة ثراؤها نابع من اتساع رقعتها الجغرافية ومن أنّها ضاربة في القدم ومتفاعلة مع ثقافات مجاورة تعاملت معها بشكل ما من أشكال التعامل السلميّ أو الحربيّ. وتحتاج ثقافة كهذه أن يُكتب لها تاريخ منصف، يكتبه أبناؤها بعيون محايدة وبالتركيز على نقاط تَفاعلها والتقائها مع الثقافات الإنسانية الأخرى وتأثيرها فيها وتأثّرها بها. لكن وقبل البحث عن تاريخ منصف للثقافة العربية فالعربيّة الإسلاميّة، ينبغي أن نبيّن بالاستعانة بالمختصين في مجال التاريخ الثقافي ما الجوانب التي تصلح أن تكون بوّابات مهمّة إلى هذه الثقافة.
وأوضح قريرة أنه لا يمكن أن نكتب تاريخاً للثقافة محايداً من غير أن نستعين بمؤرّخين اختصاصهم تاريخ الأفكار والعقليات؛ التي يمكن أن تكون عرفتها ثقافة كالثقافة العربية الإسلامية بالإضافة واختصاصهم دراسة الفئات الاجتماعية: كيف تتشكل وكيف تضغط وكيف تنتج ثقافتها فتمارس بها هيمنة أو تمارس عليها هيمنة من فئات اجتماعيّة أخرى.. وما من شكّ في أنّ تأريخاً ثقافيّاً محايداً كهذا يحتاج جرداً خطاطياً عاماً وتفصيلياً للتمثيلات الثقافيّة؛ التي عايش بها الكائن الثقافي العربي فرداً أو مجتمِعاً محيطَه العقدي، ومارس به أنشطته اليومية النفعيّة والرمزية.
وأضاف: يمكن القول إنّ التّأريخ للثقافة العربية كُتب في الغالب بريشة أجنبيّة كانت إمّا راضية إلى حدّ الانبهار عن هذه الثقافة، وإمّا نافرة منها حدّ السخط. النزعة الانبهارية كانت تنظر بعين معجبة إلى سحر الشرق فترى الحضارة العربية الإسلامية على أنّها قطعة من سحر الشرق المتسع؛ الذي يمتد من سِيناء إلى جدار الصين العظيم دون أن تبرز خصوصية (السحر) العربيّ الدائر حول مجموعة من القيم بعينها مثل الفروسية والكرم وحول قيمة الكلمة في نحت الكون الثقافي العامّ والذائقة الفنيّة المشتركة. أمّا النزعة الساخطة، وقد كانت مؤثّرة للأسف أكثر من غيرها في كتابة التاريخ الثقافي العربي، فلقد جنحت إلى التشويه والنقد المبني في الغالب على مقارنات دينية متعصبة أو مقارنات حضارية لا تراعي التطور الطبيعي للثقافات المخصوصة حتى تصل إلى بناء ذاتها الناقدة فالعارفة فالمطوّرة.
ويرى أن بناء تاريخ للثقافة محايد ينبغي أن يكتب أوّلا بحروف تلك الثقافة، ويكتبه مؤرخون واعون بأنّ لثقافة معيّنة خصوصيّات ولها عمق، وخلف ذلك كلّه مقولات يمكن أن تكون كونية ينبغي سبرها من غير أن تقود الدراسة إلى أن ترمي تلك الثقافة المدروسة في أحضان مقولات كونية لا تستوعبها إلاّ بالعسف والمغالبة.
وأكد قران على الحيادية؛ إذ ربما تؤدي إلى الإنصاف لأن الكاتب أو المؤرخ ينظر في هذه الحالة إلى الأحداث بعين واقعية لا تميل مع تيار ضد آخر، وبالتالي فإنه في الغالب يكون منصفاً، وعدّ الانحياز في توثيق وكتابة التاريخ، تضخيماً للإنجازات والأشخاص الذي يميل معهم، والتقليل أو تغييب منجزات الشخصيات التي يقف موقفاً مضاداً منها.
لافتاً إلى أن المنصفين من كتاب التاريخ نقلوا أحداثاً كبيرة بكل تفاصيلها، ودونوا ثقافات الشعوب وتاريخها وشعرها وخطبها وحروبها وفنونها، ما أسهم في حفظ تلك الثقافة والفنون إلى يومنا هذا، مضيفاً بأنه لولا المؤرخون المنصفون لما عرفنا عادات وتقاليد وثقافة وفنون شعوب غير عربية؛ ومنها اليونانية والرومانية والأندلسية والصينية والأوربية والهندية والإفريقية وغيرها، ولولاهم لاندثر الكثير من تلك الثقافات والفنون، مؤكداً أن الإنسان مجبول على الميل؛ وفق ما تقوده اتجاهاته.
فيما عدّ الناقد الدكتور أحمد بن عيسى الهلالي، رصد وتوثيق الفعل الثقافي بمؤسساته وشخصياته من الأعمال المهمة لقراءة المرحلة آنياً ومستقبلاً، مشيراً إلى أن ثمة رجالات اضطلعوا بالدور، وهم محل ثقة لأمانتهم العلمية وقدراتهم المعرفية، ويرى الهلالي أن الموضوعية سبيل الوثوق بموثقي ومؤرخي الفعل الثقافي، كون الذاتية بطبيعتها تحرف مسار الأحداث، وعدّها عيباً عند بعض كُتَّاب السيرة الذاتية، ويُخشى منه أثناء عزمهم على كتابة سيرهم، إذ كلما نأى المؤرخ الثقافي عن ذاتيته وحساباته الشخصية (السلبية والإيجابية)، كانت معلوماته أكثر موثوقية من الآخر الذي تتبدى ذاتيته في ثنايا تأريخه. وقال: لا يجازف موثق أو مؤرخ ثقافي بمصداقية وثيقته التاريخية إلا في حالات قليلة تتجلى فيها بشرية الكاتب وضعفه أمام بعض المغريات أو يستجيب للدوافع النفسية، فينحاز أحياناً إلى النفعية، وذلك من خلال إضفاء ضياءات غير مستحقة، على شخصيات أو مؤسسات، أو ينحاز إلى ذاتية مغلفة بالحسابات الخاصة فيحجب منجزات مستحقة عن مؤسسات أو شخصيات، أو يحاول التقليل منها، ويرى أنه غالباً ما تكون مثل هذه الأفعال (المشينة) مكشوفة للمتخصصين والعارفين، إلا أن انكشافها لا يغني عن واجب كشفها وإشهارها للناس، وتبيين الحقائق المزورة؛ لأن تلك المؤلفات تروج بين الناس، وربما تصبح وثائق تاريخية في الأجيال القادمة، وتقدم صورة خاطئة عن مرحلة ما.
وذهب الهلالي إلى أن أشد الخطر، يأتي من تلك المؤلفات المغمورة؛ التي تظل ساكنة زمناً طويلاً، ثم تروج بين الناس في وقت ربما ينعدم فيه العارفون بالزمن الذي ألفت فيه أو عنه، وتطلّع إلى أن تكون أعين المؤسسات الثقافية؛ وعلى رأسها وزارة الثقافة ودارة الملك عبدالعزيز، وبصر المتخصصين والباحثين مفتوحة على كل ما يصدر في موضوع التوثيق الثقافي، بجميع أنواعه المكتوبة والمسموعة والمرئية، كون التاريخ الممزوج بالذاتية غالبا ما يفقد أهميته وتتهم معلوماته وأمانة كاتبه.
وتؤكد الناقدة الدكتورة أسماء الأحمدي، أن كتابة تاريخ الثقافة -بأشكالها المتعددة- شاهد على مراحل وكيانات أدبية، لذا ينبغي أن تكون على أسس ومعايير واضحة، كون التوثيق يمثلُ تاريخاً ممتداً لا يقبل التشويه، أو الارتهان لمزاجية المدوّن أو علاقاته. وقالت: في حقيقة الأمر هذا ما ينخر في جسد الثقافة ويُدميها، ويجعل في مسارها نتوءات يصعب تمهيدها أو ترميمها؛ إذ يرحل الكاتب ويبقى ما دوّنه من وثائق، إمّا شاهدة على تاريخ نزيه، أو خلاف ذلك، ودعت أصحاب القرار للتريّث -قليلاً.. كثيراً- قبل إسناد هذه المهمة، أو البتّ فيها دون دراسة، فالأمر لا يتعلّق بمرحلة آنية، أو التفاف جماعة ما، يأخذ بعضها بزمام بعض، المسألة أبعد من ذلك بكثير؛ وعدّت من العدالة والإنصاف، عقد لجنة لا تنتسب للمؤسسة الثقافية، ومن ثم يُوكل لها الأمر بشفافية عالية، وتطلعت إلى الاستعانة بأصحاب القلم التوثيقي -الاحترافي- من داخل وخارج البلاد، واختيار لجنة عليا من جهة مستقلة تراقب سير العمل، وتوجهه بالمتابعة والتدقيق، دون علاقة مباشرة بين الجهتين. وأضافت الأحمدي: بأي حال من الأحوال، مهما ادّعينا النّزاهة والموضوعيّة، سيبقى التّاريخ بسجلاته شاهداً ممتداً على الأشخاص، ومن سعى لرسم أبعاد المنجزات بأمانة واجتهاد.
وعدّ الكاتب وحيد الغامدي سطوة الانطباع عن الآخر؛ أكبر مشكلة تواجه كثيراً من المثقفين والمؤرخين والنقاد، ما يؤثر على دقة ومصداقية أطروحاتهم العلمية والنقدية والتاريخية وغيرها، ويراها مشكلة نادراً ما ينجو منها معنيّ بالتوثيق، بمن فيهم أولئك الذين أوتوا القدرة على الفصل الحاد والحاسم بين الانطباع الشخصي، والحقيقة الماثلة.
ويرى الغامدي أن كل ذلك ناتج عن تلك الحالة من سطوة الانطباع، والميل، والهوى، التي يفترض بمن يطلق عليهم (النخبة)، كما يحبون أن يوصفوا دائماً، أن يكونوا أبعد عنها وعن منطقها الطفولي غير الناضج؛ إذ لن يكون هناك فرق جوهري -في هذه الحالة- بينهم وبين عامة الناس فعلياً في هذه المعايير من الفرز والتقييم، مؤكداً أن الاحتمالات تحتّم علينا أن نعيد قراءة التاريخ، والنقد، والتراجم... بوعي متجّرد من الارتهان لأمزجة كتّابه الأوائل، وميولهم في مرحلتهم الزمنية، وعلاقاتهم التي كانوا محكومين بها. فضلاً عن ضرورة تلك العملية من (الغربلة) والشك المستمر فيما يُعتقد أنها حقائق ثابتة في التاريخ؛ وذلك لفتح الباب لطرح التساؤلات الجادة التي تنهض بالعقل.
ويذهب الشاعر عبدالعزيز أبو لسة، إلى أنه في ظل عدم وجود منهجية لتوثيق الفعل الثقافي، إذا ما استثنينا دارة الملك عبدالعزيز؛ التي تمارس فعلاً دقيقاً وموضوعياً بما في ذلك قائل (بيت من الشعر) ربما نُسب إلى أكثر من شاعر، فنجدها تدقق كثيراً لتصل إلى الحقيقة، وأكد أبو لسة أنه لا يعمم، إلا أنه يجب أن نحدد الوصف الوظيفي لمؤرخ الفعل الثقافي؛ بمعنى ماذا يجب عليه القيام به انطلاقاً من سيرته الثقافية والمعرفية، لافتاً إلى أنه عندما يكتب عن التاريخ الثقافي، مثقف بقامة ومهارة محمّد القشعمي أو خالد اليوسف فيجب التوقف عند هذين الاسمين والتعامل مع منتجهما باحترام، وأضاف: فيما غيرهم، يظل الأمر فيه نظر، ولن ينجو التوثيق من المحاباة أو الانحياز أو حتى النفعية وربما يذهب الى الحسد، ويرى أبو لسة أن هناك أسماء طغت النرجسية وتضخمت الأنا لديهم، خصوصاً في كتاباتهم عن التوثيق والسير الثقافية، وصنع لنفسه دوراً أبوياً مفتعلاً وكأنه قيّم على من هو المثقف ومن هو غير المثقف، وتطلع إلى أن يميّز الحراك الثقافي المعرفي في بلادنا بين الجدير بالتوثيق من غيره.
فيما ترى الروائية الدكتورة هناء حجازي، أن كتابة تاريخ الثقافة يجب ألا تكون منحازة؛ كونه أمراً بديهياً، وتساءلت: متى كان الإنسان منصفاً، أو بعيداً عن الهوى. هل تتخيل أن لا تذكر اسم شخص كان شاغل الناس وأنت توثق لفترة ما فقط؛ لأنك لا تحبه أو لأن بينك وبينه مشكلة شخصية. لا تحب فكره، لا تحب شكله، الطريقة التي يكتب بها ليست على مزاجك. وأوضحت أن هناك كل أنواع الضغائن الصغيرة والكبيرة التي تتحكم في مدون تاريخ الثقافة. يحدث ذلك دائماً، ما يجعلنا تتساءل عن المعايير التي يضعها أي شخص لنفسه قبل أن يبدأ في الكتابة. ولفتت إلى أن النزاهة والإنصاف، تبدوان من الكلمات السهلة وتعتقد أنها ضرورية وبديهية إلا أنه، في عالم الإنسان، تصبح ساذجاً إذا تصورت أن الانحيازات لا تحدث.
توفيق قريرة: تاريخ عربي بريشة أجنبيّة
أكد أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية الدكتور توفيق قريرة، أن العرب يمتلكون؛ كونهم من أعرق الشعوب، ثقافة ثريّة ثراؤها نابع من اتساع رقعتها الجغرافية ومن أنّها ضاربة في القدم ومتفاعلة مع ثقافات مجاورة تعاملت معها بشكل ما من أشكال التعامل السلميّ أو الحربيّ. وتحتاج ثقافة كهذه أن يُكتب لها تاريخ منصف، يكتبه أبناؤها بعيون محايدة وبالتركيز على نقاط تَفاعلها والتقائها مع الثقافات الإنسانية الأخرى وتأثيرها فيها وتأثّرها بها. لكن وقبل البحث عن تاريخ منصف للثقافة العربية فالعربيّة الإسلاميّة، ينبغي أن نبيّن بالاستعانة بالمختصين في مجال التاريخ الثقافي ما الجوانب التي تصلح أن تكون بوّابات مهمّة إلى هذه الثقافة.
وأوضح قريرة أنه لا يمكن أن نكتب تاريخاً للثقافة محايداً من غير أن نستعين بمؤرّخين اختصاصهم تاريخ الأفكار والعقليات؛ التي يمكن أن تكون عرفتها ثقافة كالثقافة العربية الإسلامية بالإضافة واختصاصهم دراسة الفئات الاجتماعية: كيف تتشكل وكيف تضغط وكيف تنتج ثقافتها فتمارس بها هيمنة أو تمارس عليها هيمنة من فئات اجتماعيّة أخرى.. وما من شكّ في أنّ تأريخاً ثقافيّاً محايداً كهذا يحتاج جرداً خطاطياً عاماً وتفصيلياً للتمثيلات الثقافيّة؛ التي عايش بها الكائن الثقافي العربي فرداً أو مجتمِعاً محيطَه العقدي، ومارس به أنشطته اليومية النفعيّة والرمزية.
وأضاف: يمكن القول إنّ التّأريخ للثقافة العربية كُتب في الغالب بريشة أجنبيّة كانت إمّا راضية إلى حدّ الانبهار عن هذه الثقافة، وإمّا نافرة منها حدّ السخط. النزعة الانبهارية كانت تنظر بعين معجبة إلى سحر الشرق فترى الحضارة العربية الإسلامية على أنّها قطعة من سحر الشرق المتسع؛ الذي يمتد من سِيناء إلى جدار الصين العظيم دون أن تبرز خصوصية (السحر) العربيّ الدائر حول مجموعة من القيم بعينها مثل الفروسية والكرم وحول قيمة الكلمة في نحت الكون الثقافي العامّ والذائقة الفنيّة المشتركة. أمّا النزعة الساخطة، وقد كانت مؤثّرة للأسف أكثر من غيرها في كتابة التاريخ الثقافي العربي، فلقد جنحت إلى التشويه والنقد المبني في الغالب على مقارنات دينية متعصبة أو مقارنات حضارية لا تراعي التطور الطبيعي للثقافات المخصوصة حتى تصل إلى بناء ذاتها الناقدة فالعارفة فالمطوّرة.
ويرى أن بناء تاريخ للثقافة محايد ينبغي أن يكتب أوّلا بحروف تلك الثقافة، ويكتبه مؤرخون واعون بأنّ لثقافة معيّنة خصوصيّات ولها عمق، وخلف ذلك كلّه مقولات يمكن أن تكون كونية ينبغي سبرها من غير أن تقود الدراسة إلى أن ترمي تلك الثقافة المدروسة في أحضان مقولات كونية لا تستوعبها إلاّ بالعسف والمغالبة.