محمد حبيبي
محمد حبيبي




علي الحفظي
علي الحفظي




عبدالواحد الأنصاري
عبدالواحد الأنصاري




محمد العوين
محمد العوين
-A +A
علي فايع (أبها) alma33e@
لا قيمة للأدب دون نقاش وجدال، ولا للكتابة دون نقد، ويبدو أنّ لكلّ زمان منصّته، وأسلوبه الخاص في التعبير، والنقاش، وكذلك في الخصومة.

أحيت المعارك الأدبية في الأدب العربيّ روح الكتابة والتأليف، كما أحيتها من قبل في آداب العالم المختلفة حول المدارس الأدبية، والمذاهب.


معارك عربية

في الأدب العربي كانت هذه المعارك تدور حول الشعر، والتجديد والانتحال، واللغة، والأسلوب، وحول الحداثة. كانت معارك صاخبة انتقلت بفعل الصحافة إلى الناس، فلم تعد محصورة في الأدباء والمثقفين فقط، بل اهتمّ بمتابعتها الكثير، وظلّت لسنوات شاهدة على حراك الأدب، وأهميته.

كلّ هذه المعارك كانت الصحف مبتدؤها، وربما كانت منتهاها، وهناك من أقدم على توثيقها في كتب، كما فعل أنور الجندي في كتابه الأشهر «المعارك الأدبية» التي أبرزت الخلاف حول العديد من القضايا الأدبية والثقافية، ومعارك اللغة العربية، والترجمة، أو كما فعل مصطفى صادق الرافعي في كتابه «على السفود» الذي نُشرت مقالاته في مجلة «العصور» إيماناً منهم بأن يعطوا الكتّاب أوسع فرصة للتعبير عن آرائهم والإفصاح عما تكنه صدروهم في حرية كاملة، وكما قالوا في المقدمة لكتاب «على السفود» حينما أعدّ للنشر: من أراد أن تكون «العصور» ميدانه في نقد أو دفاع فإننا نرحّب به، ونعطيه أوسع فرصة ممكنة للتعبير عما يراه من رأي في أيّ موضوع من الموضوعات، وكان الهدف الأبرز كما ذكروا هو إرضاء النفوس من نزعتها إلى تحرير النقد من عبادة الأشخاص، ذلك الداء المستعصي الذي كان سبباً في تأخر الشرق عن لحاق الأمم الأخرى في الحضارة.

معركة «مرهم التناسي»!

الدكتور محمد العوين، صاحب كتاب «المقالة في الأدب السعودي» فرّق بين المعارك الأدبية التي عرّفها بأنها خصومة بين ناقدين أو أكثر حول قضية من قضايا الأدب والفنّ، وبين المناوشة التي عرّفها بأنها خصومة أدبية صغيرة قد تتفرع فيها الآراء وتتوالى المقالات إلاّ أنها لا تصل إلى مستوى المعركة المحتدمة التي يتعدد أطرافها، ويكثر مختصوها، ويخرج بعض الناقدين فيها عن طور الاتزان والأدب العام.

وأكد العوين لـ«عكاظ» أنّ المعارك والمناوشات لم تعد تلفت الانتباه إليها، وأصبح الانشغال بها لوناً من تضييع الوقت وتشتيت الاهتمامات، ليس التعارك بالقضايا الأدبية فحسب بل حتى الانشغال بالأدب نفسه أصبح خارج اهتمامات القراء والمتابعين ويُنْظر إليه على أنه اهتمام نخبة محدودة تخاطب نفسها.

العوين استشهد في كتابه «المقالة في الأدب السعودي» على المعارك الأدبية بالمعركة التي دارت على صفحات جريدة صوت الحجاز حول قصة «مرهم التناسي» التي كتبها عبدالقدوس الأنصاري ونقدها محمد حسن عواد وآخرون، والمعركة التي دارت حول «أثر المنظر الجميل» في محاضرة حمزة شحاته الشهيرة «الرجولة عماد الخلق الفاضل» وكان أطرافها حمزة شحاتة وعبدالله عريف وأحمد عبدالغفور عطار، ودارت هذه المعركة على صفحات جريدة «صوت الحجاز» أيضا، فيما استشهد على «المناوشات» بما دار حول كتاب «الأدب الفني» لمحمد حسن كتبي بدأها عزيز ضياء بمقالة نقدية ساخطة على الهيئة التي خرج بها الكتاب، وصلة هذا الاسم بما يحويه من درس نقدي لبعض ألوان الكتابة، والرد عليها من قبل أحمد عبدالغفور عطار.

المعارك الأدبية وحياة الناس

السؤال اليوم عن هذه المعارك لم يعد مجدياً، بعد أن سحبت التغيرات الكثيرة في حياة الناس البساط من تحت أقدام الأدباء والمثقفين الذين كانوا يختلفون حول القصيدة والكتاب والمقالة، أما اليوم فاختلاف الناس حول السياسة والدين والحياة بمأكلها ومشربها وملبسها أهمّ وأبقى.

مساجلات ومناوشات لا معارك

الدكتور محمد حبيبي رأى أنّ ما يظهر ما بين فينة وأخرى أخيراً لا يرتقي إلى صفة المعارك الأدبية والثقافية فهي لا تعدو مساجلات ومناوشات غالباً لا تستطيع الصمود لفترة قبل أن تتقوض وتتلاشى إما لفرط انفعاليتها وإما لخروجها مبكراً عن مسارها من اختلاف حول قضية إلى إمعان في الانتصار لذوات المتساجلين. وأضاف: المعارك الأدبية كانت رائدة في التأصيل لأجناس أدبية وأشكال إبداعية جديدة كالتي أثيرت في بدايات الأدب السعودي حول رواية «التوأمان» لعبد القدوس الأنصاري ومدى أهلية ذلك النص لإدراجه بصفته أدباً سردياً لم يكن معروفاً من قبل حيث السائد هو الشعر، أو تلك المعارك التي دارت في السبعينات الهجرية حول «الشعر المنثور» بصحيفة «القبلة»، ومعركة الحداثة بين أنصارها وخصومها، وغيرها من المعارك التي لم تكن أدبية خالصة وطال النقاش حولها وتعددت الأسماء المشاركة بها كـ «جيم» جدة وموقع سوق عكاظ.

معركة حول اسم عسير

أما الأديب علي الحسن الحفظي فقد استشهد بما كان يدور في الصحافة السعودية منذ عام ١٣٨٢ للهجرة وما شهدته من حوارات ومناقشات أدبية وتاريخية بين المهتمين في هذا الشأن من المثقفين في المملكة على اختلاف جغرافيتها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً. وذكر أنّ مثقفي منطقة عسير كان لهم وضوح بارز ونشاط متميز في هذه الحوارات. وأضاف: على الرغم من تأخر وصول الصحف إلى مدينة أبها ومن ثم بقية قرى المنطقة إلّا أنّها لم تقف عائقاً عن النقاش في أمر تاريخي أو أدبي، إذ برزت أسماء ثقافية مثل تركي بن محمد بن ماضي، وعبدالله بن علي بن حميد، وعلي علوان، والحسن بن علي الحفظي، وغيرهم، إضافة إلى أدباء معاصرين لهم في نجد والحجاز وجازان. وأكد أنّ ما حدث في الحوار التاريخي الذي أثاره تساؤل تركي بن محمد الماضي عن سبب تسمية عسير بهذا الاسم كان شاهداً على هذا الحضور في جريدة «عكاظ» وفي صفحة ملحقة بها اسمها «صفحة عسير» وكان هذا الحوار صاخباً ومشتعلاً بينه وبين المهتمين من المثقفين في المنطقة أمثال عبدالله بن علي بن حميد وعلي علوان وآخرين.

الحفظي أشار إلى أنّ هذه الحوارات والنقاشات حول الأدب والثقافة كانت تطالعنا بها صحف «عكاظ» و«الندوة» و«المدينة» فتثير حركة البحث عند الشباب والكبار، وتسهم في إثراء الحركة التاريخية والأدبية والفكرية.

وسائل التواصل

الحديثة ساحات للمعارك

انتقلت المعارك والمناوشات من الصحف والمجلات إلى وسائل التوصل الحديثة، فكان النصيب الأكبر من هذه المعارك لمنصتي «X - تويترسابقاً» و«فيسبوك» اللتين استفردتا باهتمام الأدباء والمثقفين في السعودية، ولعلّ السجال الذي دار بين الناقد حسين بافقيه وعدد من الأدباء والمثقفين السعوديين كان واحداً من تلك المعارك التي اختلف عليها الناس، ما بين مؤيد ومناصر وصامت اكتفى بالمتابعة.

لم تكن ساحة هذه المعارك الصحف ولا المجلات هذه المرة، ولا الكتب، بل كانت ساحتها شبكات التواصل الاجتماعي، والمنصات الحديثة «تويتر، فيسبوك» بدأها بافقيه بما وصفه بـ«المراجعات» في كتب ومقالات عدد من النقاد السعوديين، مثل عبدالله الغذامي وسعد البازعي ومعجب الزهراني وأخيراً سعيد السريحي، الذي توقفت عنده هذه المراجعات كثيراً، لتتحول إلى تصفية حسابات قديمة بين بافقيه والسريحي، وإلى جدل لم ينتهِ ما بين متابعين في «فيسبوك» يصطفون مع الناقد بافقيه، وآخرين في «تويتر» يصطفون مع الناقد سعيد السريحي.

إعادة النظر في المشهد الأدبي

بافقيه ذكر في أكثر من منشور أنّ هدفه من هذه الكتابات كان إعادة النَّظَر في المشهد الأدبيّ والثَّقافيّ في الثَّقافة العربيَّة الحديثة، وكان بالإمكان أنْ يكتبَ منشوراً أوْ منشورين ثُمَّ يمضي إلى شأنٍ آخَرَ، لكنّ ما جعله يستمرّ أنّ المتابعين كانوا يظهرون إعجابهم، ويستحثُّونه على أنْ يواصل السَّير، وكان -كما قال- يتحسَّسُ رضا متابعيه ونقدهم حتَّى تمضي مراجعاته وتستمِرّ.

ناقدان «على باب الله»

كانت المقالة التي قسمت متابعي بافقيه إلى «مع أو ضد» ما كتبه عن الناقد سعيد السريحي في منشور تحت عنوان «ناقدان على باب الله» وكان يقصد بهما الغذامي والسريحي، ليس لأنّ هناك من لا يرى أهميّة لما كتب أو قيمة لهذه المراجعات، لكنّ هناك من رأى أنّ ما كتبه بافقيه عن السريحي انحاز للذاتي على حساب الكتابة العلمية والموضوعية.

كانت بداية الشرارة لهذا الخلاف ما كتبه بافقيه عن سجال البنيوية الذي بدأ بين أحمد الشَّيبانيّ وعبدالله الغذَّاميّ وسعيد السريحي في وقت كانت حركة الحداثة في السعودية على أشدّها، وكان الغذامي والسريحي يملآن الحياة الأدبية صخباً وضجيجاً وحديثاً عن البنيوية صباح مساء «كما قال بافقيه» ولكن ظهر لهما أحمد الشيباني فأكل الغذامي، ووصف بافقيه السريحي بالمثقف الكبير، متى ما قِسْناه بعقْلِهِ لا بعِلْمِهِ!

السريحي يرد

ما كتبه بافقيه رد عليه السريحي بتغريدة في «تويتر» وصف فيها بافقيه بـ«المراهق» الذي أدركته متأخراً فقام يتوعد أن يتخذني مثالاً لما يسميه مراجعات، وليس لي إلّا أن أقول له: اجهد جهدك ثم اجهد جهدك ولا أبقى الله عليك إن أبقيت ولا عفا الله عنك إن عفوت!

مراشقات وتسخين!

لم ينتهِ الجدل في هذه المراجعات، بمنشور هنا وتغريدة هناك، ولم يبقَ محصوراً في السريحي وبافقيه فقط، إذ شارك في هذا السجال أدباء ونقاد ومهتمون وبعض المتعاطفين الذين تحمس لهم الناقد حسين بافقيه كثيراً، فأخذ يعرض منشوراتهم، ويثني كثيراً على ما كتبوا.

أما الأدباء فقد انقسموا إلى قسمين: أناس يكتبون آراءهم بشكل واضح وصريح، وآخرون يكتبون بتعمية وتهويم لا يتبين موقفهم مما حدث ولا مع من يصطفون إلاّ أنّ بعض المنشورات لم تخلُ من لغة التشفي، وأنها فرصة للحضور واهتبال الموقف واستغلاله!

من الكّتّاب والأدباء الذين كتبوا بشكل صريح الشاعر والكاتب أحمد السيد عطيف الذي أكد أنه سعيد بما رأى من «مراشقات» بين أسماء مشغولة بالأدب والنقد، وتمنى أن يكون هذا مجرد تسخين لتراشق جاد وعميق ينفع الناس ويمكث في الأرض!

القراءة لا تنتج ناقداً حصيفاً

الدكتور أحمد الهلالي كان الأكثر اصطداماً في هذه المراجعات ومواجهة بشكل مباشر مع الناقد حسين بافقيه، إذ كتب في صفحته على «فيسبوك» أكثر من منشور، أكد فيها أنّه مع النقد والمراجعة إذا اتجهت إلى النتاج الفكري والإبداعي لفرد أو جماعة أو مرحلة. وأضاف: مراجعة المراحل تكون في خطوط زمنية مختلفة، بحسب الزمن أو المدرسة الأدبية كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والحداثة وما بعدها، وتخضع المراجعة لزاوية النظر التي يتغياها الناقد، والمراجعة في ذاتها تدل على حيوية الثقافة وقوتها، ما دامت غاية أهلها الاستفادة من التجارب السابقة واللاحقة، أما إنْ اتجهت الغاية إلى الإثارة فإنها لن تجوز ذلك، وستموت المراجعة في لحود المماحكات والضغائن.

الهلالي ذكر أنّ للمراجعة أسساً علمية يتحتم على المراجع أن يتحلى بها، ويمتلك أدواتها، فالنقد طريق شاق في النظر، جناحاه العلمية والموضوعية، وهو رحلة مضنية في التأمل والاستقراء، وتدوين الملحوظات، واختيار المنهج.

وأكد الهلالي أنّ الحماسة والتعجل في إطلاق الأحكام يخرجها فجة، وينتجها نيئة، سرعان ما تذبل بالاتهام، وتتعفن بريبة الهوى، وشوائب النفس.

معارك «الواتساب»

الكاتب والباحث عبدالواحد الأنصاري ذكر لـ«عكاظ» أنّ المعارك الأدبية لا تبدأ بحسابات شخصية تُصفّى من خلال الأدب والثقافة، لأنّ هؤلاء ليسوا في حي أو محيط واحد، وإنما تعارفوا من خلال الأدب. الأنصاري الذي خاض العديد من المعارك الأدبية والسجالات في العديد من القضايا أمام الشاشة وفي منتديات الإنترنت وفي الصحف، أورد في كتابه الصادر حديثا «74 طريقة لتبادل اللكمات مع توم هاردي» أغرب معركة دارت في مجموعة «واتساب»، كان مبعثها كلمة «فحل» التي استشهد بها الأنصاري في تعليقه على قصيدة كتبها أحد الأدباء، لتقابل بإنكار واستهجان من قبل أدباء ومثقفين داخل هذه المجموعة، ولتتحول لدى الأنصاري إلى قضيّة كبيرة، بحث فيها الأنصاري كثيراً، ليؤصل لهذه الكلمة في التراث الأدبي والثقافي، وليؤكد بهذا أنّ المعارك الأدبية والثقافية لم تمُت، لكنها تحولت بفعل الزمن ومعطيات العصر من الصحف والمجلات و«تويتر» و«فيسبوك» إلى مجوعات «الواتساب»، وأنها ما زالت مستمرّة، وقابلة للتمدد وإنْ اختلف الوعاء الذي تصبّ فيه.