جابر مدخلي، كاتب وروائي اشتعلت حوله الآراء منذ صدور عمله الروائي الأول «مجاعة» ثم تصاعد هذا الاشتعال مع روايته الثانية «إثبات عذرية» والأخيرة «حوش عباس»؛ التي كان يطمح من خلالها إلى إيصال رسالة مفادها أن الأطفال لا ذنب لهم في ما يفعله آباؤهم وأمهاتهم؛ فالأطفال لا يستطيعون أن يكونوا إلا أطفالاً.. روايات ورؤى سنتعرف عليها أكثر من خلال هذا الحوار:
• لا بد أن وراء كل انطلاقة محاولات حثيثة.. متى كانت بدايات جابر الروائية؟
•• يمكنني الجزم بأنها بدأت من بين أروقة مدرستي الابتدائية ذات المبنى الشعبي الجميل؛ تلك الجدران المحاطة بساحات تربوية كنا نركض فيها طوال فسحتنا لنجمع الضوء من آثار أقدامنا، تلك المدرسة التي اجتمع فيها العالم العربي بأكمله كما لو أننا بإحدى جلسات جامعة الدول العربية: السعودي، والسوري، والفلسطيني، والأردني، والمصري، والسوداني.. وجميعهم كانوا يعلموننا دروسنا اليومية ولربما نتج عنهم في داخلي -وغيري من مجايلي تلك الحقبة- الكثير من المعارف والعلوم والأثر.
• تعدّ «حوش عباس» إصدارك الروائي الثالث، فما الذي يميزها عن عمليك السابقين؟ ولماذا لاقت كل هذا الرواج برأيك؟
•• قبل هذه الرواية صدرت لي «مجاعة» في 2013 ثم «إثبات عذرية» في 2017، وكلتاهما كان لهما الحضور القرائي الجيد أيضاً، ولكن يبقى لكل كتاب توقيته، وظروفه وأثره وتأثيره وموضوعه وهويته. ولو عدت بالزمن أو عاد بي إلى الوراء فلن أستطيع تغيير تلك التواقيت والظروف ولا حتى أحداث وأفكار وشخصيات رواياتي؛ التفاصيل التي تحدث بعد النشر عليك ككاتب الاستفادة منها وتوظيفها في نشرك القادم، وأما السابق فيسمى في عوالم الكتابة والنشر بـ«العجز»؛ العجز عن استعادته إلا من خلال التنقيح والتعديل لطبعة جديدة. وباعتقادي أن ما مرّ بروايتي الأخيرة «حوش عباس» هو أنّ التجربة كانت قد مرت بتجربتين وظروف محيطية وإبداعية أسهمت كلها في تشكيلها وتوظيف تقنيات جديدة لم أستخدمها في سياقاتي أو أفكاري البنائية الروائية السابقة، فقد جاءت ظروف كتابتها في حالة تخيلية لمجمع كبير في تخيلاتي حشدتُ فيه جميع أطفال العالم ثم منحتهم التصويت بانتخاب طفلٍ للترافع عن براءتهم وطفولتهم والأذى الذي واجهوا فيه نتائج وأسباب وظروف ومشكلات أسرهم أو آبائهم وأمهاتهم أو معيشة محيطاتهم: الإنساني، والثقافي، والاجتماعي. كانت هذه الفكرة واحدة من ضمن صندوقي الذهني المملوء بالتفاصيل الكثيرة والمهيأ لقدح شرارة الكتابة.. وأظن أنّ الأحداث والقصة والشخصيات لعبت دوراً مؤثراً في إنجاح هذا العمل ثم الدور الأول والأخير هو للقارئ الذي لولاه لما كتبت، ويليهم الأعزاء في دار «تشكيل» التي تبنت الرواية بعناية إيمانية دفعت بنا معاً لإيصالها للمجتمعات القرائية حتى يقرأوا هذه المرافعة الإنسانية عن طفولة العالم؛ ليتعرفوا على كل ما حدث لبطل الرواية «جيلان» الذي ما زال يحدث كل يوم في بقعة ما من عالمنا، بل ولربما قد يحدث لطفلي أو لأحد الأطفال -بلا ذنب- ولعل من أهم الرسائل التي أرادت «حوش عباس» إيصالها هي أن الأطفال لا ذنب لهم في ما يفعله آباؤهم وأمهاتهم؛ فالأطفال لا يستطيعون أن يكونوا إلا أطفالاً؛ لذلك امنحوهم حياة غير حياة «جيلان». وأما كل ما أرادت قوله الرواية فمن المؤكد أنه كثير وهو متروك للقراء الأعزاء، والنقّاد المُخلصين لسردنا العربي.
• قال أستاذ الأدب والنقد بجامعة الطائف الدكتور جريدي المنصوري «انقلوا عني: رواية (حوش عباس) للشاب المبدع جابر مدخلي واحدة من الأعمال الاستثنائية التي تمثل علامة فارقة في المنجز الروائي السعودي المعاصر».. ما أثر مثل هذه الشهادة الكبيرة والقيّمة بالنسبة لك وللرواية؟
•• يقول إيكو «أعتقد أن أي كتاب ينبغي أن يحاكَم بعد عشر سنوات من صدوره، بعد قراءته وإعادة قراءته» وأضيف أنّني حينما تلقيت ذلك الرأي من هذه القامة الناقدة في مشهدنا العربي استبشرت أكثر من مرة. ولو أتيت لتطبيق كلام صديقنا «إيكو» على مشاعر التلقي داخلي لقلت بكامل الصدق إن مجرد عناية الدكتور القدير جريدي المنصوري بقراءتها بمثابة محاكمة مُرضية، ومُبهجة، وأما بتقديمه لشهادته حولها فقد اختصر عليّ جزءاً كبيراً من «سنوات إيكو العشر» ذلك أن رأياً كرأيه بالنسبة لي أعتبره منجزاً كبيراً. ثم لو أضفت على شهادته شهادات النقاد الأعزاء الذين تناولوا «حوش عباس» بانطباعاتهم وعنايتهم ويقينهم وإيمانهم وأدواتهم الاستنطاقية لعوالم السرد وغاباته وجمعت إليها كل آراء القراء وجميع القراءات التي تلقيتها عن الرواية لما قلت سوى إنهم جميعاً دفعوا بي للأمام بمسافة عشر سنوات، وإنني قد صرت الآن بعمر الثالثة والخمسين، وأنتظر مولد روايتي السادسة أو ربما السابعة.. فشكراً للكتابة والقراءة التي تعلمنا فن الامتنان.
• ما الذي دفعك لكتابتها؟
•• دائماً ما تكون هناك دوافع متعددة ومتنوعة لنكتب رواياتنا أو إبداعنا ولكن في «حوش عباس» كانت الطفولة وحدها الحافز والمحفز، كانت الذاكرة المصيرية التي أنهكتها الصور داخلي، وأتلفتها المشاهد المكررة على شاشات الواقع، وداخل أسوار العوالم الخفية. كل شيء في هذه التفاصيل استدعاني وعاركني حتى شعرت للحظةٍ أنني مسؤول أمام هذه المشاهد الأليمة المؤذية حتى أنتهي من إفراغها. ولأن اللغة أُوجِدتْ للتعبير؛ فقد سعيت لأن أخترع من لغتي التعبيرية صورة حركية ترصد ما لا نراه أو نسمعه أو نتوقع حدوثه، لتتحدث نيابة عن ألسنة الطفولة العاجزة عن قول كل شيء في الكثير من الأحيان. إنها رواية الأبرياء المسلوبين في الأرض، والجوعى، والمخطوفين، والمتأزمين، والمنفصلين عن أسرهم، والهاربين، والشاردين.. وغيرهم. ونيابة كل هؤلاء سعيت من خلال بطلي «جيلان» أن ألبسهم إياه لينوبهم في الكلام، وقد اكتشفت من خلال الرؤى والآراء التي بلغتني أنني كتبت سيرة كاملة لطفولة العالم. وليست هذه الدوافع وحدها فحسب وإنما هي أهمّها من وجهة نظري.
• تطرقتَ إلى أزمة الهوية في روايتك الأخيرة كأن يكون لدى الإنسان أمّان، ومنزلان، وجنسيتان، ووطنان.. فهل يمكن للأدب -من وجهة نظرك- أن يجمع مثل هذه الانشطارات الثنائية في آنٍ واحد؟
•• سؤال نقدي جميل، وتوصيفك للرواية بالهُوية أبهجني كثيراً. وهنا عليّ القول إن للأدب «منفعته الذاتية والاجتماعية» كالقيام بوضع يده على الانشطارات الاجتماعية، وتعليق الجرس على القضايا الإنسانية؛ علّه يُسمع. ولأن الرواية فرع من فروع الأدب فهي -بلا شك- قادرة على القيام بمعجزات كثيرة أكثر من جمع الانشطارات. ولما كانت الهُوية إحدى ثيمات «حوش عباس» كان رصدي لتسلسل الأحداث وتركيبها مؤكداً على طبيعة الحياة داخل أرجاء الرواية، وأرواح شخصياتها؛ لهذا تجلت طبيعتهم وطباعهم، ظروفهم وانتكاساتهم، ومآسيهم في مجتمع هذا الحوش الورقي. ولأهمية هُوية المجتمع الذي نحيا فيه كان لا بد من تقصي هُوية جيرانه والبحث في تراكيبه السكانية وهذا ما حدث على مستوى الرواية. ولعلي أشير هنا إلى أنّ «حوش عباس» كانت ضمن روايات ملتقى قراءة النص في دورته الـ16 الذي نظمه النادي الأدبي الثقافي بجدة في الخامس من فبراير 2020، وناقش خلاله مفهوم الهُوية في شعر وسرد الأقلام الشابة. وقُدمت الرواية ضمن ورقة بحثية بعنوان «دوائر الانتماء وتقاطبات الهُوية في الخطاب الروائي السعوديّ» قدمها أستاذ الأدب العربي المشارك الدكتور محمد سيد عبدالعال وخلُص في الأخير إلى أنها رواية تعبيرية عن هُوية مفقودة تجلت فيها ثيمة الوطن التي شكلت دوائر الانتماء وتقاطبات الهُوية في سرده المتصل. وتعدّ هذه الورقة ثمينة جداً بالنسبة لي؛ كيف لا وهي أول دراسة تُقدم حول روايتي «حوش عباس» وهي لا تزال في مسوّدتها الأولى، كما أنها ثمينة لي أيضاً لأن ما بعدها منحني السكينة والتفاؤلات تجاه النص بحالته النهائية التي سلّمتها إليه، ما جعلني أتشجع للدفع بها وطبعها لترى النور.
• حاولت أن يحتل المظهر البصري للقرية مساحة مهمة في «حوش عباس».. فهل ترى أنك نجحت في ذلك؟
•• منذ مطلع الرواية والقرية هي المعراج، والملاذ، وهي البداية التي انقدحت منها شرارة الرواية، وأشعلت في نفوس أبطالها لهيب الحنين؛ لهذا كانت المكان والمآل، وصارت مع تقادم النص قِبلة للأرواح والأفئدة. ولما تحمله أي قرية في الدنيا من سمات وحوافز تبقيها بمنأى عن صراعات المدينة واحتضار الكثير من الأخلاقيات فيها، وتلاشي الشعور الجماعي المترابط استدعتني لأن أبقيها على امتداد النص رحلة استشفاء في كل عودة إليها، وحالة مرضية في كل خروج منها.. هذا كل ما استطعت فعله، وليتني نجحت في ذلك.
• هل بإمكانك أن تَحْكُم على «حوش عباس» بأنها رواية إيجابية، تحمل قدراً من الأمل، لا سيّما بالنسبة إلى الجيل الجديد؟
•• إصدار حكم من الكاتب حول ما كتبه مجروح دائماً، لكن ما وصلني حتى الآن من قراءات ونقديات واستطلاعات رأي وتعابير ومشاعر ورسائل حيالها جعلني أكوّن شهادة واحدة أجدها -على الأقل- محفزة لجعلها بصمات الآخرين وشهادات شهداء الله في أرض السرد. هؤلاء يعفونني الآن من تقديم رأي حول ما كتبته، بل أستطيع القول إنها أحب أعمالي إلى قلبي، ربما لأنها انكتبت بحبر تفاؤلي بأن تسهم ولو قليلاً في تغيير الكثير، أو تكون شهادة سردية في تاريخنا الاجتماعي وسيرتنا الوطنية العطِرة. لقد استطاعت الكتابة منحي الأمل الذي كتبته، والشعور الجميل الذي استعدته من قلوب وأرواح كل الذين قرأوها حتى الآن وشعروا واستشعروا كل ما فيها من تطابقات مع جيل النص أو جيل ما بعد النص.
• هل يطمح جابر مدخلي إلى الفوز بأي جائزة روائية عربية؟
•• لا يوجد أي كاتب في الدنيا لا يطمح إلى ذلك؛ لأن الباذر ينتظر نتاج ما بذر. ولكنني على كل حال قد حزت منذ إصداري لروايتي الأولى حتى اليوم الكثير من الجوائز وهي عندي أهم بكثير من جوائز إبداعية أخرى -لعلها تجيء ذات يوم- حزت على تواصلي مع عوالم القرّاء والنقاد الأعزاء من خلال كل رواية جديدة أصدرتها. حزت على ترجمات -لا شك- أنها ستزيد اتصالي بلغات جديدة خارج إطار لغتي الأم، وهذا مجمل ما تقدمه الجوائز، إذ تختصر الكثير على النص الجيد من وجهة نظر لجان التحكيم وتوصل الرواية الفائزة إلى شريحة كبرى؛ وما دمت أعيش هذا الزخم والإيمان فأنا -بصدق- أشعر بطعم النجاح، فأراني أحصد في كل يوم يصلني بأي قارئ جديد في الدنيا جائزة جديدة.
• وماذا عن عملك القادم؟ نبذة مختصرة عنه.
•• الرواية تجري في عروقي باستمرار، وأوردتي غابات سردية وعرة، ومشاعري تعيش في عوالم تخيلية وواقعية كلما شرعت في الكتابة، وما دامت هذه العوامل تعتلج في صدري فلا شك أنها أصدق الإشعارات بأنني ما زلت قادراً على كتابة شيء جديد. ولكن «حوش عباس» لم تكمل عامها الثاني بعد، ومن الجرم أن أستعجل إطفاء وهجها العظيم الذي تحياه كل يوم. وعلى الرغم من كل هذا إلا أنني أعكف على عملٍ -غير روائي- وسيصدر قريباً وهو عبارة عن مشروع إعلامي ثقافي. وجنباً إلى جنب أشتغل على رواية جديدة لم تمنحني فرصة لأعيش أيامي الحالية بشكل جيد.
• لا بد أن وراء كل انطلاقة محاولات حثيثة.. متى كانت بدايات جابر الروائية؟
•• يمكنني الجزم بأنها بدأت من بين أروقة مدرستي الابتدائية ذات المبنى الشعبي الجميل؛ تلك الجدران المحاطة بساحات تربوية كنا نركض فيها طوال فسحتنا لنجمع الضوء من آثار أقدامنا، تلك المدرسة التي اجتمع فيها العالم العربي بأكمله كما لو أننا بإحدى جلسات جامعة الدول العربية: السعودي، والسوري، والفلسطيني، والأردني، والمصري، والسوداني.. وجميعهم كانوا يعلموننا دروسنا اليومية ولربما نتج عنهم في داخلي -وغيري من مجايلي تلك الحقبة- الكثير من المعارف والعلوم والأثر.
• تعدّ «حوش عباس» إصدارك الروائي الثالث، فما الذي يميزها عن عمليك السابقين؟ ولماذا لاقت كل هذا الرواج برأيك؟
•• قبل هذه الرواية صدرت لي «مجاعة» في 2013 ثم «إثبات عذرية» في 2017، وكلتاهما كان لهما الحضور القرائي الجيد أيضاً، ولكن يبقى لكل كتاب توقيته، وظروفه وأثره وتأثيره وموضوعه وهويته. ولو عدت بالزمن أو عاد بي إلى الوراء فلن أستطيع تغيير تلك التواقيت والظروف ولا حتى أحداث وأفكار وشخصيات رواياتي؛ التفاصيل التي تحدث بعد النشر عليك ككاتب الاستفادة منها وتوظيفها في نشرك القادم، وأما السابق فيسمى في عوالم الكتابة والنشر بـ«العجز»؛ العجز عن استعادته إلا من خلال التنقيح والتعديل لطبعة جديدة. وباعتقادي أن ما مرّ بروايتي الأخيرة «حوش عباس» هو أنّ التجربة كانت قد مرت بتجربتين وظروف محيطية وإبداعية أسهمت كلها في تشكيلها وتوظيف تقنيات جديدة لم أستخدمها في سياقاتي أو أفكاري البنائية الروائية السابقة، فقد جاءت ظروف كتابتها في حالة تخيلية لمجمع كبير في تخيلاتي حشدتُ فيه جميع أطفال العالم ثم منحتهم التصويت بانتخاب طفلٍ للترافع عن براءتهم وطفولتهم والأذى الذي واجهوا فيه نتائج وأسباب وظروف ومشكلات أسرهم أو آبائهم وأمهاتهم أو معيشة محيطاتهم: الإنساني، والثقافي، والاجتماعي. كانت هذه الفكرة واحدة من ضمن صندوقي الذهني المملوء بالتفاصيل الكثيرة والمهيأ لقدح شرارة الكتابة.. وأظن أنّ الأحداث والقصة والشخصيات لعبت دوراً مؤثراً في إنجاح هذا العمل ثم الدور الأول والأخير هو للقارئ الذي لولاه لما كتبت، ويليهم الأعزاء في دار «تشكيل» التي تبنت الرواية بعناية إيمانية دفعت بنا معاً لإيصالها للمجتمعات القرائية حتى يقرأوا هذه المرافعة الإنسانية عن طفولة العالم؛ ليتعرفوا على كل ما حدث لبطل الرواية «جيلان» الذي ما زال يحدث كل يوم في بقعة ما من عالمنا، بل ولربما قد يحدث لطفلي أو لأحد الأطفال -بلا ذنب- ولعل من أهم الرسائل التي أرادت «حوش عباس» إيصالها هي أن الأطفال لا ذنب لهم في ما يفعله آباؤهم وأمهاتهم؛ فالأطفال لا يستطيعون أن يكونوا إلا أطفالاً؛ لذلك امنحوهم حياة غير حياة «جيلان». وأما كل ما أرادت قوله الرواية فمن المؤكد أنه كثير وهو متروك للقراء الأعزاء، والنقّاد المُخلصين لسردنا العربي.
• قال أستاذ الأدب والنقد بجامعة الطائف الدكتور جريدي المنصوري «انقلوا عني: رواية (حوش عباس) للشاب المبدع جابر مدخلي واحدة من الأعمال الاستثنائية التي تمثل علامة فارقة في المنجز الروائي السعودي المعاصر».. ما أثر مثل هذه الشهادة الكبيرة والقيّمة بالنسبة لك وللرواية؟
•• يقول إيكو «أعتقد أن أي كتاب ينبغي أن يحاكَم بعد عشر سنوات من صدوره، بعد قراءته وإعادة قراءته» وأضيف أنّني حينما تلقيت ذلك الرأي من هذه القامة الناقدة في مشهدنا العربي استبشرت أكثر من مرة. ولو أتيت لتطبيق كلام صديقنا «إيكو» على مشاعر التلقي داخلي لقلت بكامل الصدق إن مجرد عناية الدكتور القدير جريدي المنصوري بقراءتها بمثابة محاكمة مُرضية، ومُبهجة، وأما بتقديمه لشهادته حولها فقد اختصر عليّ جزءاً كبيراً من «سنوات إيكو العشر» ذلك أن رأياً كرأيه بالنسبة لي أعتبره منجزاً كبيراً. ثم لو أضفت على شهادته شهادات النقاد الأعزاء الذين تناولوا «حوش عباس» بانطباعاتهم وعنايتهم ويقينهم وإيمانهم وأدواتهم الاستنطاقية لعوالم السرد وغاباته وجمعت إليها كل آراء القراء وجميع القراءات التي تلقيتها عن الرواية لما قلت سوى إنهم جميعاً دفعوا بي للأمام بمسافة عشر سنوات، وإنني قد صرت الآن بعمر الثالثة والخمسين، وأنتظر مولد روايتي السادسة أو ربما السابعة.. فشكراً للكتابة والقراءة التي تعلمنا فن الامتنان.
• ما الذي دفعك لكتابتها؟
•• دائماً ما تكون هناك دوافع متعددة ومتنوعة لنكتب رواياتنا أو إبداعنا ولكن في «حوش عباس» كانت الطفولة وحدها الحافز والمحفز، كانت الذاكرة المصيرية التي أنهكتها الصور داخلي، وأتلفتها المشاهد المكررة على شاشات الواقع، وداخل أسوار العوالم الخفية. كل شيء في هذه التفاصيل استدعاني وعاركني حتى شعرت للحظةٍ أنني مسؤول أمام هذه المشاهد الأليمة المؤذية حتى أنتهي من إفراغها. ولأن اللغة أُوجِدتْ للتعبير؛ فقد سعيت لأن أخترع من لغتي التعبيرية صورة حركية ترصد ما لا نراه أو نسمعه أو نتوقع حدوثه، لتتحدث نيابة عن ألسنة الطفولة العاجزة عن قول كل شيء في الكثير من الأحيان. إنها رواية الأبرياء المسلوبين في الأرض، والجوعى، والمخطوفين، والمتأزمين، والمنفصلين عن أسرهم، والهاربين، والشاردين.. وغيرهم. ونيابة كل هؤلاء سعيت من خلال بطلي «جيلان» أن ألبسهم إياه لينوبهم في الكلام، وقد اكتشفت من خلال الرؤى والآراء التي بلغتني أنني كتبت سيرة كاملة لطفولة العالم. وليست هذه الدوافع وحدها فحسب وإنما هي أهمّها من وجهة نظري.
• تطرقتَ إلى أزمة الهوية في روايتك الأخيرة كأن يكون لدى الإنسان أمّان، ومنزلان، وجنسيتان، ووطنان.. فهل يمكن للأدب -من وجهة نظرك- أن يجمع مثل هذه الانشطارات الثنائية في آنٍ واحد؟
•• سؤال نقدي جميل، وتوصيفك للرواية بالهُوية أبهجني كثيراً. وهنا عليّ القول إن للأدب «منفعته الذاتية والاجتماعية» كالقيام بوضع يده على الانشطارات الاجتماعية، وتعليق الجرس على القضايا الإنسانية؛ علّه يُسمع. ولأن الرواية فرع من فروع الأدب فهي -بلا شك- قادرة على القيام بمعجزات كثيرة أكثر من جمع الانشطارات. ولما كانت الهُوية إحدى ثيمات «حوش عباس» كان رصدي لتسلسل الأحداث وتركيبها مؤكداً على طبيعة الحياة داخل أرجاء الرواية، وأرواح شخصياتها؛ لهذا تجلت طبيعتهم وطباعهم، ظروفهم وانتكاساتهم، ومآسيهم في مجتمع هذا الحوش الورقي. ولأهمية هُوية المجتمع الذي نحيا فيه كان لا بد من تقصي هُوية جيرانه والبحث في تراكيبه السكانية وهذا ما حدث على مستوى الرواية. ولعلي أشير هنا إلى أنّ «حوش عباس» كانت ضمن روايات ملتقى قراءة النص في دورته الـ16 الذي نظمه النادي الأدبي الثقافي بجدة في الخامس من فبراير 2020، وناقش خلاله مفهوم الهُوية في شعر وسرد الأقلام الشابة. وقُدمت الرواية ضمن ورقة بحثية بعنوان «دوائر الانتماء وتقاطبات الهُوية في الخطاب الروائي السعوديّ» قدمها أستاذ الأدب العربي المشارك الدكتور محمد سيد عبدالعال وخلُص في الأخير إلى أنها رواية تعبيرية عن هُوية مفقودة تجلت فيها ثيمة الوطن التي شكلت دوائر الانتماء وتقاطبات الهُوية في سرده المتصل. وتعدّ هذه الورقة ثمينة جداً بالنسبة لي؛ كيف لا وهي أول دراسة تُقدم حول روايتي «حوش عباس» وهي لا تزال في مسوّدتها الأولى، كما أنها ثمينة لي أيضاً لأن ما بعدها منحني السكينة والتفاؤلات تجاه النص بحالته النهائية التي سلّمتها إليه، ما جعلني أتشجع للدفع بها وطبعها لترى النور.
• حاولت أن يحتل المظهر البصري للقرية مساحة مهمة في «حوش عباس».. فهل ترى أنك نجحت في ذلك؟
•• منذ مطلع الرواية والقرية هي المعراج، والملاذ، وهي البداية التي انقدحت منها شرارة الرواية، وأشعلت في نفوس أبطالها لهيب الحنين؛ لهذا كانت المكان والمآل، وصارت مع تقادم النص قِبلة للأرواح والأفئدة. ولما تحمله أي قرية في الدنيا من سمات وحوافز تبقيها بمنأى عن صراعات المدينة واحتضار الكثير من الأخلاقيات فيها، وتلاشي الشعور الجماعي المترابط استدعتني لأن أبقيها على امتداد النص رحلة استشفاء في كل عودة إليها، وحالة مرضية في كل خروج منها.. هذا كل ما استطعت فعله، وليتني نجحت في ذلك.
• هل بإمكانك أن تَحْكُم على «حوش عباس» بأنها رواية إيجابية، تحمل قدراً من الأمل، لا سيّما بالنسبة إلى الجيل الجديد؟
•• إصدار حكم من الكاتب حول ما كتبه مجروح دائماً، لكن ما وصلني حتى الآن من قراءات ونقديات واستطلاعات رأي وتعابير ومشاعر ورسائل حيالها جعلني أكوّن شهادة واحدة أجدها -على الأقل- محفزة لجعلها بصمات الآخرين وشهادات شهداء الله في أرض السرد. هؤلاء يعفونني الآن من تقديم رأي حول ما كتبته، بل أستطيع القول إنها أحب أعمالي إلى قلبي، ربما لأنها انكتبت بحبر تفاؤلي بأن تسهم ولو قليلاً في تغيير الكثير، أو تكون شهادة سردية في تاريخنا الاجتماعي وسيرتنا الوطنية العطِرة. لقد استطاعت الكتابة منحي الأمل الذي كتبته، والشعور الجميل الذي استعدته من قلوب وأرواح كل الذين قرأوها حتى الآن وشعروا واستشعروا كل ما فيها من تطابقات مع جيل النص أو جيل ما بعد النص.
• هل يطمح جابر مدخلي إلى الفوز بأي جائزة روائية عربية؟
•• لا يوجد أي كاتب في الدنيا لا يطمح إلى ذلك؛ لأن الباذر ينتظر نتاج ما بذر. ولكنني على كل حال قد حزت منذ إصداري لروايتي الأولى حتى اليوم الكثير من الجوائز وهي عندي أهم بكثير من جوائز إبداعية أخرى -لعلها تجيء ذات يوم- حزت على تواصلي مع عوالم القرّاء والنقاد الأعزاء من خلال كل رواية جديدة أصدرتها. حزت على ترجمات -لا شك- أنها ستزيد اتصالي بلغات جديدة خارج إطار لغتي الأم، وهذا مجمل ما تقدمه الجوائز، إذ تختصر الكثير على النص الجيد من وجهة نظر لجان التحكيم وتوصل الرواية الفائزة إلى شريحة كبرى؛ وما دمت أعيش هذا الزخم والإيمان فأنا -بصدق- أشعر بطعم النجاح، فأراني أحصد في كل يوم يصلني بأي قارئ جديد في الدنيا جائزة جديدة.
• وماذا عن عملك القادم؟ نبذة مختصرة عنه.
•• الرواية تجري في عروقي باستمرار، وأوردتي غابات سردية وعرة، ومشاعري تعيش في عوالم تخيلية وواقعية كلما شرعت في الكتابة، وما دامت هذه العوامل تعتلج في صدري فلا شك أنها أصدق الإشعارات بأنني ما زلت قادراً على كتابة شيء جديد. ولكن «حوش عباس» لم تكمل عامها الثاني بعد، ومن الجرم أن أستعجل إطفاء وهجها العظيم الذي تحياه كل يوم. وعلى الرغم من كل هذا إلا أنني أعكف على عملٍ -غير روائي- وسيصدر قريباً وهو عبارة عن مشروع إعلامي ثقافي. وجنباً إلى جنب أشتغل على رواية جديدة لم تمنحني فرصة لأعيش أيامي الحالية بشكل جيد.