الشاعر العراقي زكي العلي، واحد من الشعراء الذين قدّمتهم قصائدهم للنّاس في كلّ أرجاء الوطن العربي، يعيد الفضل -في هذا الحوار- لشبكات التواصل الاجتماعي، التي عرّفت به وبشعره، ويستعيد من خلال هذا الحوار العديد من المحطات في حياته، ابتداءً بمدينة «رفحاء» السعودية؛ التي نفي إليها في عهد صدام حسين، وعلاقته بالشعر، ورؤيته في الشعراء أمثال السياب والجواهري.. فإلى نصّ الحوار:
• دعنا نبدأ من رفحاء (المدينة السعودية) التي نفيت إليها في عام 1991، ما الذي بقي منها في ذاكرتك؟
•• رفحاء كانت هي الملجأ الوحيد لي ولرفاقي الذين انخرطوا في محاولة تغيير النظام الفاشلة بعد غزو الكويت، ونفيي أو لجوئي إليها هو ما حافظ على سلامتي وسلامة رفاقي من ردة فعل النظام الحاكم -آنذاك- على محاولة التغيير، لذا أدين لها بالفضل ما حييت/ وهي المكان الذي تهيأت فيه أهم عوامل نضوج تجربتي الشعرية من غُربة ونفي وفراق للأهل والأصدقاء والبيئة التي نشأت فيها، كتبت فيها ثمانين قصيدة متفاوتة الجودة والشكل، رغم صغر سني. انعكس اسمها على ثقافتي ونتاجي الشعري ولفترة ليست بالقصيرة كانت وما زالت تلك المدينة الواقعة على طريق الحج القديم بين العراق والمملكة العربية السعودية عالقة في ذهني، وربما يسعفني الحظ والعمر بزيارتها مرة أخرى.
• بدأت في كتابة الشعر شاعراً عمودياً، ثم تحوّلت إلى كتابة الشعر في أشكاله الجديدة التفعيلة والمنثور.. هل ضاقت بك أوزان العمود وقوافيه؟
•• بدأت بكتابة الشعر العمودي لأني كنت حديث تجربة وكنت أتصور أن الشكل العمودي هو الشعر، بمرور الوقت وتراكم الخبرة والتجربة اكتشفت أنّ الشعر -كفعل إنساني- غير الشكل الشعري، وأنّ الأشكال الشعرية هي محض أوعية وقوالب لتمرير الشعر من خلالها، وأن الشعر هو العادي الذي نعبّر عنه بطريقة غير اعتيادية واستثنائية، لا الشكل الذي نوظفه كأداة للتعبير من خلاله.
نقطة الفهم الفاصلة هذه، كانت هي نقطة شروعي للتجريب والكتابة على كل الأشكال الشعرية المكتشفة والمتاحة لاحقاً، هذا بالإضافة إلى أن المساحة التي يتيحها الشكل العمودي ضيقة ومحدودة وعملية المناورة وتشكيل الصورة الشعرية فيها محدودة، ناهيك عن الضوابط الصارمة من وزن وقافية وعروض تسهم في الحد من الذهاب إلى أقصى مستوى من التخيُّل، فبدلاً من أن يطارد الشاعر معالم صوره المتخيلة ويرسم حدودها وأبعادها يتشتت ذهنياً، وينشغل بالوزن والقافية والعروض على حساب الفكرة أو الصورة؛ أي أنه ينشغل بالشكل كعبء إضافي غالباً ما يسهم في إضعاف الفكرة المراد إنتاجها أو ضياعها جزئياً.
هذه حقيقة عملية ملموسة يشعر بها الشاعر والمتلقي على حد سواء، هذا من حيث الشكل، بالإضافة إلى مطب التكرار في إعادة إنتاج صور القدامى؛ الذي لم يكن وليد العصر وإنما هو موجود وسمة غالبة على الشعر العمودي، ظهرت ولوحظت منذ مرحلة التأسيس الأولى، لنأخذ مثالاً شعراء المعلقات عنترة العبسي وزهير أنموذجاً لتكرار وإعادة إنتاج صور جابر بن حني ومرحلة الشعر الجاهلي وحتى الإسلامي إلى حدٍّ ما، ما هو إلا تكرار وإعادة إنتاج لصور وتشبيهات ومجازات امرئ القيس، مروراً بالشعر العباسي وما تلاه وهو عبارة عن تكرار وإعادة إنتاج للمتنبي!.
بالنسبة لي، علاقتي بالنص العمودي لا تعدو كونها علاقة الشاعر بالشكل الشعري، أنا أعتبره شكلاً من الأشكال الشعرية التي أحتاج أن أكتب على ضوء سياقاته.
• هل الحداثة الشعرية تقتضي هجر هذا الشكل في الكتابة؟
•• لا أرى أنّ الحداثة تعني أن أهجر شكلاً شعرياً لأنتقل إلى آخر جديد، باعتبار أن قصيدة النثر؛ وهي الأحدث، ستصبح بمرور الوقت شكلاً شعرياً قديماً أيضاً، الحداثة تعني ابتكار أو اقتناص صورة شعرية بكر، ووضعها في الشكل الشعري الأليق بها.
• (أنشودة المطر) لـ(بدر شاكر السياب)، هل أثرت فيك على المستويين الشعري والإنساني؟
•• (أنشودة المطر) هي القصيدة الأولى التي قرأتها للشاعر بدر شاكر السياب، وأحدثت لديّ صدمة مرحلية، لا بسبب مضمونها فقط، وإنما من حيث شكلها الجديد الذي لم أعتد عليه سابقاً، فمن حيث المضمون تخلى بدر فيها وفي بقية نتاجه الشعري عن تمجيد الذات وتضخيمها وتعظيمها، وهو ما لم يكن مألوفاً لدينا سابقاً نحن المجتمع المعتاد على الفحولة والتفرعن الشعري الظاهر بوضوح في أمهات قصائدنا العمودية، ولدى معظم شعراء المدرسة العمودية الكلاسيكية، والانتقال الحاد لعرض الذات وهي كسيرة ومتألمة وضعيفة ومحتاجة لا ليل فيها يعرفه ولا خيل ولا سيف ولاهم يحزنون، بالإضافة إلى الشكل التفعيلي الجديد على الذائقة الأدبية.
ذلك الأسمر النحيل أثار زوبعة ذهنية لديّ قمت على إثرها بالبحث عن نتاجه الشعري المتبقي إلى أن حصلت في نهاية المطاف على نسخة من أعماله الكاملة، نعم تأثرت به وبقصائده، لكنه ليس سقفاً للإبداع بالنسبة لي بقدر ما هو شريك في إحداث تلك الانعطافة التي غيّرت مجرى الكتابة لدى الكثير من الشعراء وإلى الأبد.
• شبكات التواصل، ما الإضافة التي قدمتها، وما الأثر الذي تركته فيك؟
•• لها الفضل الكبير والأول في أن أُعرف لدى المتلقي العربي والعالمي ولولاها ربما لم يسمع أحد باسمي، ولا توجد قصيدة منشورة لي، وربما لم يحدث هذا اللقاء بيننا حتى!
كان اعتمادي كاملاً عليها على مستوى التعريف والظهور، حدث هذا مع تسيدها؛ إعلامياً وترويجياً، على وسائل التعريف القديمة، عرّفتني على الكثير من الأدباء والشعراء والمترجمين العرب والأجانب والشخصيات العربية المهمة في مجالاتها الذين أتثقف يوميا بفضلهم ويتصاعد أدائي الشعري نتيجة الاحتكاك بهم، وأخذت مني الوقت.
• القلق بالنسبة للشاعر، هل يصنع قصيدة عظيمة وخالدة؟
•• نعم يمكنه الإسهام في صناعة القصائد العظيمة على وجه الخصوص، وكذلك صناعة الشعر بوجه العموم، معظم القصائد الجيدة هي من بنات القلق، وعدم الاستقرار النفسي، والعاطفي، والوجداني، ثمة أبيات لي قلت فيها شارحاً أهمية القلق في إنتاج القصيدة:
لأنّ للشِعرِ غوراً لا قرارَ لهُ
لم يفصح الشعر عن يومٍ بهِ غَرقي
سجدتُ في الباب حتى ملّ سادنهُ
ونمت كالطفل أنّى قادني نزقي
بي اهتديت لطور الشعر في لغتي
وما اعتمدت على شيء سوى قلقي!
وللمتنبي بيته الشهير الذي يعالج المسألة نفسها بأسلوبه المعروف، والذي يقول فيه:
على قلق كان الريح تحتي
أوجهها يميناً أو شمالاً
وليته قال توجّهني يميناً أو شمالاً، لكان المعنى أبلغ وأجزل وأدق، وهذا البيت يشير إلى ذلك القلق المنتج للقصائد العظيمة والخالدة، أخبرني أرجوك لولا القلق النفسي أو الاجتماعي أو المادي أو الوجداني أو الوجودي برأيك من أين تأتي القصائد إذن؟!
• كيف اهتدى الشعر إليك، أو اهتديت له؟
•• اهتدينا لبعض، وتعرفنا بعضنا البعض في منطقة التناقضات، بين عالمين؛ واقعي وآخر خيالي في هذه المنطقة المشوشة التي تعجّ بالأشياء ونقائضها على المستوى الروحي والنفسي والوجداني، التقينا على إثر صدمة عاطفية كنت قبلها قارئاً رغم شح الموارد إذ ذاك.
في عمر الـ16 عاماً بدأت أكتب أولى كتاباتي كانت في شعر المقاومة، إذ عاصرت نظاماً سياسياً دموياً وشمولياً، تأثرت بالجواهري كثيمة للشاعر السياسي الشاعر؛ الذي يمثّل صوت الشعب، تبيّن لي في ما بعد أنه لم يكن ثائراً حقيقياً بقدر ما هو طالب سلطة حاول -رحمه الله- من خلال الكرّ تارة والتملق أخرى للأنظمة السياسية؛ التي عاصرها، أن يجد له مكاناً في المجتمع السياسي، فتوقفت عن كتابة الشعر السياسي منذ ذلك الحين، واتجهت لكتابة الشعر الإنساني، حتى دخلت مواقع التواصل متأخراً في عام 2016.
• لك رأي معلن في شعر النقائض (الهجاء)، ويبدو أنك لن تكون الوحيد ولا الأخير في هذا، فأنت طالبت بالتخلي عن هذا الغرض لصالح الشعر الهادف.
•• نعم وما زلت عند رأيي في ما يخص شعر النقائض، وأكرر عبارتي التي قلت فيها لو كان الأمر بيدي لأخذت شعر (النقائض) العائد لهؤلاء الثلاثة؛ الفرزدق وجرير والأخطل، ودفنته بعمق ميل تحت الأرض، كما تتعامل الدول المتقدمة مع نفاياتها النووية؛ لأنه يحمل التأثير الإشعاعي نفسه على العقل العربي.. لاحظ كمية القذع والهجاء والألفاظ البذيئة التي هي أقرب لمكبّ نفايات منها إلى الشعر؛ التي أسهمت في صناعة العقل النقائضي العربي الشعبوي القبلي الاستعلائي التنمري. الموضوع -برأيي- أخطر بكثير من كونه أدباً شعرياً، شعر النقائض أحد أهم العوامل التي أسهمت في بناء الشخصية العربية النقائضية، وسرت خصائصها إلى الأجيال اللاحقة، والمستغرب هو دعم هؤلاء الشعراء من ذوي العقول الغوغائية على حساب العقليات الشعرية المنظمة والهادفة حتى في الغزل، والأعجب تأخير المعري وابن خلدون وتقديم هؤلاء السوقة!.
القيمة اللغوية والفنية فيه لا تكفي للاستمرار بتداوله وتدريسه؛ لأنّ الضرر المترتب عليه أكبر من قيمته الفنية واللغوية، لقد صنعوا هم وأمثالهم من الشعراء هذا النسق الغوغائي المطرد الذي يعج بالبذاءة والشتيمة والتشفي، هذا النسق غير المنتج والمخالف لغرض الشعر، وهدفه، وخلفوا إرثاً عصبياً ما زال العقل العربي يعاني من آثاره إلى اليوم، ولا تكفي الجماليات اللغوية والفنية فيه لتبرير بقائه، تبقى البذاءة بذاءة، وإن قيلت بشكل فني، ويبقى التنمُّر والإساءة والاستخفاف والاستعلاء على الآخر، وذكر المعايب الخلقية قبيحاً ومرفوضاً وإن قيل على بحر شعري، أما عن مقولة لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث اللغة فهي مبالغة واضحة؛ لأننا نعرف تاريخ اللغة العربية من أين بدأ وكيف انتهى، وما ركائز ومصادر إثرائها؟!
• لماذا أنت متحامل على شعر الهجاء؟
•• لست متحاملاً بالمعنى الشخصي للتحامل، أنا أدعو للتعامل معه بحذر وللكف عن اعتباره شعراً، لأنه أقرب إلى بركة الوحل منه إلى الشعر، وأدعو إخوتي الشعراء إلى تجنب كتابته والاشتغال على قضايا الإنسان الكبرى وهمومه وتطلعاته وشكوكه ووجودياته ووجدانياته وآماله، وتفادي السقوط في نفس البركة التي سقط فيها بعض الأوائل، وأدعو إلى حذفه من المناهج الدراسية، وحصره في إطار النخبة من طلاب البحث الأكاديمي الساعين للحصول على الشهادات العليا وللنقاد وللباحثين التاريخيين؛ أعني حصره في إطار نخبوي كمادة دراسية وبحثية فقط، إذ لا يعقل أن يُدرّس هذا النظم القبيح، ناهيك عن تصنيفه كشعر، خذ مثالاً، لا حصراً:
لَقَد وَلَدَت أُمُّ الفَرَزدَقِ فاجِراً
وَجاءَت بِوَزوازٍ قَصيرِ القَوائِمِ
وَما كانَ جارٌ لِلفَرَزدَقِ مُسلِمٌ
لِيَأمَنَ قِرداً لَيلُهُ غَيرُ نائِمِ
يُوَصِّلُ حَبلَيهِ إِذا جَنَّ لَيلُهُ
لِيَرقى إِلى جاراتِهِ بِالسَلالِمِ
الآن، بالله عليك ما هذا؟!
• هل الشعر في العراق والعالم العربي بخير؟
•• نعم إنه بخير تماماً، وماضٍ في نسخ وتهذيب الموروث القديم، ويعيش مراحل تطوره الطبيعية، أما عن هؤلاء الذين يتحدثون عن أزمة الشعر هم أصحاب التعريف الساذج الذي يقول إنّ الشعر كلام موزون مقفى مفهوم، وهؤلاء يشبهون إلى حدّ ما أولئك المتشددين عقدياً، الذين يعيشون بعقلية القرن الثاني الهجري، ويحلمون بإسقاط قواعدها ونتائجها على القرن الواحد والعشرين في محاولة يائسة لاستيعاب المتغير الفكري والعصري وحشره في الثابت القيمي والفكري والتي ستفشل بطبعها لاستحالة استيعاب الثابت للمتغير علمياً وعملياً. لا توجد أزمة في الشعر، توجد تحولات كبيرة تحدث على مستوى الشكل، والفكرة، والصورة، والرؤية، يوجد نتاج غزير جداً، أيضاً، صحيح أن فيه الكثير من الغثّ، والزبد، ولكن، في المقابل فيه الكثير من النتاج العالي والجيد والممتاز والمتفوق على الكثير من النتاج التأسيسي للشعراء الأوائل.
• ما حال بغداد اليوم؟
ما حال بغداد؟ فوضاها هويتها
حتى اسأل الماء والنخل الذي أسرا
تقول والخوف جاث فوق هامتها
لفرط ما خفت لا أستشعر الخطرا
عمياء واللصّ عن نفسي يراودني
وفاجع الخطب أن لا يعبأ الخفرا
بعير أهلي باسم الله تنحره
يد الرعاة وجاري ينهب الوبرا
• لديك موقف من مهرجانات الشعر وملتقيات الأدب، لماذا؟
•• هو ليس موقفاً مضاداً أو ممانعاً لها بقدر ما هو قناعة تولدت نتيجة لقراءة شخصية للظاهرة، دعنا نسأل أولاً: ما مهرجانات الشعر والملتقيات والاتحادات الأدبية؟ هي عبارة عن سعي الأفراد للانتماء والانتظام في نسق اجتماعي معين.
العمل الجماعي كالأمسيات والمهرجانات والاتحادات والفعاليات المرتبطة بها هي عبارة عن بيئة حاضنة ومكملة للترويج والإشهار والتسويق والتعارف والانتظام في نسق اجتماعي يتشابه في الاهتمامات والأولويات؛ مثله مثل أي تجمع بشري آخر تجمعه العقيدة أو الأيدولوجيا أو الفكرة، ولا بأس به كفعالية جماعية؛ أعني الإنسان كائن اجتماعي، أساساً، بغض النظر عن المضاعفات النفسية والاجتماعية الناتجة عن الفعل الجماعي التي، عادةً، ما تحوّل الكتابة لدى المواظب على هذه الفعاليات من شغف إلى وظيفة.
أما الكتابة بشكل عام والشعر بصورة خاصة فلا علاقة له بالجماعة. إنه حالة سفر عكسية وفردية إلى منطقة التناقض أو المنطقة الرمادية في الوعي الإنساني، وأما اعتذاري عن بعض الدعوات فهو قرار مرتبط بطبيعة عملي وشكل حياتي الذي لا يسمح بتلبية هذه الدعوات والسفر إليها.
كما أنني أرى أن الكتابة عملٌ فرديٌ يجب أن تمارس بعيداً عن الكيانات الأدبية، هذا رأيي فيما يخصها. بالإضافة إلى قناعتي أن العالم قد تغير وبإمكان المبدع الآن أن يجد له مساحة ومتلقين ومحبين لنتاجه عن طريق الإعلام الرقمي المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي واستخدام مدونته الشخصية كبديل عن الصحف والمجلات والجرائد الأدبية، نحن الآن في عصر مختلف، عصر التواصل المباشر للأديب والشاعر مع جمهوره فهو ليس بحاجة إلى هوية صادرة من اتحاد أو مؤسسة أو جمعية ما ليصبح شاعراً، ولا يحتاج أن يقف في صورة فوتوغرافية إلى جانب شاعر أقدم ليتم الاعتراف به وبموهبته مع التقدير والاعتزاز طبعاً لرواد هذه المؤسسات، لكنّ الفيصل اليوم هو المنتج الأدبي، والمنتج فقط على الأقل على مستوى المتلقي العربي والعالمي.
• لماذا ينشغل كثير من المبدعين بالتكريم؟
•• أعتقد أنّ من حقهم ذلك ما داموا مبدعين حقيقيين، فالإنسان بطبيعته يحتاج الإشادة على المستوى النفسي والمعنوي؛ باعتباره قد أضاف شيئاً للحياة، وكذلك يحتاج الدعم المادي الناتج عن التكريم لسد حاجاته المعيشية والإنسانية فهو في النهاية بشر، الإشكالية فقط عندما يبالغ في البحث عنه حد الاستجداء، وإعطائه الأولوية على حساب طاقاته الإبداعية المودعة فيه.
يا أيها الشعر من لي حين تتركني
أما اتفقنا صغاراً أن نشيخ معاً!
• هل شخت أم شاخ الشعر، أم مازلتما معاً؟
•• ما زال هذا العقد سارياً بيني وبين الشعر، ولم يحدث أيّ خلل في الاتفاق المسبق المبرم بيننا منذ السادسة عشرة من عمري وإلى الآن، أمّا عن الشيخوخة فها أنا ذا أشيخ وأهرم مع الوقت، لكنّ الشّعر لا يشيخ!
• المرأة لدى الشعراء في قصائدهم لا تتجاوز المتعة التي يكتب فيها الشاعر وعنها إن أعجبته أو أراد لفت الانتباه إليها، ألا يمكن للشاعر أن يتجاوز هذه النظرة وهذا التوظيف؟
•• أعتقد أن للموروث الاجتماعي والثقافي وحتى الشعري السابق دوراً كبيراً في عدم قدرتنا كشعراء، وأنا منهم، على تجاوز المرأة الجسد إلى فضاء المرأة الإنسان؛ لأننا أبناء ذلك الموروث والمصابون به سنظل ندور في الفضاء الأول إلى أن يأتي جيل شعراء جديد يتجاوز ما ذكرت، ويعيد إنتاج تلك النظرة بشكل آخر مغاير لما أسس له القدامى، وما درجنا عليه نحن المعاصرين.
• الناي والغناء، هل هما ما ينقصنا، كي يصحو العالم؟!
•• ينقصنا الكثير كعالم عربي غير الناي والغناء لنصحو، وأظن تلك الصحوة ستظل حلماً غير قابل للتحقيق لا على المدى المنظور ولا على المدى البعيد؛ لأنّ أدوات التنويم مسيطرة علينا تماماً؛ قديماً وحديثاً، لكن، لا يمنع ذلك، وكشعراء من أن نستمرّ في عزف النشيد.
• هل الغموض في الشعر معضلة؟
•• أعتقد أنّ موضوع السهولة والإغماض والوعورة في الكتابة عموماً، وفي قصيدة النثر أو في القصيدة العمودية ليست مثلبة على الشاعر أو نقصاً في أدواته، وإنما الموضوع مرتبط وبشكل عضوي بكيفية معالجة الصورة في عقل الشاعر نفسه، فالشاعر لا يختار أن يكون نصه وعراً أو مرمّزاً، وكذلك لا يختار أن يكون سهلاً ومفهوماً وسلساً، وإنما وعيه هو من يقوم بذلك مثله النتاج التشكيلي لمدارس الرسم؛ هنا فنان يرسم لوحة انطباعية وآخر يرسم لوحة تكعيبية، غيره يرسم لوحه سريالية، هذا الاختلاف والتنوع في معالجة الفكرة وتشكيلها ذهنياً هو العامل الحاسم في تشكيل النص من حيث الوعورة أو السلاسة، وإليك هذا المثال: دخيل الخليفة وقاسم حداد وأدونيس، بينهم كثلاثي قاسم كتابي مشترك في اقتناص الفكرة المغايرة، وأسلوب تشكيلها، وشكلها النهائي لحظة الإنتاج مع وجود تباين واضح في درجة الإغماض، والتشفير يصل إلى ذروته في نصوص أدونيس.
على الجانب الآخر، محمد الماغوط، عبد العظيم فنجان، رحيم جماع، على سبيل المثال لا الحصر، بينهم أيضاً قاسم كتابي مشترك، هو النص السهل، السلس، الخالي تقريباً من الإغماض، والتشفير، والترميز.
ما الذي يحدث هنا، الذي يحدث أنّ عملية معالجة الصور وبناء النصوص تختلف من عقل شعري لآخر، الإشكالية ليست في الغموض، الإشكالية في الإغماض المتعمد الذي يفك الارتباط بشكل كامل بين المفردات، ودلالاتها، وينتج عمى دلالياً مطبقاً لا يستطيع أيّ متلقٍ أن يفهمه، أو يفك رموزه، ولا أدري، مافائدة كتابة نصّ لا يستهدف أحداً ولا يفهمه أحد، والمزعج أكثر تصفيق البعض لمثل هذه النصوص العمياء؛ التي لا تضيف شيئاً سوى تلويث الورق بالحبر، وبعبارات مبهمة من قبيل تواري السلحفاة خلف الأفق وأحصنة الغيم، وهلمّ جرا من هذا الهذيان الذي يُروّج له تحت عناوين الرمزية، والحداثة.
• هل من شعراء تدين لهم بالفضل الكبير في تجربتك الشعرية؟
•• أدين لكل من عرفت من الشعراء بذلك، فلولا اطلاعي على منتجهم الشعري وقراءتي لأساليبهم في معالجة الأفكار، والصور، وتنافسي معهم، واحتكاكي بهم، لما كان منتجي الشعري بهذه الجودة اليوم.
تخيّل أن تعيش تجربة شعرية كاملة بمعزل عن محيطها وبيئتها التنافسية، ستكون تجربة منقوصة وغير كاملة وربما رديئة أيضاً، كلّ الحب والتقدير لمن عرفت منهم ومن سأعرف لاحقاً.
• هناك قصائد عظيمة خلّدها بيت، فهل بيت القصيد ظلم الشعر والشعراء، أم قدّمهم للناس بيسرٍ وسهولة؟
•• أعتقد أن كل الأشكال الشعرية تعتمد على البيت الخالد أو الشطر الخالد أو سطر الدهشة كما في قصيدة النثر، وهذا البيت، أو الشطر، أو السطر في محاولة الصعود إلى منصة الخلود وأكاد أجزم أن القصائد أو النصوص الخالدة، ما كانت لتكون كذلك لولا هذا البيت، أو ذاك الشطر، أو السطر الذي نتحدث عنه، فهو من جهة سبب خلودها وخلود أسماء أصحابها، ويسهم في تقديمهم للمجتمعات كمبدعين وإلى الأبد، ومن جهة أخرى لا يظلم، وإنما يكشف عادية ما تلقى من النص إذا ما قورن به.
• هل البساطة والشعبية في شعرك جواز سفر مفتوح للقارئ؟
•• البساطة والشعبية في شخصي كشاعر قبل شعري هي جواز سفري إلى قلوب محبّي شعري، فأنا صديق لهم قبل أن أكون شاعرهم، ولا أتعمد البساطة والشعبية في الكتابة لألقى الحظوة أو القبول أبداً، أنا أكتب الشعر، لأنني أحبه، واستمتع بكتابته، أكتبه دون تخطيط مسبق، فيخرج بهذا الشكل.
• دعنا نبدأ من رفحاء (المدينة السعودية) التي نفيت إليها في عام 1991، ما الذي بقي منها في ذاكرتك؟
•• رفحاء كانت هي الملجأ الوحيد لي ولرفاقي الذين انخرطوا في محاولة تغيير النظام الفاشلة بعد غزو الكويت، ونفيي أو لجوئي إليها هو ما حافظ على سلامتي وسلامة رفاقي من ردة فعل النظام الحاكم -آنذاك- على محاولة التغيير، لذا أدين لها بالفضل ما حييت/ وهي المكان الذي تهيأت فيه أهم عوامل نضوج تجربتي الشعرية من غُربة ونفي وفراق للأهل والأصدقاء والبيئة التي نشأت فيها، كتبت فيها ثمانين قصيدة متفاوتة الجودة والشكل، رغم صغر سني. انعكس اسمها على ثقافتي ونتاجي الشعري ولفترة ليست بالقصيرة كانت وما زالت تلك المدينة الواقعة على طريق الحج القديم بين العراق والمملكة العربية السعودية عالقة في ذهني، وربما يسعفني الحظ والعمر بزيارتها مرة أخرى.
• بدأت في كتابة الشعر شاعراً عمودياً، ثم تحوّلت إلى كتابة الشعر في أشكاله الجديدة التفعيلة والمنثور.. هل ضاقت بك أوزان العمود وقوافيه؟
•• بدأت بكتابة الشعر العمودي لأني كنت حديث تجربة وكنت أتصور أن الشكل العمودي هو الشعر، بمرور الوقت وتراكم الخبرة والتجربة اكتشفت أنّ الشعر -كفعل إنساني- غير الشكل الشعري، وأنّ الأشكال الشعرية هي محض أوعية وقوالب لتمرير الشعر من خلالها، وأن الشعر هو العادي الذي نعبّر عنه بطريقة غير اعتيادية واستثنائية، لا الشكل الذي نوظفه كأداة للتعبير من خلاله.
نقطة الفهم الفاصلة هذه، كانت هي نقطة شروعي للتجريب والكتابة على كل الأشكال الشعرية المكتشفة والمتاحة لاحقاً، هذا بالإضافة إلى أن المساحة التي يتيحها الشكل العمودي ضيقة ومحدودة وعملية المناورة وتشكيل الصورة الشعرية فيها محدودة، ناهيك عن الضوابط الصارمة من وزن وقافية وعروض تسهم في الحد من الذهاب إلى أقصى مستوى من التخيُّل، فبدلاً من أن يطارد الشاعر معالم صوره المتخيلة ويرسم حدودها وأبعادها يتشتت ذهنياً، وينشغل بالوزن والقافية والعروض على حساب الفكرة أو الصورة؛ أي أنه ينشغل بالشكل كعبء إضافي غالباً ما يسهم في إضعاف الفكرة المراد إنتاجها أو ضياعها جزئياً.
هذه حقيقة عملية ملموسة يشعر بها الشاعر والمتلقي على حد سواء، هذا من حيث الشكل، بالإضافة إلى مطب التكرار في إعادة إنتاج صور القدامى؛ الذي لم يكن وليد العصر وإنما هو موجود وسمة غالبة على الشعر العمودي، ظهرت ولوحظت منذ مرحلة التأسيس الأولى، لنأخذ مثالاً شعراء المعلقات عنترة العبسي وزهير أنموذجاً لتكرار وإعادة إنتاج صور جابر بن حني ومرحلة الشعر الجاهلي وحتى الإسلامي إلى حدٍّ ما، ما هو إلا تكرار وإعادة إنتاج لصور وتشبيهات ومجازات امرئ القيس، مروراً بالشعر العباسي وما تلاه وهو عبارة عن تكرار وإعادة إنتاج للمتنبي!.
بالنسبة لي، علاقتي بالنص العمودي لا تعدو كونها علاقة الشاعر بالشكل الشعري، أنا أعتبره شكلاً من الأشكال الشعرية التي أحتاج أن أكتب على ضوء سياقاته.
• هل الحداثة الشعرية تقتضي هجر هذا الشكل في الكتابة؟
•• لا أرى أنّ الحداثة تعني أن أهجر شكلاً شعرياً لأنتقل إلى آخر جديد، باعتبار أن قصيدة النثر؛ وهي الأحدث، ستصبح بمرور الوقت شكلاً شعرياً قديماً أيضاً، الحداثة تعني ابتكار أو اقتناص صورة شعرية بكر، ووضعها في الشكل الشعري الأليق بها.
• (أنشودة المطر) لـ(بدر شاكر السياب)، هل أثرت فيك على المستويين الشعري والإنساني؟
•• (أنشودة المطر) هي القصيدة الأولى التي قرأتها للشاعر بدر شاكر السياب، وأحدثت لديّ صدمة مرحلية، لا بسبب مضمونها فقط، وإنما من حيث شكلها الجديد الذي لم أعتد عليه سابقاً، فمن حيث المضمون تخلى بدر فيها وفي بقية نتاجه الشعري عن تمجيد الذات وتضخيمها وتعظيمها، وهو ما لم يكن مألوفاً لدينا سابقاً نحن المجتمع المعتاد على الفحولة والتفرعن الشعري الظاهر بوضوح في أمهات قصائدنا العمودية، ولدى معظم شعراء المدرسة العمودية الكلاسيكية، والانتقال الحاد لعرض الذات وهي كسيرة ومتألمة وضعيفة ومحتاجة لا ليل فيها يعرفه ولا خيل ولا سيف ولاهم يحزنون، بالإضافة إلى الشكل التفعيلي الجديد على الذائقة الأدبية.
ذلك الأسمر النحيل أثار زوبعة ذهنية لديّ قمت على إثرها بالبحث عن نتاجه الشعري المتبقي إلى أن حصلت في نهاية المطاف على نسخة من أعماله الكاملة، نعم تأثرت به وبقصائده، لكنه ليس سقفاً للإبداع بالنسبة لي بقدر ما هو شريك في إحداث تلك الانعطافة التي غيّرت مجرى الكتابة لدى الكثير من الشعراء وإلى الأبد.
• شبكات التواصل، ما الإضافة التي قدمتها، وما الأثر الذي تركته فيك؟
•• لها الفضل الكبير والأول في أن أُعرف لدى المتلقي العربي والعالمي ولولاها ربما لم يسمع أحد باسمي، ولا توجد قصيدة منشورة لي، وربما لم يحدث هذا اللقاء بيننا حتى!
كان اعتمادي كاملاً عليها على مستوى التعريف والظهور، حدث هذا مع تسيدها؛ إعلامياً وترويجياً، على وسائل التعريف القديمة، عرّفتني على الكثير من الأدباء والشعراء والمترجمين العرب والأجانب والشخصيات العربية المهمة في مجالاتها الذين أتثقف يوميا بفضلهم ويتصاعد أدائي الشعري نتيجة الاحتكاك بهم، وأخذت مني الوقت.
• القلق بالنسبة للشاعر، هل يصنع قصيدة عظيمة وخالدة؟
•• نعم يمكنه الإسهام في صناعة القصائد العظيمة على وجه الخصوص، وكذلك صناعة الشعر بوجه العموم، معظم القصائد الجيدة هي من بنات القلق، وعدم الاستقرار النفسي، والعاطفي، والوجداني، ثمة أبيات لي قلت فيها شارحاً أهمية القلق في إنتاج القصيدة:
لأنّ للشِعرِ غوراً لا قرارَ لهُ
لم يفصح الشعر عن يومٍ بهِ غَرقي
سجدتُ في الباب حتى ملّ سادنهُ
ونمت كالطفل أنّى قادني نزقي
بي اهتديت لطور الشعر في لغتي
وما اعتمدت على شيء سوى قلقي!
وللمتنبي بيته الشهير الذي يعالج المسألة نفسها بأسلوبه المعروف، والذي يقول فيه:
على قلق كان الريح تحتي
أوجهها يميناً أو شمالاً
وليته قال توجّهني يميناً أو شمالاً، لكان المعنى أبلغ وأجزل وأدق، وهذا البيت يشير إلى ذلك القلق المنتج للقصائد العظيمة والخالدة، أخبرني أرجوك لولا القلق النفسي أو الاجتماعي أو المادي أو الوجداني أو الوجودي برأيك من أين تأتي القصائد إذن؟!
• كيف اهتدى الشعر إليك، أو اهتديت له؟
•• اهتدينا لبعض، وتعرفنا بعضنا البعض في منطقة التناقضات، بين عالمين؛ واقعي وآخر خيالي في هذه المنطقة المشوشة التي تعجّ بالأشياء ونقائضها على المستوى الروحي والنفسي والوجداني، التقينا على إثر صدمة عاطفية كنت قبلها قارئاً رغم شح الموارد إذ ذاك.
في عمر الـ16 عاماً بدأت أكتب أولى كتاباتي كانت في شعر المقاومة، إذ عاصرت نظاماً سياسياً دموياً وشمولياً، تأثرت بالجواهري كثيمة للشاعر السياسي الشاعر؛ الذي يمثّل صوت الشعب، تبيّن لي في ما بعد أنه لم يكن ثائراً حقيقياً بقدر ما هو طالب سلطة حاول -رحمه الله- من خلال الكرّ تارة والتملق أخرى للأنظمة السياسية؛ التي عاصرها، أن يجد له مكاناً في المجتمع السياسي، فتوقفت عن كتابة الشعر السياسي منذ ذلك الحين، واتجهت لكتابة الشعر الإنساني، حتى دخلت مواقع التواصل متأخراً في عام 2016.
• لك رأي معلن في شعر النقائض (الهجاء)، ويبدو أنك لن تكون الوحيد ولا الأخير في هذا، فأنت طالبت بالتخلي عن هذا الغرض لصالح الشعر الهادف.
•• نعم وما زلت عند رأيي في ما يخص شعر النقائض، وأكرر عبارتي التي قلت فيها لو كان الأمر بيدي لأخذت شعر (النقائض) العائد لهؤلاء الثلاثة؛ الفرزدق وجرير والأخطل، ودفنته بعمق ميل تحت الأرض، كما تتعامل الدول المتقدمة مع نفاياتها النووية؛ لأنه يحمل التأثير الإشعاعي نفسه على العقل العربي.. لاحظ كمية القذع والهجاء والألفاظ البذيئة التي هي أقرب لمكبّ نفايات منها إلى الشعر؛ التي أسهمت في صناعة العقل النقائضي العربي الشعبوي القبلي الاستعلائي التنمري. الموضوع -برأيي- أخطر بكثير من كونه أدباً شعرياً، شعر النقائض أحد أهم العوامل التي أسهمت في بناء الشخصية العربية النقائضية، وسرت خصائصها إلى الأجيال اللاحقة، والمستغرب هو دعم هؤلاء الشعراء من ذوي العقول الغوغائية على حساب العقليات الشعرية المنظمة والهادفة حتى في الغزل، والأعجب تأخير المعري وابن خلدون وتقديم هؤلاء السوقة!.
القيمة اللغوية والفنية فيه لا تكفي للاستمرار بتداوله وتدريسه؛ لأنّ الضرر المترتب عليه أكبر من قيمته الفنية واللغوية، لقد صنعوا هم وأمثالهم من الشعراء هذا النسق الغوغائي المطرد الذي يعج بالبذاءة والشتيمة والتشفي، هذا النسق غير المنتج والمخالف لغرض الشعر، وهدفه، وخلفوا إرثاً عصبياً ما زال العقل العربي يعاني من آثاره إلى اليوم، ولا تكفي الجماليات اللغوية والفنية فيه لتبرير بقائه، تبقى البذاءة بذاءة، وإن قيلت بشكل فني، ويبقى التنمُّر والإساءة والاستخفاف والاستعلاء على الآخر، وذكر المعايب الخلقية قبيحاً ومرفوضاً وإن قيل على بحر شعري، أما عن مقولة لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث اللغة فهي مبالغة واضحة؛ لأننا نعرف تاريخ اللغة العربية من أين بدأ وكيف انتهى، وما ركائز ومصادر إثرائها؟!
• لماذا أنت متحامل على شعر الهجاء؟
•• لست متحاملاً بالمعنى الشخصي للتحامل، أنا أدعو للتعامل معه بحذر وللكف عن اعتباره شعراً، لأنه أقرب إلى بركة الوحل منه إلى الشعر، وأدعو إخوتي الشعراء إلى تجنب كتابته والاشتغال على قضايا الإنسان الكبرى وهمومه وتطلعاته وشكوكه ووجودياته ووجدانياته وآماله، وتفادي السقوط في نفس البركة التي سقط فيها بعض الأوائل، وأدعو إلى حذفه من المناهج الدراسية، وحصره في إطار النخبة من طلاب البحث الأكاديمي الساعين للحصول على الشهادات العليا وللنقاد وللباحثين التاريخيين؛ أعني حصره في إطار نخبوي كمادة دراسية وبحثية فقط، إذ لا يعقل أن يُدرّس هذا النظم القبيح، ناهيك عن تصنيفه كشعر، خذ مثالاً، لا حصراً:
لَقَد وَلَدَت أُمُّ الفَرَزدَقِ فاجِراً
وَجاءَت بِوَزوازٍ قَصيرِ القَوائِمِ
وَما كانَ جارٌ لِلفَرَزدَقِ مُسلِمٌ
لِيَأمَنَ قِرداً لَيلُهُ غَيرُ نائِمِ
يُوَصِّلُ حَبلَيهِ إِذا جَنَّ لَيلُهُ
لِيَرقى إِلى جاراتِهِ بِالسَلالِمِ
الآن، بالله عليك ما هذا؟!
• هل الشعر في العراق والعالم العربي بخير؟
•• نعم إنه بخير تماماً، وماضٍ في نسخ وتهذيب الموروث القديم، ويعيش مراحل تطوره الطبيعية، أما عن هؤلاء الذين يتحدثون عن أزمة الشعر هم أصحاب التعريف الساذج الذي يقول إنّ الشعر كلام موزون مقفى مفهوم، وهؤلاء يشبهون إلى حدّ ما أولئك المتشددين عقدياً، الذين يعيشون بعقلية القرن الثاني الهجري، ويحلمون بإسقاط قواعدها ونتائجها على القرن الواحد والعشرين في محاولة يائسة لاستيعاب المتغير الفكري والعصري وحشره في الثابت القيمي والفكري والتي ستفشل بطبعها لاستحالة استيعاب الثابت للمتغير علمياً وعملياً. لا توجد أزمة في الشعر، توجد تحولات كبيرة تحدث على مستوى الشكل، والفكرة، والصورة، والرؤية، يوجد نتاج غزير جداً، أيضاً، صحيح أن فيه الكثير من الغثّ، والزبد، ولكن، في المقابل فيه الكثير من النتاج العالي والجيد والممتاز والمتفوق على الكثير من النتاج التأسيسي للشعراء الأوائل.
• ما حال بغداد اليوم؟
ما حال بغداد؟ فوضاها هويتها
حتى اسأل الماء والنخل الذي أسرا
تقول والخوف جاث فوق هامتها
لفرط ما خفت لا أستشعر الخطرا
عمياء واللصّ عن نفسي يراودني
وفاجع الخطب أن لا يعبأ الخفرا
بعير أهلي باسم الله تنحره
يد الرعاة وجاري ينهب الوبرا
• لديك موقف من مهرجانات الشعر وملتقيات الأدب، لماذا؟
•• هو ليس موقفاً مضاداً أو ممانعاً لها بقدر ما هو قناعة تولدت نتيجة لقراءة شخصية للظاهرة، دعنا نسأل أولاً: ما مهرجانات الشعر والملتقيات والاتحادات الأدبية؟ هي عبارة عن سعي الأفراد للانتماء والانتظام في نسق اجتماعي معين.
العمل الجماعي كالأمسيات والمهرجانات والاتحادات والفعاليات المرتبطة بها هي عبارة عن بيئة حاضنة ومكملة للترويج والإشهار والتسويق والتعارف والانتظام في نسق اجتماعي يتشابه في الاهتمامات والأولويات؛ مثله مثل أي تجمع بشري آخر تجمعه العقيدة أو الأيدولوجيا أو الفكرة، ولا بأس به كفعالية جماعية؛ أعني الإنسان كائن اجتماعي، أساساً، بغض النظر عن المضاعفات النفسية والاجتماعية الناتجة عن الفعل الجماعي التي، عادةً، ما تحوّل الكتابة لدى المواظب على هذه الفعاليات من شغف إلى وظيفة.
أما الكتابة بشكل عام والشعر بصورة خاصة فلا علاقة له بالجماعة. إنه حالة سفر عكسية وفردية إلى منطقة التناقض أو المنطقة الرمادية في الوعي الإنساني، وأما اعتذاري عن بعض الدعوات فهو قرار مرتبط بطبيعة عملي وشكل حياتي الذي لا يسمح بتلبية هذه الدعوات والسفر إليها.
كما أنني أرى أن الكتابة عملٌ فرديٌ يجب أن تمارس بعيداً عن الكيانات الأدبية، هذا رأيي فيما يخصها. بالإضافة إلى قناعتي أن العالم قد تغير وبإمكان المبدع الآن أن يجد له مساحة ومتلقين ومحبين لنتاجه عن طريق الإعلام الرقمي المتمثل بمواقع التواصل الاجتماعي واستخدام مدونته الشخصية كبديل عن الصحف والمجلات والجرائد الأدبية، نحن الآن في عصر مختلف، عصر التواصل المباشر للأديب والشاعر مع جمهوره فهو ليس بحاجة إلى هوية صادرة من اتحاد أو مؤسسة أو جمعية ما ليصبح شاعراً، ولا يحتاج أن يقف في صورة فوتوغرافية إلى جانب شاعر أقدم ليتم الاعتراف به وبموهبته مع التقدير والاعتزاز طبعاً لرواد هذه المؤسسات، لكنّ الفيصل اليوم هو المنتج الأدبي، والمنتج فقط على الأقل على مستوى المتلقي العربي والعالمي.
• لماذا ينشغل كثير من المبدعين بالتكريم؟
•• أعتقد أنّ من حقهم ذلك ما داموا مبدعين حقيقيين، فالإنسان بطبيعته يحتاج الإشادة على المستوى النفسي والمعنوي؛ باعتباره قد أضاف شيئاً للحياة، وكذلك يحتاج الدعم المادي الناتج عن التكريم لسد حاجاته المعيشية والإنسانية فهو في النهاية بشر، الإشكالية فقط عندما يبالغ في البحث عنه حد الاستجداء، وإعطائه الأولوية على حساب طاقاته الإبداعية المودعة فيه.
يا أيها الشعر من لي حين تتركني
أما اتفقنا صغاراً أن نشيخ معاً!
• هل شخت أم شاخ الشعر، أم مازلتما معاً؟
•• ما زال هذا العقد سارياً بيني وبين الشعر، ولم يحدث أيّ خلل في الاتفاق المسبق المبرم بيننا منذ السادسة عشرة من عمري وإلى الآن، أمّا عن الشيخوخة فها أنا ذا أشيخ وأهرم مع الوقت، لكنّ الشّعر لا يشيخ!
• المرأة لدى الشعراء في قصائدهم لا تتجاوز المتعة التي يكتب فيها الشاعر وعنها إن أعجبته أو أراد لفت الانتباه إليها، ألا يمكن للشاعر أن يتجاوز هذه النظرة وهذا التوظيف؟
•• أعتقد أن للموروث الاجتماعي والثقافي وحتى الشعري السابق دوراً كبيراً في عدم قدرتنا كشعراء، وأنا منهم، على تجاوز المرأة الجسد إلى فضاء المرأة الإنسان؛ لأننا أبناء ذلك الموروث والمصابون به سنظل ندور في الفضاء الأول إلى أن يأتي جيل شعراء جديد يتجاوز ما ذكرت، ويعيد إنتاج تلك النظرة بشكل آخر مغاير لما أسس له القدامى، وما درجنا عليه نحن المعاصرين.
• الناي والغناء، هل هما ما ينقصنا، كي يصحو العالم؟!
•• ينقصنا الكثير كعالم عربي غير الناي والغناء لنصحو، وأظن تلك الصحوة ستظل حلماً غير قابل للتحقيق لا على المدى المنظور ولا على المدى البعيد؛ لأنّ أدوات التنويم مسيطرة علينا تماماً؛ قديماً وحديثاً، لكن، لا يمنع ذلك، وكشعراء من أن نستمرّ في عزف النشيد.
• هل الغموض في الشعر معضلة؟
•• أعتقد أنّ موضوع السهولة والإغماض والوعورة في الكتابة عموماً، وفي قصيدة النثر أو في القصيدة العمودية ليست مثلبة على الشاعر أو نقصاً في أدواته، وإنما الموضوع مرتبط وبشكل عضوي بكيفية معالجة الصورة في عقل الشاعر نفسه، فالشاعر لا يختار أن يكون نصه وعراً أو مرمّزاً، وكذلك لا يختار أن يكون سهلاً ومفهوماً وسلساً، وإنما وعيه هو من يقوم بذلك مثله النتاج التشكيلي لمدارس الرسم؛ هنا فنان يرسم لوحة انطباعية وآخر يرسم لوحة تكعيبية، غيره يرسم لوحه سريالية، هذا الاختلاف والتنوع في معالجة الفكرة وتشكيلها ذهنياً هو العامل الحاسم في تشكيل النص من حيث الوعورة أو السلاسة، وإليك هذا المثال: دخيل الخليفة وقاسم حداد وأدونيس، بينهم كثلاثي قاسم كتابي مشترك في اقتناص الفكرة المغايرة، وأسلوب تشكيلها، وشكلها النهائي لحظة الإنتاج مع وجود تباين واضح في درجة الإغماض، والتشفير يصل إلى ذروته في نصوص أدونيس.
على الجانب الآخر، محمد الماغوط، عبد العظيم فنجان، رحيم جماع، على سبيل المثال لا الحصر، بينهم أيضاً قاسم كتابي مشترك، هو النص السهل، السلس، الخالي تقريباً من الإغماض، والتشفير، والترميز.
ما الذي يحدث هنا، الذي يحدث أنّ عملية معالجة الصور وبناء النصوص تختلف من عقل شعري لآخر، الإشكالية ليست في الغموض، الإشكالية في الإغماض المتعمد الذي يفك الارتباط بشكل كامل بين المفردات، ودلالاتها، وينتج عمى دلالياً مطبقاً لا يستطيع أيّ متلقٍ أن يفهمه، أو يفك رموزه، ولا أدري، مافائدة كتابة نصّ لا يستهدف أحداً ولا يفهمه أحد، والمزعج أكثر تصفيق البعض لمثل هذه النصوص العمياء؛ التي لا تضيف شيئاً سوى تلويث الورق بالحبر، وبعبارات مبهمة من قبيل تواري السلحفاة خلف الأفق وأحصنة الغيم، وهلمّ جرا من هذا الهذيان الذي يُروّج له تحت عناوين الرمزية، والحداثة.
• هل من شعراء تدين لهم بالفضل الكبير في تجربتك الشعرية؟
•• أدين لكل من عرفت من الشعراء بذلك، فلولا اطلاعي على منتجهم الشعري وقراءتي لأساليبهم في معالجة الأفكار، والصور، وتنافسي معهم، واحتكاكي بهم، لما كان منتجي الشعري بهذه الجودة اليوم.
تخيّل أن تعيش تجربة شعرية كاملة بمعزل عن محيطها وبيئتها التنافسية، ستكون تجربة منقوصة وغير كاملة وربما رديئة أيضاً، كلّ الحب والتقدير لمن عرفت منهم ومن سأعرف لاحقاً.
• هناك قصائد عظيمة خلّدها بيت، فهل بيت القصيد ظلم الشعر والشعراء، أم قدّمهم للناس بيسرٍ وسهولة؟
•• أعتقد أن كل الأشكال الشعرية تعتمد على البيت الخالد أو الشطر الخالد أو سطر الدهشة كما في قصيدة النثر، وهذا البيت، أو الشطر، أو السطر في محاولة الصعود إلى منصة الخلود وأكاد أجزم أن القصائد أو النصوص الخالدة، ما كانت لتكون كذلك لولا هذا البيت، أو ذاك الشطر، أو السطر الذي نتحدث عنه، فهو من جهة سبب خلودها وخلود أسماء أصحابها، ويسهم في تقديمهم للمجتمعات كمبدعين وإلى الأبد، ومن جهة أخرى لا يظلم، وإنما يكشف عادية ما تلقى من النص إذا ما قورن به.
• هل البساطة والشعبية في شعرك جواز سفر مفتوح للقارئ؟
•• البساطة والشعبية في شخصي كشاعر قبل شعري هي جواز سفري إلى قلوب محبّي شعري، فأنا صديق لهم قبل أن أكون شاعرهم، ولا أتعمد البساطة والشعبية في الكتابة لألقى الحظوة أو القبول أبداً، أنا أكتب الشعر، لأنني أحبه، واستمتع بكتابته، أكتبه دون تخطيط مسبق، فيخرج بهذا الشكل.