من يقرأ قصيدة الشاعر إبراهيم زولي، يدرك جيداً أنه قاسٍ على نفسه، فالإبداع بالنسبة له «عملية إنتاج»، والإنتاج لا يقوم إلا على أدوات، هناك مئات الجداول والخلجان غذّت نهره الخالد، فهو نهم قرائياً حد الهوس بالأعمال الفاتنة، ليس شاعراً فحسب بل ذاكرة مرجعية عن الصحافة الثقافية، وبرامج الإذاعات المحلية والعربية والعالمية، وحوارات التلفزة والفضائيات، نَمَت تجربته على روافد عميقة، فخطى خطواته الأولى رويداً باتجاه الأرض، مروراً بأول الرؤيا، والأجساد تسقط في البنفسج، وليس انتهاءً بحرس شخصي للوحشة، وكانت طبعة بصمته تتجذر، وتكتسب المزيد من البريق، وهنا إبحار في وجدان ومشاعر وتجربة شاعر من العسير القبض عليه دفعة واحدة..
• تم، أخيراً، الاحتفاء بتجربتك عبر مجلة بانيبال العالمية، ما انعكاس هذه الحفاوة على الشعر والشاعر؟
•• مجلة بانيبال أصدرت عددها العاشر هذا العام محتفية بالأدب السعودي المعاصر باللغة الإسبانية، وقد ضم الملف نخبة من الشعراء والنقاد وكتّاب السرد، وكان لي شرف المشاركة معهم. مما لا شك فيه أن هذه المشاركات مترجمة إلى لغات أجنبية تعطي حضوراً للأدب السعودي عبر منافذ عالمية، وتؤكد أن السعودية ليست بئراً من النفط كما أرجف المرجفون في زمن ماضٍ، وهو الأمر ذاته الذي تسعى له رؤية 2030 بأن هذه الأرض ذات حضور باذخ إنساناً وتاريخاً.
• هل يبحث الشاعر فيك عن إنصاف أم إشادة؟
•• عندما يهجس الشاعر بإنصاف وهو يكتب قصيدته، فذلك يعني أن الشعر والقصيدة قد مسهما الكثير من النكوص والتراجع.. من يكتب استجداء للتصفيق فقصيدته لن تتجاوز آذان سامعيه.
• قال أحد النقاد إن قصيدتك متمسكة بجذورها ومنفتحة الفروع في كل اتجاهات ومظان الجمال، فما تعليقك؟
•• «تهمة لا أدفعها وشرف لا أدعيه» كما يقال، غير أن الشاعر المنبتّ عن جذوره سيغدو ريشة تتلقفها الزوابع، ويتحول نصه بتعبير أحمد بن الحسين: «غريب الوجه واليد واللسان»، وقد قيل «أدع كل الرياح تمر علي ولكنني في الوقت ذاته لا أترك فرصة لإحداها كي تنتزعني أو تجرفني».
ما يؤسف له -يا صديقي- أن البعض يقرأ لبودلير ورامبو وت.س إليوت، ولا يعرف شيئاً عن ابن الرومي أو أبي تمام والمعري.
• تكتب القصيدة الحديثة محافظاً على الغنائية المعتّقة، فهل للمكان أثر في ذلك؟
•• البعض يعدّ المكان هو الأرضية الصلبة التي ينطلق منها الشاعر للعالم، ومن يمتلك تفاصيل المكان يمتلك عالمه الشعري، عالماً لا يمكن أن يضل برفقته السبيل، وحتى لا تكون القصيدة ريشة في مهب الرياح، يبقى المكان، بكلّ تجلياته وتمظهراته، هو الذي يمكّن المبدع من كتابة عمل زاهٍ، عمل يقف معه على قدمين راسختين، وقامة تمدّ عنقها في الفضاء.
• في كل عنوان من أعمالك «قصيدة».. هل تتعمد الدهشة بدءاً من العنوان؟
•• أفكر كثيراً في عنوان الديوان بسبب أنه العتبة الأولى للنص، وهو بدرجة أكبر عتبة الديوان التي يستهل بها قارئ الكتاب قراءته، وليس غريباً أن الكثر من الشعراء يدقق كثيراً في عناوينه كما يحدِّق المحاربون في طرائدهم من فوّهات بنادقهم، وكلنا يعرف كم من الكتب التي ظلمها عنوانها، والعكس صحيح.
سأحكي لك حكاية حدثت لي مع المبدع والناشر عادل الحوشان صاحب «دار طوى» في أحد معارض الرياض، قابلته في الدار، وكنت قد قرأت ليوسا «من قتل بالومينو موليرو» و«شيطنة الطفلة الخبيثة» و«حفلة التيس» فقال لي خذ روايته «حلم السلتي» فترددت، ولكنه أردف: هذه رواية ظلمها عنوانها، فاقتنيتها، فكانت من أجمل روائع يوسا الملحمية.
• كيف تبدأ قصيدتك؟ ومتى؟
•• الكتابة موعد مع الغياب، أو هي المكوث بانتظار جودو، كما في رائعة صموئيل بيكيت، قريبة من البحث عن وليد مسعود، حسب توصيف جبرا إبراهيم جبرا.
قد تأتي وقد لا تأتي.
تغضب، فترمي بكلّ شيء في أقرب سلة أمامك، لا فرق بين سلّة المهملات، وسلّة المحذوفات في الكون الافتراضي
تقوم منكسراً من مكانك الذي هيّأته للقصيدة / الحلم
وحين يغالبك النعاس، أو ذاهباً في صباح شاحب إلى عملك، تقتحمك خلسة وأنت أعزل إلا من حزنك، عارياً سوى من البهجة بقدومها.
هي من تصطفي إيقاعها، وأوان حضورها، ربما في الظلام، أو حين يغالبك النعاس، أو ذاهباً في صباح شاحب إلى عملك
هكذا تقبل من أورثتْك الجنون.
فجأة، تنبت كعشب فوق حجر، كبرق تهامي، أو كمطر الصيف.
تشبه غيمة خرجتْ عنوة في يوم مشمس.
• متى كان النص الأول؟ وكيف تلقاه القراء؟
•• في تصوري كل نص مكتمل، لا شك في أنه سبقته العديد من المحاولات، والكثير من الحرث في حقول الكتابة، والنهل من أنهار المعرفة، والبحث الدؤوب عن خطاب ناضج ومكتمل ليحدد الكاتب عقب ذلك مشروعه المعرفي. وأنا في خندق من يقول إن الشعر الجاهلي لم يولد هكذا، بل كان قبله إرث هائل من المحاولات، غير أن أول كتابة نشرتها في حياتي كانت في صحيفة «عكاظ» منتصف الثمانينات الميلادية من القرن الفائت، كان عنوانها «خزعبلات، أو التأمل في الذات» وكنت أرى أنها لا تستحق النشر لولا أن أحد الأصدقاء قام بإرسالها، ووجدتها منشورة، عقب ذلك كانت هناك صفحة اسمها «أقلام» في الصحيفة ذاتها.. «عكاظ»؛ التي أزعم أن لها أيادي بيضاء على كثير من الأسماء في مشهدنا الثقافي السعودي، وكان الروائي عبده خال، والشاعر عبدالمحسن يوسف يشرفان على تلك الصفحة الأسبوعية، فأرسلت لهما نصاً بعنوان «لأشجار آلامي أغني» وسعدت بنشره. مذّاك عرفت أن الكتابة متاحة للأثرياء والفقراء، للقرويين، وسكان المدن، ثم توالت ممارسة الغواية.
• أين تذهب بالشعر؟ وأين يذهب بك؟
•• تأخذني الكتابة صوب القصيدة، أحاول أن أقارع بها الوحشة، ذلك أنني لا أعرف شيئاً أحترم به نفسي غير الكتابة. هي من تستطيع الاحتيال على العدم بتحدٍّ فاجر، وتكتب مجدها بحبر الشهوة.
رفقتها نحلم بغيمة لا ترهن أمطارها، وعصافير تسخر من جبروت الأعالي.
بالكتابة يا صديقي لن نكترث للثقوب الكثيرة في قميص الليل.
• ما أثر الرموز الشعرية عربياً على القصيدة السعودية؟
•• التأثر والتأثير أو ما يسمى المثاقفة حالة طبيعية وإنسانية، ولا يمكن لأي مجتمع أن يعيش في عُزلة عن العالم، فكيف بهذا المجتمع لو كان يتعاطى الثقافة والمعرفة، علاوة على أننا نعيش في زمن الانفجار المعلوماتي والسماوات المفتوحة. حالة تأثر «رموزنا» بدأت منذ أكثر من قرن من الزمان مع بداية ما يسمى الدولة القُطْرية؛ حيث تأثر كتابنا بالبارودي وشوقي وحافظ وطه حسين والعقاد، وغيرهم، واستمر هذا النشاط، وسيستمر التأثر والتأثير الطبيعي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بيد أن ما يعيب هو التأثر بشاعر دون سواه، شاعر يفترس نصوصك ويمد ظلاله على تجربتك، دون أن تتخلص من قبضته، حتى تغدو نسخة منه، ومسخاً.
• هل تراجع حضور المرأة الشاعرة، رغم كل الانفتاح؟
•• بكل تأكيد جوبهت القصيدة النسائية في العالم العربي بصعوبات جمّة وبعوائق تاريخية وسياسية واجتماعية منذ العصور الأولى لما قبل الإسلام، مع تحفظي الكامل على مسمى «العصر الجاهلي» لذا حينما نحاول رصد الأسماء النسائية في تراثنا العربي نجدها شحيحة ولا تظهر إلا بضعة أسماء على استحياء بالقياس للحضور الذكوري في مدونة الشعر العربي، وأسباب ذلك لا تخفى على الذهنية العربية التي كانت وربما لا تزال في بعض الجهات تنظر للمرأة بوصفها عورة، فكيف بتلك التي تكتب شعراً وتتغنى فيه بآمالها وآلامها، فيما لو كتبت امرأة عملاً روائياً، حتى وإن لم تستوفِ شروطه الفنية، ستجد المانشيتات الصحفية في اليوم الثاني تخلع عليها أحسن الألقاب. هذا حال القصيدة مع المرأة في الماضي والحاضر، وهي بالتالي أقل بهاء وحضوراً على مستوى الشعر العالمي باستثناء شاعرات نلن جائزة نوبل أمثال التتشيلية غبريالا ميسترال، أو البولندية فيسوافا شيميورسكا، وغيرهما، لسن أقل قامة، كالأمريكية آن سكستون، وسيلفيا بلاث، والروسية آنا أخماتوفا.
• ما مدى رضاك عن النقاد محلياً وعربياً؟
•• ما انفك خطابنا النقدي يلوك أسماء أكل الدهر عليها وشرب وربما نام أيضاً، وراح أغلب النقاد يتمترس متوارياً خلف سديم النظرية، ولا يشتبكون مع النصوص ويتعاطون معها. ترجموا نظريات، وراحوا يفصّلونها على نصوص لا تتواءم معها، وربما يعتسفون تلك النصوص اعتسافاً، وربما يكتبون عن شاعر أو شاعرة مشهورة ليسوغوا مشروعية حضورهم في الملتقيات والمؤتمرات، أغلب هؤلاء النقاد لا يعرف شيئاً عن جيل جديد شرع يكتب نصوصه بلغة طازجة، لغة منفتحة على كل التجارب العالمية من سينما ومسرح، وعلى كل الأجناس الأدبية سواء شعر أو قصة أو رواية، جيل لم يرتهن للسائد والمألوف، بل جاء متجاوزاً للنقد المعلّب والتنظيرات المثلّجة.
هذه التجارب الشعرية الجديدة لم تجد مكانها اللائق في ظل سطوة أسماء ثابتة ومكرسة، فيما هم يُحسبون على حركة التجريب، بيد أن النظريات والمقولات الجاهزة لا تزال تشدهم للخلف. ما جعل أكثر المبدعين يشدّون حقائبهم ويذهبون صوب عالم افتراضي، عالم ليس فيه دور للمحسوبية والعلاقات العامة والتسويق غير الأخلاقي للنصوص، ذهبوا بعيداً حيث السياق مختلف والحراك له نكهة أخرى والمشهد أكثر نبلاً، ذهبوا هناك، قريباً من الحافة.
• كتب الكثير القصيدة الحديثة ولم يتماسك في الحضور إلا قلة، إلامَ تعزو ذلك؟
•• ليس ثمة عنوان لهكذا حالة إلا الإفلاس، وعدم الإخلاص لمشروعهم الشعري. في تصوري أن الفقر المعرفي والقرائي هما السبب لذلك. الموهبة وحدها لا تكفي لخلق ديمومة إبداعية. مثل هؤلاء تجد أن تجربتهم تراوح مكانها، ورؤيتهم للعالم لم تتطور، ومعجمهم اللغوي يتكرر في أغلب نصوصهم، وسيعرفون اليوم أو غداً أن الزمن تجاوزهم، ولم يعد في إمكانهم إلا الصمت احتراماً للقصيدة ولأنفسهم.
• هل ستأفل شمس قصيدة العمود بحكم تعدد الأنواع الشعرية المتجددة؟
•• المسألة تعود لذائقة المتلقي ومرجعيته القرائية. ثمة شعراء يغريهم أن يردد معهم الجمهور القافية، بل إن بعضاً من الشعراء يصمت قبل أن يقول الكلمة الأخيرة المقفاة من البيت الشعري، ليقفز الجمهور ويقولها قبل الشاعر، معتمداً على القوافي السابقة، فينتشي الشاعر، ويبدأ الجمهور في تصفيق حاد. هذا المشهد لا يتسق مع معنى الشعر الذي في جوهره يدل على النبوءة والحدس والكشف والدهشة.
عقب غياب البردوني والجواهري تعيش القصيدة العمودية حالة يُتْم وحداد حتى إشعار آخر.
• ما أثر مسابقات الشعر على الفن الشعري بتغليب الاستعراض اللغوي؟
•• لطالما كانت الجوائز والمسابقات الأدبية ذات الشروط والموضوعات المعدة سلفاً، تسليعاً للشعر، وامتهاناً لكبرياء القصيدة. والمبدع الذي يقع في هذا الفخ يمتهن الكتابة ويصبح أسيراً للمال والمكافآت؛ التي بالضرورة لن تخلق شاعراً محترماً، مثل هؤلاء يصح عليهم «شعراء ما يطلبه المستمعون»، فيما الشعراء الذين كانت أسماؤهم ممهورة في سجل الخلود عاشوا فقراً مدقعاً، يعانون البرد والجوع، وقضوا جل حياتهم بعيدين عن الأضواء، وألق الكاميرات.
باختصار -يا عزيزي- هناك شعراء عاشوا للشعر، وآخرون عاشوا بالشعر.
• كيف ترى تجربة قصيدة النثر في العالم العربي؟
•• بداية لا أثق في شاعر يكتب قصيدة نثر، ويقرأ لبوشكين، ومالارميه، وسان جون ببرس، وهو لم يمر على ذخائر التراث العربي وقاماته الكبرى، بدءاً من طرفة بن العبد، وليس انتهاء بأبي نواس وبشار بن برد.
الكثير يعرف أن بودلير كان عمله الأول موزوناً «أزهار الشر» وبعد ذلك كتب قصيدة النثر في «سأم باريس» ومثله فعل رامبو.. كانت نصوصه موزونة في عمله «المركب السكران» ثم جاءت «الإشراقات» قصائد نثر خالصة. وفي العالم العربي هناك سركون بولص وأمجد ناصر، بَدَآ بقصائد التفعيلة وانتهيا إلى قصيدة نثر، وهما من علامات كتّاب هذا الشكل في وطننا العربي.
• أيُّ رفاق المرحلة ما زلتَ تعوّل عليه شعرياً؟
•• المرحلة طويلة يا صديقي، وعمرها الزمني نحو 35 عاماً أو تزيد، والذين لم يستكملوا الدرب، وتقطعت بهم السبل كثر، وأما الذين طرزوا الفتنة في قميص الكتابة، وأوقدوا المصابيح في الطرقات الكالحة، وذهبوا للحلم دون أن يلتفتوا لأشباح الطريق فقلة قليلة، أولئك من نراهن عليهم جميعاً.
• ما رسالتك لكتّاب النصوص الحديثة؟
•• بالتأكيد أنت تراوغ عندما تمعن في الغموض، تكون أسرارك أكثر عرياً ووضوحاً. القصيدة قلبها أبيض، ولا تعرف التضليل أيها الشاعر.
• متى نرى المجموعة الشعرية الأحدث؟ ولمن ستهديها؟
•• عندي مجموعة شعرية جاهزة للنشر قمت بإرسالها لـ«أدب» عبر موقعهم، لتكون ضمن مبادرة 100 كتاب التي يدعمها الصندوق الثقافي السعودي، وطلبت منهم أن يقرأوا الكتاب، فإن نال استحسانهم يكون ضمن إصداراتهم، عقب ذلك بأيام معدودة تلقيت اتصالاً من الرئيس التنفيذي للمشروع الدكتور عبدالله السفياني يعتذر عن النشر بحجة أن الديوان قصائد نثر ولجنة التحكيم ربما لا تستسيغ هذا الشكل من الكتابة، فسألته هل لجنة التحكيم ذات ميول واتجاه واحد؟ ثم إن معظم الأندية الأدبية؛ وهي مؤسسات ثقافية تدعمها الدولة، طبعت مثل هذه الأعمال، فرد قائلاً: لو عندك ديوان تفعيلة أو تستطيع كتابة ديوان خلال الفترة القادمة سنطبعه، وفوجئت عقب ذلك أن المشروع الذي تشرف عليه مؤسسة «أدب» طبع دواوين وهي قصائد نثر. كل ذلك تم قبل أن تقرأ اللجنة عملي، إن كان ثمة لجنة تحكيم.
وعرفت من خلال بعض الأصدقاء، أن الرأي من قبل ومن بعد للمشرف على «أدب»، الذي ما زلت أكنّ له من المحبة والتقدير الكثير.
• تم، أخيراً، الاحتفاء بتجربتك عبر مجلة بانيبال العالمية، ما انعكاس هذه الحفاوة على الشعر والشاعر؟
•• مجلة بانيبال أصدرت عددها العاشر هذا العام محتفية بالأدب السعودي المعاصر باللغة الإسبانية، وقد ضم الملف نخبة من الشعراء والنقاد وكتّاب السرد، وكان لي شرف المشاركة معهم. مما لا شك فيه أن هذه المشاركات مترجمة إلى لغات أجنبية تعطي حضوراً للأدب السعودي عبر منافذ عالمية، وتؤكد أن السعودية ليست بئراً من النفط كما أرجف المرجفون في زمن ماضٍ، وهو الأمر ذاته الذي تسعى له رؤية 2030 بأن هذه الأرض ذات حضور باذخ إنساناً وتاريخاً.
• هل يبحث الشاعر فيك عن إنصاف أم إشادة؟
•• عندما يهجس الشاعر بإنصاف وهو يكتب قصيدته، فذلك يعني أن الشعر والقصيدة قد مسهما الكثير من النكوص والتراجع.. من يكتب استجداء للتصفيق فقصيدته لن تتجاوز آذان سامعيه.
• قال أحد النقاد إن قصيدتك متمسكة بجذورها ومنفتحة الفروع في كل اتجاهات ومظان الجمال، فما تعليقك؟
•• «تهمة لا أدفعها وشرف لا أدعيه» كما يقال، غير أن الشاعر المنبتّ عن جذوره سيغدو ريشة تتلقفها الزوابع، ويتحول نصه بتعبير أحمد بن الحسين: «غريب الوجه واليد واللسان»، وقد قيل «أدع كل الرياح تمر علي ولكنني في الوقت ذاته لا أترك فرصة لإحداها كي تنتزعني أو تجرفني».
ما يؤسف له -يا صديقي- أن البعض يقرأ لبودلير ورامبو وت.س إليوت، ولا يعرف شيئاً عن ابن الرومي أو أبي تمام والمعري.
• تكتب القصيدة الحديثة محافظاً على الغنائية المعتّقة، فهل للمكان أثر في ذلك؟
•• البعض يعدّ المكان هو الأرضية الصلبة التي ينطلق منها الشاعر للعالم، ومن يمتلك تفاصيل المكان يمتلك عالمه الشعري، عالماً لا يمكن أن يضل برفقته السبيل، وحتى لا تكون القصيدة ريشة في مهب الرياح، يبقى المكان، بكلّ تجلياته وتمظهراته، هو الذي يمكّن المبدع من كتابة عمل زاهٍ، عمل يقف معه على قدمين راسختين، وقامة تمدّ عنقها في الفضاء.
• في كل عنوان من أعمالك «قصيدة».. هل تتعمد الدهشة بدءاً من العنوان؟
•• أفكر كثيراً في عنوان الديوان بسبب أنه العتبة الأولى للنص، وهو بدرجة أكبر عتبة الديوان التي يستهل بها قارئ الكتاب قراءته، وليس غريباً أن الكثر من الشعراء يدقق كثيراً في عناوينه كما يحدِّق المحاربون في طرائدهم من فوّهات بنادقهم، وكلنا يعرف كم من الكتب التي ظلمها عنوانها، والعكس صحيح.
سأحكي لك حكاية حدثت لي مع المبدع والناشر عادل الحوشان صاحب «دار طوى» في أحد معارض الرياض، قابلته في الدار، وكنت قد قرأت ليوسا «من قتل بالومينو موليرو» و«شيطنة الطفلة الخبيثة» و«حفلة التيس» فقال لي خذ روايته «حلم السلتي» فترددت، ولكنه أردف: هذه رواية ظلمها عنوانها، فاقتنيتها، فكانت من أجمل روائع يوسا الملحمية.
• كيف تبدأ قصيدتك؟ ومتى؟
•• الكتابة موعد مع الغياب، أو هي المكوث بانتظار جودو، كما في رائعة صموئيل بيكيت، قريبة من البحث عن وليد مسعود، حسب توصيف جبرا إبراهيم جبرا.
قد تأتي وقد لا تأتي.
تغضب، فترمي بكلّ شيء في أقرب سلة أمامك، لا فرق بين سلّة المهملات، وسلّة المحذوفات في الكون الافتراضي
تقوم منكسراً من مكانك الذي هيّأته للقصيدة / الحلم
وحين يغالبك النعاس، أو ذاهباً في صباح شاحب إلى عملك، تقتحمك خلسة وأنت أعزل إلا من حزنك، عارياً سوى من البهجة بقدومها.
هي من تصطفي إيقاعها، وأوان حضورها، ربما في الظلام، أو حين يغالبك النعاس، أو ذاهباً في صباح شاحب إلى عملك
هكذا تقبل من أورثتْك الجنون.
فجأة، تنبت كعشب فوق حجر، كبرق تهامي، أو كمطر الصيف.
تشبه غيمة خرجتْ عنوة في يوم مشمس.
• متى كان النص الأول؟ وكيف تلقاه القراء؟
•• في تصوري كل نص مكتمل، لا شك في أنه سبقته العديد من المحاولات، والكثير من الحرث في حقول الكتابة، والنهل من أنهار المعرفة، والبحث الدؤوب عن خطاب ناضج ومكتمل ليحدد الكاتب عقب ذلك مشروعه المعرفي. وأنا في خندق من يقول إن الشعر الجاهلي لم يولد هكذا، بل كان قبله إرث هائل من المحاولات، غير أن أول كتابة نشرتها في حياتي كانت في صحيفة «عكاظ» منتصف الثمانينات الميلادية من القرن الفائت، كان عنوانها «خزعبلات، أو التأمل في الذات» وكنت أرى أنها لا تستحق النشر لولا أن أحد الأصدقاء قام بإرسالها، ووجدتها منشورة، عقب ذلك كانت هناك صفحة اسمها «أقلام» في الصحيفة ذاتها.. «عكاظ»؛ التي أزعم أن لها أيادي بيضاء على كثير من الأسماء في مشهدنا الثقافي السعودي، وكان الروائي عبده خال، والشاعر عبدالمحسن يوسف يشرفان على تلك الصفحة الأسبوعية، فأرسلت لهما نصاً بعنوان «لأشجار آلامي أغني» وسعدت بنشره. مذّاك عرفت أن الكتابة متاحة للأثرياء والفقراء، للقرويين، وسكان المدن، ثم توالت ممارسة الغواية.
• أين تذهب بالشعر؟ وأين يذهب بك؟
•• تأخذني الكتابة صوب القصيدة، أحاول أن أقارع بها الوحشة، ذلك أنني لا أعرف شيئاً أحترم به نفسي غير الكتابة. هي من تستطيع الاحتيال على العدم بتحدٍّ فاجر، وتكتب مجدها بحبر الشهوة.
رفقتها نحلم بغيمة لا ترهن أمطارها، وعصافير تسخر من جبروت الأعالي.
بالكتابة يا صديقي لن نكترث للثقوب الكثيرة في قميص الليل.
• ما أثر الرموز الشعرية عربياً على القصيدة السعودية؟
•• التأثر والتأثير أو ما يسمى المثاقفة حالة طبيعية وإنسانية، ولا يمكن لأي مجتمع أن يعيش في عُزلة عن العالم، فكيف بهذا المجتمع لو كان يتعاطى الثقافة والمعرفة، علاوة على أننا نعيش في زمن الانفجار المعلوماتي والسماوات المفتوحة. حالة تأثر «رموزنا» بدأت منذ أكثر من قرن من الزمان مع بداية ما يسمى الدولة القُطْرية؛ حيث تأثر كتابنا بالبارودي وشوقي وحافظ وطه حسين والعقاد، وغيرهم، واستمر هذا النشاط، وسيستمر التأثر والتأثير الطبيعي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بيد أن ما يعيب هو التأثر بشاعر دون سواه، شاعر يفترس نصوصك ويمد ظلاله على تجربتك، دون أن تتخلص من قبضته، حتى تغدو نسخة منه، ومسخاً.
• هل تراجع حضور المرأة الشاعرة، رغم كل الانفتاح؟
•• بكل تأكيد جوبهت القصيدة النسائية في العالم العربي بصعوبات جمّة وبعوائق تاريخية وسياسية واجتماعية منذ العصور الأولى لما قبل الإسلام، مع تحفظي الكامل على مسمى «العصر الجاهلي» لذا حينما نحاول رصد الأسماء النسائية في تراثنا العربي نجدها شحيحة ولا تظهر إلا بضعة أسماء على استحياء بالقياس للحضور الذكوري في مدونة الشعر العربي، وأسباب ذلك لا تخفى على الذهنية العربية التي كانت وربما لا تزال في بعض الجهات تنظر للمرأة بوصفها عورة، فكيف بتلك التي تكتب شعراً وتتغنى فيه بآمالها وآلامها، فيما لو كتبت امرأة عملاً روائياً، حتى وإن لم تستوفِ شروطه الفنية، ستجد المانشيتات الصحفية في اليوم الثاني تخلع عليها أحسن الألقاب. هذا حال القصيدة مع المرأة في الماضي والحاضر، وهي بالتالي أقل بهاء وحضوراً على مستوى الشعر العالمي باستثناء شاعرات نلن جائزة نوبل أمثال التتشيلية غبريالا ميسترال، أو البولندية فيسوافا شيميورسكا، وغيرهما، لسن أقل قامة، كالأمريكية آن سكستون، وسيلفيا بلاث، والروسية آنا أخماتوفا.
• ما مدى رضاك عن النقاد محلياً وعربياً؟
•• ما انفك خطابنا النقدي يلوك أسماء أكل الدهر عليها وشرب وربما نام أيضاً، وراح أغلب النقاد يتمترس متوارياً خلف سديم النظرية، ولا يشتبكون مع النصوص ويتعاطون معها. ترجموا نظريات، وراحوا يفصّلونها على نصوص لا تتواءم معها، وربما يعتسفون تلك النصوص اعتسافاً، وربما يكتبون عن شاعر أو شاعرة مشهورة ليسوغوا مشروعية حضورهم في الملتقيات والمؤتمرات، أغلب هؤلاء النقاد لا يعرف شيئاً عن جيل جديد شرع يكتب نصوصه بلغة طازجة، لغة منفتحة على كل التجارب العالمية من سينما ومسرح، وعلى كل الأجناس الأدبية سواء شعر أو قصة أو رواية، جيل لم يرتهن للسائد والمألوف، بل جاء متجاوزاً للنقد المعلّب والتنظيرات المثلّجة.
هذه التجارب الشعرية الجديدة لم تجد مكانها اللائق في ظل سطوة أسماء ثابتة ومكرسة، فيما هم يُحسبون على حركة التجريب، بيد أن النظريات والمقولات الجاهزة لا تزال تشدهم للخلف. ما جعل أكثر المبدعين يشدّون حقائبهم ويذهبون صوب عالم افتراضي، عالم ليس فيه دور للمحسوبية والعلاقات العامة والتسويق غير الأخلاقي للنصوص، ذهبوا بعيداً حيث السياق مختلف والحراك له نكهة أخرى والمشهد أكثر نبلاً، ذهبوا هناك، قريباً من الحافة.
• كتب الكثير القصيدة الحديثة ولم يتماسك في الحضور إلا قلة، إلامَ تعزو ذلك؟
•• ليس ثمة عنوان لهكذا حالة إلا الإفلاس، وعدم الإخلاص لمشروعهم الشعري. في تصوري أن الفقر المعرفي والقرائي هما السبب لذلك. الموهبة وحدها لا تكفي لخلق ديمومة إبداعية. مثل هؤلاء تجد أن تجربتهم تراوح مكانها، ورؤيتهم للعالم لم تتطور، ومعجمهم اللغوي يتكرر في أغلب نصوصهم، وسيعرفون اليوم أو غداً أن الزمن تجاوزهم، ولم يعد في إمكانهم إلا الصمت احتراماً للقصيدة ولأنفسهم.
• هل ستأفل شمس قصيدة العمود بحكم تعدد الأنواع الشعرية المتجددة؟
•• المسألة تعود لذائقة المتلقي ومرجعيته القرائية. ثمة شعراء يغريهم أن يردد معهم الجمهور القافية، بل إن بعضاً من الشعراء يصمت قبل أن يقول الكلمة الأخيرة المقفاة من البيت الشعري، ليقفز الجمهور ويقولها قبل الشاعر، معتمداً على القوافي السابقة، فينتشي الشاعر، ويبدأ الجمهور في تصفيق حاد. هذا المشهد لا يتسق مع معنى الشعر الذي في جوهره يدل على النبوءة والحدس والكشف والدهشة.
عقب غياب البردوني والجواهري تعيش القصيدة العمودية حالة يُتْم وحداد حتى إشعار آخر.
• ما أثر مسابقات الشعر على الفن الشعري بتغليب الاستعراض اللغوي؟
•• لطالما كانت الجوائز والمسابقات الأدبية ذات الشروط والموضوعات المعدة سلفاً، تسليعاً للشعر، وامتهاناً لكبرياء القصيدة. والمبدع الذي يقع في هذا الفخ يمتهن الكتابة ويصبح أسيراً للمال والمكافآت؛ التي بالضرورة لن تخلق شاعراً محترماً، مثل هؤلاء يصح عليهم «شعراء ما يطلبه المستمعون»، فيما الشعراء الذين كانت أسماؤهم ممهورة في سجل الخلود عاشوا فقراً مدقعاً، يعانون البرد والجوع، وقضوا جل حياتهم بعيدين عن الأضواء، وألق الكاميرات.
باختصار -يا عزيزي- هناك شعراء عاشوا للشعر، وآخرون عاشوا بالشعر.
• كيف ترى تجربة قصيدة النثر في العالم العربي؟
•• بداية لا أثق في شاعر يكتب قصيدة نثر، ويقرأ لبوشكين، ومالارميه، وسان جون ببرس، وهو لم يمر على ذخائر التراث العربي وقاماته الكبرى، بدءاً من طرفة بن العبد، وليس انتهاء بأبي نواس وبشار بن برد.
الكثير يعرف أن بودلير كان عمله الأول موزوناً «أزهار الشر» وبعد ذلك كتب قصيدة النثر في «سأم باريس» ومثله فعل رامبو.. كانت نصوصه موزونة في عمله «المركب السكران» ثم جاءت «الإشراقات» قصائد نثر خالصة. وفي العالم العربي هناك سركون بولص وأمجد ناصر، بَدَآ بقصائد التفعيلة وانتهيا إلى قصيدة نثر، وهما من علامات كتّاب هذا الشكل في وطننا العربي.
• أيُّ رفاق المرحلة ما زلتَ تعوّل عليه شعرياً؟
•• المرحلة طويلة يا صديقي، وعمرها الزمني نحو 35 عاماً أو تزيد، والذين لم يستكملوا الدرب، وتقطعت بهم السبل كثر، وأما الذين طرزوا الفتنة في قميص الكتابة، وأوقدوا المصابيح في الطرقات الكالحة، وذهبوا للحلم دون أن يلتفتوا لأشباح الطريق فقلة قليلة، أولئك من نراهن عليهم جميعاً.
• ما رسالتك لكتّاب النصوص الحديثة؟
•• بالتأكيد أنت تراوغ عندما تمعن في الغموض، تكون أسرارك أكثر عرياً ووضوحاً. القصيدة قلبها أبيض، ولا تعرف التضليل أيها الشاعر.
• متى نرى المجموعة الشعرية الأحدث؟ ولمن ستهديها؟
•• عندي مجموعة شعرية جاهزة للنشر قمت بإرسالها لـ«أدب» عبر موقعهم، لتكون ضمن مبادرة 100 كتاب التي يدعمها الصندوق الثقافي السعودي، وطلبت منهم أن يقرأوا الكتاب، فإن نال استحسانهم يكون ضمن إصداراتهم، عقب ذلك بأيام معدودة تلقيت اتصالاً من الرئيس التنفيذي للمشروع الدكتور عبدالله السفياني يعتذر عن النشر بحجة أن الديوان قصائد نثر ولجنة التحكيم ربما لا تستسيغ هذا الشكل من الكتابة، فسألته هل لجنة التحكيم ذات ميول واتجاه واحد؟ ثم إن معظم الأندية الأدبية؛ وهي مؤسسات ثقافية تدعمها الدولة، طبعت مثل هذه الأعمال، فرد قائلاً: لو عندك ديوان تفعيلة أو تستطيع كتابة ديوان خلال الفترة القادمة سنطبعه، وفوجئت عقب ذلك أن المشروع الذي تشرف عليه مؤسسة «أدب» طبع دواوين وهي قصائد نثر. كل ذلك تم قبل أن تقرأ اللجنة عملي، إن كان ثمة لجنة تحكيم.
وعرفت من خلال بعض الأصدقاء، أن الرأي من قبل ومن بعد للمشرف على «أدب»، الذي ما زلت أكنّ له من المحبة والتقدير الكثير.