للشاعر اللبناني بلال المصري صوتٌ هامسٌ، يُشعرك عندما تلتقيه أنه ابن ناس، ليس كائناً استعراضياً، ولا مُفاخراً بما يُنجز، نجح في أن يحمي ذائقته من استهلاك المعيش، ويرتقي بلغته رغم وعورة المسالك، وراقت تجربته لنقاد كُثر، وحظيت بالاحترام ليخرج من عتمة المرايا، ويتصاعد تصاعد الياسمين، ويُبحر إبحار مفتونين بالسجال مع الأنواء دون التعثر بموجة.. وهنا نص حواري معه:
• ما الذي أغراك بقصيدة النثر؟
•• بالنسبة لي لا يمكن أن أرى الشعر خارج قصيدة النثر؛ لأنها ببساطة غير متكلفة لا بالشكل ولا في المضمون، وتمنح الشاعر مساحات حرة للتعبير دون الحواجز والضوابط الموجودة في الأشكال الأخرى من الشعر العامودي الى التفعيلة حيث تأسرك الحواجز والقيود، وتربك خيال الشاعر وتضعه أمام طريق إذا زاح عنه سقط، وهذا ما لا تجده في قصيدة النثر التي تمنحك السير في كل الاتجاهات وهي تحاكي العصر وتفتح آفاقاً جديدة نحو مناطق عميقة داخل الإنسان، وتسهم في تجديد اللغة في المعنى والتركيب، وتبرز تصورات وخيالات غير مطروقة. قصيدة النثر هي مستقبل الشعر وتمثل ضمير الإنسانية ووجدانها.
• هل أسهمت مجلتا شعر ومواقف في تأهيل أرضية في لبنان؟
•• دون شك كان لهما دور كبير في تأهيل أرضية ليس في لبنان وحسب، بل على امتداد الوطن العربي عموماً. لقد منعت المجلتان من دخول بعض البلاد العربية في حينه من أجل تقويض جهودهما، مع ذلك تمكنتا من الاستمرار في إشاعة مذاهب الحداثة ورسختا وجود قصيدة النثر في الثقافة العربية. كما تعلم مجلة مواقف أسسها الشاعر والمفكر الكبير أدونيس بعد أن غادر مجلة شعر عام 1963 وكتب افتتاحية العدد الأول قائلاً: «لن يكون هناك موضوعات مقدسة لا يجوز بحثها». ولكن ما حدث لاحقاً أنه لم تستطع المجلة طرح الموضوعات التي كان يطمح أدونيس لإثارتها مما أدى إلى إقفال المجلة بشكل نهائي؛ لأنها فقدت مبرر وجودها. والجدير ذكره أنه كتب في عددها الأول المفكر السعودي عبدالله القصيمي إلى جانب العديد من المفكرين والشعراء اللبنانيين والعرب.
• لمن الريادة لبنانياً في الشعر الحديث؟
•• بالنسبة لي أعتقد أن الريادة لبنانياً في الشعر الحديث لشعراء من الجيل الأول من أمثال يوسف الخال وخليل حاوي وأونسي الحاج، ثم يليهم شعراء من أمثال بول شاوول وبسام حجار، ثم شاعرات من أمثال عناية جابر وصباح زوين وغيرهم من الشاعرات والشعراء البارزين وصولاً لجيل الشعراء المجايلين والشباب حيث قائمة الأسماء تطول وتبرز تجارب شعرية غنية ومتقدمة جداً لشاعرات وشعراء مميزين من أبرزهم الشاعرة سمر دياب التى صدر لها ثلاث مجموعات شعرية متتالية تجربتها الشعرية مميزة وتستحق الثناء.
• كيف انعكس الواقع المادي على مستقبل القصيدة؟
•• صحيح أننا نعيش في واقع مادي تحكمه المصالح والصفقات وتسليع القيم، ولا يقيم وزناً للعواطف والمشاعر الإنسانية، وهنا تكمن مهمة قصيدة النثر بالتحديد المحصنة بذاتها، التى تمتلك القدرة على مقاومة هذا الواقع والتأثير فيه لتشكل قصيدة النثر، بل الشعر على العموم جبهة يقودها شعراء العالم من أجل السلام والمحبة والعدل ولجم الواقع المادي الذي تفرضه الرأسمالية العالمية التي صنعت كل هذه الحضارة لغاية واحدة هي تحقيق الربح المادي حتى ولو تم سحق البشرية بأكملها.
• لماذا لا يزال جمهور قصيدة النثر محدوداً؟
•• على العكس تماماً حسب اطلاعي فإن جمهور قصيدة النثر بازدياد مستمر لا سيما بين الشباب، وهذا ما أرصده من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات الشعرية، ولكن دعني أقول شيئاً هنا جمهور قصيدة النثر ليس جمهوراً كلاسيكياً تقليدياً على الإطلاق، فجمهور قصيدة النثر يسهم أيضاً في صناعتها عبر مئات، بل آلاف المحاولات للكتابة والتجريب، هو جمهور يتفاعل ويتأثر ويكتب القصيدة تعبيراً عن حبه وشغفه بها ومن هنا يجب أن نميز.
ليس كل من كتب قصيدة النثر شاعراً؛ لأن بلوغ هذه المرتبة يحتاج إلى مقومات عالية جداً، وأن معظم من يكتبون قصيدة النثر هم جمهورها الحقيقي وشعراؤها قلة قليلة. وهذه ميزة قصيدة النثر أنها تغوى الجمهور للاندفاع نحو الكتابة وتأسر فيهم على نحو تستنفر مشاعرهم وعواطفهم وتعطيهم الجرأة للتعبير عنها ومشاركة الشعراء في عملية التجريب والبحث عن الصور والرؤى الشعرية الجديدة وغير المطروقة.
• أين ترى العناية بالفنون والآداب عربياً؟
•• تتبنى اليوم دول الخليج عموماً والمملكة العربية السعودية خصوصاً دوراً ريادياً بالعناية بالفنون والآداب من خلال الإعلاء من شأن المسرح والفنون والشعر، وأيضاً السينما، وهذا ما شهدناه أخيراً في المملكة من مهرجان السينما إلى الجوائز الشعرية المتتالية التي تمنح لشعراء ومثقفين عرب وسعوديين إلى النهضة الكبيرة التي تشهدها المملكة العربية السعودية والتحول الجذري في مسارها التاريخي نحو الحداثة بكل معانيها، وكان آخر تجلياتها استضافة الشاعر العربي الكبير أدونيس في رحابها لأكثر من مرة خلال عام، كل هذا يؤكد أن المملكة تنحاز إلى الحداثة وترى فيها مستقبل الثقافة العربية دون أن نغفل كل ما تقدمه الأندية الأدبية من أنشطة وحراك ثقافي واسع النطاق داخل المملكة وخارجها عبر طباعة الكتب الأدبية لشعراء وروائيين عرب.
• ما أثر الحروب والأزمات على القصيدة اللبنانية؟
•• لبنان نموذج خاص للغاية، لقد ترعرعت قصيدة النثر منذ الخمسينيات في مناخ سياسي واقتصادي يتعرض دائماً إلى الهزات، واستمرت مسيرتها في كل الحروب التي تعرض لها لبنان بداية مع ثورة الـ1956 وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وما تلا ذلك من حروب أهلية واعتداءات إسرائيلية مما جعل من القصيدة اللبنانية قصيدة قلقة وساخطة حيناً وأحياناً قصيدة ثائرة وحالمة لها مفرداتها الخاصة ورؤيتها العالية وشأنها الرفيع في الثقافة العربية. لقد قدمت القصيدة اللبنانية نموذجاً حداثياً شكل في مختلف مراحله وعي ووجدان الإنسان العربي.
• بماذا ترد على من يعد القصيدة الحديثة استلاباً؟
•• لا أتفق مع هذا الكلام على الإطلاق. فأنا أعتبر أن قصيدة النثر هي جزء من تطور القصيدة العربية التي تطمح لمحاكاة العصر من خلال الشكل والمضامين الجديدة على نحو يمكننا من تقديم رؤية جديدة وإضافة على مخزون الشعر العربي، فدون التجديد في كافة الأشكال الأدبية والفنية تفقد تلك الفنون والأداب معناها وقيمتها وتصبح الثقافة العربية خارج الزمن دون التفاعل مع الحركة الحداثية التي تحصل في العالم، فالبعض يفضل أن يبقى في الماضي أما نحن نسعى لصناعة مستقبل القصيدة على طريقتنا.
• من «عتم المرايا»، إلى «تصاعد الياسمين كالرصاص»، إلى «خفيفاً كزيت يضيء»، إلى «أسماؤك كثيرة وخبزنا قليل»، هل من ذروة سنام لهذه المجاميع؟
•• أكتب في إطار التجريب والبحث، الكتابة عندي عملية حفر وتنقيب وغوص في أعماق الإنسان وليست محاولة لتسلق القمم، فالنظر إلى الأشياء من فوق يجعلها أقل من حجمها، ويجعلك أيضاً أكبر من حجمك الطبيعي بكثير. ومسار الكتابة عندي يسير بشكل متعرج، وأعتبر شعري نهراً ينحدر من الأعلى يقاوم المعوقات التى تواجهه يجرف كل ما في طريقه حتى بلوغ البحر ينتهي فيه مع ذلك يبقى عذباً وله نبرته الخاصة التي أعمل عليها منذ البدايات.
• لماذا الانتقال من القصيدة للمسرح؟
•• منحني المسرح مساحات شاسعة للتعبير دون أن أتخلى عن المناخ الشعري خلال عملية الكتابة، وفتنني المسرح بكل معنى الكلمة، وأبهرتني لعبة الحوار المدهشة التي تبني الأحداث الدرامية لتتراكم وتتصاعد وتتشكل الأسئلة الكبيرة فى هذا الفضاء الرحب حيث يتجاوز الكاتب نفسه ثم يعود إليها مشحوناً وقلقاً من عواقب تلك الحوارات التي من أول نتائجها اكتشاف الذات وإمكاناتها المجهولة من خلال لعبة الحوار الذي يؤجج الانفعالات الإنسانية الحقيقية التى دونها لا يكون لهذا الحوار أي قيمة، أضف إلى ذلك كتابة السيناريو المسرحي التي تمثل طبيعة المشهد على خشبة المسرح وحركة الممثلين بالنسبة لي أكتبها مثلما أكتب قصيدة بصرية.
ما أريد قوله الكتابة المسرحية بالنسبة لي ورشة عمل للتجريب والبحث عن الشعر بمعناه العميق.
• متى شعرت بالحاجة لكتابة الرواية؟
•• منذ بدايات تجربتي الشعرية وأنا لدي رغبة لمحاولة كتابة الرواية، وفي عام 2006 بعد أن استقللت بسكنٍ بعيدٍ عن العائلة كتبت أولى محاولاتي، ثم وببساطة أتلفت الرواية بأكملها، وبعدها بأشهر عاودت كتابة رواية أخرى لتصدر لاحقاً عن مؤسسة أروقة عام 2014 في القاهرة ضمن منشورات نادي نجران الأدبي. وبعدها كررت المحاولة مرة أخرى وكتبت رواية «الأخيب» التى لم تنشر حتى الآن ثم عملت على كتابة دراما تلفزيونية وكتبت سيناريو من ثلاثين حلقة، ولكني اليوم وبعد كل هذه المحاولات في كتابة الرواية والمسرح أريد أن أعود إلى وطني الشعر وأستقر فيه إلى الأبد.
• من أين ينبع قلقك على الثقافة العربية؟
•• هذا سؤال مهم للغاية صحيح أن الثقافة العربية تزدهر وتتقدم في أكثر من بلد عربي، وتشكل مشهداً ثقافياً بارزاً حتى على المستوى العالمي، لكن الذي يقلقني أن معظم الحراك الثقافي تخضع لاستراتيجية سياسية لها مشروعها واعتباراتها وأولوياتها وتعمل لمصلحتها وخدمة أهدافها، وهذا قد ينتج على المدى الطويل مشهداً ثقافياً عربياً سطحياً لا يعبر عن حقيقة الواقع ولا عن إرادة المثقفين أنفسهم؛ لذلك نأمل أن تتم خصخصة المؤسسات الثقافية عموماً وفتح آفاق حرة للعمل الثقافي ودعمه دون مقابل وجعل الثقافة كياناً مؤثراً بالسياسة وليس العكس ومعبراً عنها، وهذا ما سيجعل الأمور تتقدم نحو الأفضل، فعندما تضع المثقف في قالب معين وتأسره لا تتوقع منه أن يبدع، وعندما تحوله إلى موظف في مؤسسة لا تتوقع منه أن يبدع، وعندما تستكتبه في مواضيع معينة دون إعطائه الحرية الكاملة لا تتوقع منه أن يبدع.
• هل أطاح المشاهير بالبرج العاجي للمثقفين؟
•• أولئك الذين يقيمون في أبراجهم العاجية لا يصلح أن نسميهم مثقفين أصلاً.. فهم منفصلون عن الواقع، والأجدر بهم أن يلتحموا بالناس ويستلهموا أعمالهم من تجارب معاشة، وأن يتلمسوا قضايا الناس الأساسية وهمومهم، ويقدموا الحلول من خلال الاشتغال على أعمالهم الأدبية بمختلف أصنافها، وهذا ما سيحقق عملية اتصال وتواصل إيجابية ويعزز المشهد الثقافي ويجعل له قيمة وشأناً لدى أوساط عامة الناس.
• كثيرون لا يعرفون أنك اشتغلت في المملكة عملاً يدوياً، كم استمر؟
•• صحيح لقد عملت في المملكة العربية السعودية سنوات عدة، ومررت بأوقات صعبة، ولكن رغم كل الصعوبات التي مررت بها وجدت في المملكة إخوة وأصدقاء احتضنوني ووقفوا إلى جانبي وقدموا لي كل الدعم والعون اللازم للاستمرار، وأحب أن أخص بالذكر الصديق والأخ الكبير مسعد الحارثي الذي وقف إلى جانبي كأنني أحد أبنائه، لقد انقطعت أخباره منذ زمن طويل وآمل أن يكون بخير، وأغتنم هنا الفرصة لأشكره على حفاوته واهتمامه. وبالنسبة لتواجدي في المملكة في تلك الفترة الممتدة من 2008 وحتى عام 2012 تقريباً شاركت بالحياة الثقافية في المملكة وقدمت العديد من الأمسيات الشعرية في جدة والمنطقة الشرقية، كما استضافني الأصدقاء في سيهات ضمن ملتقى الوعد الثقافي، وأيضا في نجران ضمن فعاليات مهرجان قس بن ساعدة. وأود أن أذكر قصة هنا في تلك الفترة كان يجب أن ألتقى الشاعر الكبير محمد الثبيتي بعد أن رتب اللقاء صديقي مسعد الحارثي، ولكن بسبب مرض الشاعر محمد الثبيتي تم تأجيل اللقاء ثم توفي الشاعر وفاتني هذا اللقاء الذي كنت أنتظره بشغف، وهذا الشيء الوحيد الذي حزنت لأجله خلال تواجدي في المملكة.
• من هم أصدقاؤك الشعراء الذين تراهن عليهم؟
•• في الأساس أراهن على الشعر أنه سينقذ العالم من بأسه ومن غضبه، العالم بائس وغاضب، الطبيعة غير راضية عن أفعال الإنسان والبشرية رغم كل التطور الذي نشهده تسير نحو الهاوية والدمار؛ لأنها تفقد إنسانيتها وبدل أن تكون الآلة في خدمة الإنسان صار الإنسان يخدم الآلة وسيتحول لعبد لها إن لم ينقذه الشعر. لكن لماذا الشعر لأنه ببساطة ضمير ووجدان الإنسان وعاطفته الحية. وبالعودة لسؤالك فأنا أراهن على أصدقائي الشعراء جميعاً ومنهم صديقي الشاعر اللبناني علي حمام وهو رفيق دربي في الكتابة منذ نعومة أظفارنا وأجد في تجربته صوتاً شعرياً متميزاً وله بصمته الخاصة. كما أراهن على صديقي الشاعر السعودي صالح زمانان هذا الشاعر الفذ صاحب الصوت الشعري النجراني إذ يحتوى نصه الشعري على لغة شعرية متفردة وعالية. كما أراهن على الكثير من أصدقائي الشعراء وأذكر منهم: الشاعرة اللبنانية رنيم ضاهر وصديقي الشاعر المصري فتحي عبدالسميع وأيضا الشاعر العراقي عبود الجابري وغيرهم الكثير من الأسماء الشعرية الكبيرة.
• لمن تقرأ من مجايليك من الشعراء السعوديين؟
•• كما تعلم أنني على اطلاع لا بأس به بالمشهد الشعري السعودي؛ لذلك أنا أقرأ للكثير من الشعراء المجايلين ومنهم الشاعر الرائع أحمد الملا وصديقي الشاعر محمد خضر وأيضاً صديقي الشاعر على الحازمي والشاعر عبدالله ثابت وأيضا الشاعر الذي اختفى فجأة من المشهد الشعري السعودي ولم أعد أعرف عنه شيئاً وهو عيد الخميسي والعديد من الأسماء الشعرية الأخرى اللامعة.
• ما الذي أغراك بقصيدة النثر؟
•• بالنسبة لي لا يمكن أن أرى الشعر خارج قصيدة النثر؛ لأنها ببساطة غير متكلفة لا بالشكل ولا في المضمون، وتمنح الشاعر مساحات حرة للتعبير دون الحواجز والضوابط الموجودة في الأشكال الأخرى من الشعر العامودي الى التفعيلة حيث تأسرك الحواجز والقيود، وتربك خيال الشاعر وتضعه أمام طريق إذا زاح عنه سقط، وهذا ما لا تجده في قصيدة النثر التي تمنحك السير في كل الاتجاهات وهي تحاكي العصر وتفتح آفاقاً جديدة نحو مناطق عميقة داخل الإنسان، وتسهم في تجديد اللغة في المعنى والتركيب، وتبرز تصورات وخيالات غير مطروقة. قصيدة النثر هي مستقبل الشعر وتمثل ضمير الإنسانية ووجدانها.
• هل أسهمت مجلتا شعر ومواقف في تأهيل أرضية في لبنان؟
•• دون شك كان لهما دور كبير في تأهيل أرضية ليس في لبنان وحسب، بل على امتداد الوطن العربي عموماً. لقد منعت المجلتان من دخول بعض البلاد العربية في حينه من أجل تقويض جهودهما، مع ذلك تمكنتا من الاستمرار في إشاعة مذاهب الحداثة ورسختا وجود قصيدة النثر في الثقافة العربية. كما تعلم مجلة مواقف أسسها الشاعر والمفكر الكبير أدونيس بعد أن غادر مجلة شعر عام 1963 وكتب افتتاحية العدد الأول قائلاً: «لن يكون هناك موضوعات مقدسة لا يجوز بحثها». ولكن ما حدث لاحقاً أنه لم تستطع المجلة طرح الموضوعات التي كان يطمح أدونيس لإثارتها مما أدى إلى إقفال المجلة بشكل نهائي؛ لأنها فقدت مبرر وجودها. والجدير ذكره أنه كتب في عددها الأول المفكر السعودي عبدالله القصيمي إلى جانب العديد من المفكرين والشعراء اللبنانيين والعرب.
• لمن الريادة لبنانياً في الشعر الحديث؟
•• بالنسبة لي أعتقد أن الريادة لبنانياً في الشعر الحديث لشعراء من الجيل الأول من أمثال يوسف الخال وخليل حاوي وأونسي الحاج، ثم يليهم شعراء من أمثال بول شاوول وبسام حجار، ثم شاعرات من أمثال عناية جابر وصباح زوين وغيرهم من الشاعرات والشعراء البارزين وصولاً لجيل الشعراء المجايلين والشباب حيث قائمة الأسماء تطول وتبرز تجارب شعرية غنية ومتقدمة جداً لشاعرات وشعراء مميزين من أبرزهم الشاعرة سمر دياب التى صدر لها ثلاث مجموعات شعرية متتالية تجربتها الشعرية مميزة وتستحق الثناء.
• كيف انعكس الواقع المادي على مستقبل القصيدة؟
•• صحيح أننا نعيش في واقع مادي تحكمه المصالح والصفقات وتسليع القيم، ولا يقيم وزناً للعواطف والمشاعر الإنسانية، وهنا تكمن مهمة قصيدة النثر بالتحديد المحصنة بذاتها، التى تمتلك القدرة على مقاومة هذا الواقع والتأثير فيه لتشكل قصيدة النثر، بل الشعر على العموم جبهة يقودها شعراء العالم من أجل السلام والمحبة والعدل ولجم الواقع المادي الذي تفرضه الرأسمالية العالمية التي صنعت كل هذه الحضارة لغاية واحدة هي تحقيق الربح المادي حتى ولو تم سحق البشرية بأكملها.
• لماذا لا يزال جمهور قصيدة النثر محدوداً؟
•• على العكس تماماً حسب اطلاعي فإن جمهور قصيدة النثر بازدياد مستمر لا سيما بين الشباب، وهذا ما أرصده من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات الشعرية، ولكن دعني أقول شيئاً هنا جمهور قصيدة النثر ليس جمهوراً كلاسيكياً تقليدياً على الإطلاق، فجمهور قصيدة النثر يسهم أيضاً في صناعتها عبر مئات، بل آلاف المحاولات للكتابة والتجريب، هو جمهور يتفاعل ويتأثر ويكتب القصيدة تعبيراً عن حبه وشغفه بها ومن هنا يجب أن نميز.
ليس كل من كتب قصيدة النثر شاعراً؛ لأن بلوغ هذه المرتبة يحتاج إلى مقومات عالية جداً، وأن معظم من يكتبون قصيدة النثر هم جمهورها الحقيقي وشعراؤها قلة قليلة. وهذه ميزة قصيدة النثر أنها تغوى الجمهور للاندفاع نحو الكتابة وتأسر فيهم على نحو تستنفر مشاعرهم وعواطفهم وتعطيهم الجرأة للتعبير عنها ومشاركة الشعراء في عملية التجريب والبحث عن الصور والرؤى الشعرية الجديدة وغير المطروقة.
• أين ترى العناية بالفنون والآداب عربياً؟
•• تتبنى اليوم دول الخليج عموماً والمملكة العربية السعودية خصوصاً دوراً ريادياً بالعناية بالفنون والآداب من خلال الإعلاء من شأن المسرح والفنون والشعر، وأيضاً السينما، وهذا ما شهدناه أخيراً في المملكة من مهرجان السينما إلى الجوائز الشعرية المتتالية التي تمنح لشعراء ومثقفين عرب وسعوديين إلى النهضة الكبيرة التي تشهدها المملكة العربية السعودية والتحول الجذري في مسارها التاريخي نحو الحداثة بكل معانيها، وكان آخر تجلياتها استضافة الشاعر العربي الكبير أدونيس في رحابها لأكثر من مرة خلال عام، كل هذا يؤكد أن المملكة تنحاز إلى الحداثة وترى فيها مستقبل الثقافة العربية دون أن نغفل كل ما تقدمه الأندية الأدبية من أنشطة وحراك ثقافي واسع النطاق داخل المملكة وخارجها عبر طباعة الكتب الأدبية لشعراء وروائيين عرب.
• ما أثر الحروب والأزمات على القصيدة اللبنانية؟
•• لبنان نموذج خاص للغاية، لقد ترعرعت قصيدة النثر منذ الخمسينيات في مناخ سياسي واقتصادي يتعرض دائماً إلى الهزات، واستمرت مسيرتها في كل الحروب التي تعرض لها لبنان بداية مع ثورة الـ1956 وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وما تلا ذلك من حروب أهلية واعتداءات إسرائيلية مما جعل من القصيدة اللبنانية قصيدة قلقة وساخطة حيناً وأحياناً قصيدة ثائرة وحالمة لها مفرداتها الخاصة ورؤيتها العالية وشأنها الرفيع في الثقافة العربية. لقد قدمت القصيدة اللبنانية نموذجاً حداثياً شكل في مختلف مراحله وعي ووجدان الإنسان العربي.
• بماذا ترد على من يعد القصيدة الحديثة استلاباً؟
•• لا أتفق مع هذا الكلام على الإطلاق. فأنا أعتبر أن قصيدة النثر هي جزء من تطور القصيدة العربية التي تطمح لمحاكاة العصر من خلال الشكل والمضامين الجديدة على نحو يمكننا من تقديم رؤية جديدة وإضافة على مخزون الشعر العربي، فدون التجديد في كافة الأشكال الأدبية والفنية تفقد تلك الفنون والأداب معناها وقيمتها وتصبح الثقافة العربية خارج الزمن دون التفاعل مع الحركة الحداثية التي تحصل في العالم، فالبعض يفضل أن يبقى في الماضي أما نحن نسعى لصناعة مستقبل القصيدة على طريقتنا.
• من «عتم المرايا»، إلى «تصاعد الياسمين كالرصاص»، إلى «خفيفاً كزيت يضيء»، إلى «أسماؤك كثيرة وخبزنا قليل»، هل من ذروة سنام لهذه المجاميع؟
•• أكتب في إطار التجريب والبحث، الكتابة عندي عملية حفر وتنقيب وغوص في أعماق الإنسان وليست محاولة لتسلق القمم، فالنظر إلى الأشياء من فوق يجعلها أقل من حجمها، ويجعلك أيضاً أكبر من حجمك الطبيعي بكثير. ومسار الكتابة عندي يسير بشكل متعرج، وأعتبر شعري نهراً ينحدر من الأعلى يقاوم المعوقات التى تواجهه يجرف كل ما في طريقه حتى بلوغ البحر ينتهي فيه مع ذلك يبقى عذباً وله نبرته الخاصة التي أعمل عليها منذ البدايات.
• لماذا الانتقال من القصيدة للمسرح؟
•• منحني المسرح مساحات شاسعة للتعبير دون أن أتخلى عن المناخ الشعري خلال عملية الكتابة، وفتنني المسرح بكل معنى الكلمة، وأبهرتني لعبة الحوار المدهشة التي تبني الأحداث الدرامية لتتراكم وتتصاعد وتتشكل الأسئلة الكبيرة فى هذا الفضاء الرحب حيث يتجاوز الكاتب نفسه ثم يعود إليها مشحوناً وقلقاً من عواقب تلك الحوارات التي من أول نتائجها اكتشاف الذات وإمكاناتها المجهولة من خلال لعبة الحوار الذي يؤجج الانفعالات الإنسانية الحقيقية التى دونها لا يكون لهذا الحوار أي قيمة، أضف إلى ذلك كتابة السيناريو المسرحي التي تمثل طبيعة المشهد على خشبة المسرح وحركة الممثلين بالنسبة لي أكتبها مثلما أكتب قصيدة بصرية.
ما أريد قوله الكتابة المسرحية بالنسبة لي ورشة عمل للتجريب والبحث عن الشعر بمعناه العميق.
• متى شعرت بالحاجة لكتابة الرواية؟
•• منذ بدايات تجربتي الشعرية وأنا لدي رغبة لمحاولة كتابة الرواية، وفي عام 2006 بعد أن استقللت بسكنٍ بعيدٍ عن العائلة كتبت أولى محاولاتي، ثم وببساطة أتلفت الرواية بأكملها، وبعدها بأشهر عاودت كتابة رواية أخرى لتصدر لاحقاً عن مؤسسة أروقة عام 2014 في القاهرة ضمن منشورات نادي نجران الأدبي. وبعدها كررت المحاولة مرة أخرى وكتبت رواية «الأخيب» التى لم تنشر حتى الآن ثم عملت على كتابة دراما تلفزيونية وكتبت سيناريو من ثلاثين حلقة، ولكني اليوم وبعد كل هذه المحاولات في كتابة الرواية والمسرح أريد أن أعود إلى وطني الشعر وأستقر فيه إلى الأبد.
• من أين ينبع قلقك على الثقافة العربية؟
•• هذا سؤال مهم للغاية صحيح أن الثقافة العربية تزدهر وتتقدم في أكثر من بلد عربي، وتشكل مشهداً ثقافياً بارزاً حتى على المستوى العالمي، لكن الذي يقلقني أن معظم الحراك الثقافي تخضع لاستراتيجية سياسية لها مشروعها واعتباراتها وأولوياتها وتعمل لمصلحتها وخدمة أهدافها، وهذا قد ينتج على المدى الطويل مشهداً ثقافياً عربياً سطحياً لا يعبر عن حقيقة الواقع ولا عن إرادة المثقفين أنفسهم؛ لذلك نأمل أن تتم خصخصة المؤسسات الثقافية عموماً وفتح آفاق حرة للعمل الثقافي ودعمه دون مقابل وجعل الثقافة كياناً مؤثراً بالسياسة وليس العكس ومعبراً عنها، وهذا ما سيجعل الأمور تتقدم نحو الأفضل، فعندما تضع المثقف في قالب معين وتأسره لا تتوقع منه أن يبدع، وعندما تحوله إلى موظف في مؤسسة لا تتوقع منه أن يبدع، وعندما تستكتبه في مواضيع معينة دون إعطائه الحرية الكاملة لا تتوقع منه أن يبدع.
• هل أطاح المشاهير بالبرج العاجي للمثقفين؟
•• أولئك الذين يقيمون في أبراجهم العاجية لا يصلح أن نسميهم مثقفين أصلاً.. فهم منفصلون عن الواقع، والأجدر بهم أن يلتحموا بالناس ويستلهموا أعمالهم من تجارب معاشة، وأن يتلمسوا قضايا الناس الأساسية وهمومهم، ويقدموا الحلول من خلال الاشتغال على أعمالهم الأدبية بمختلف أصنافها، وهذا ما سيحقق عملية اتصال وتواصل إيجابية ويعزز المشهد الثقافي ويجعل له قيمة وشأناً لدى أوساط عامة الناس.
• كثيرون لا يعرفون أنك اشتغلت في المملكة عملاً يدوياً، كم استمر؟
•• صحيح لقد عملت في المملكة العربية السعودية سنوات عدة، ومررت بأوقات صعبة، ولكن رغم كل الصعوبات التي مررت بها وجدت في المملكة إخوة وأصدقاء احتضنوني ووقفوا إلى جانبي وقدموا لي كل الدعم والعون اللازم للاستمرار، وأحب أن أخص بالذكر الصديق والأخ الكبير مسعد الحارثي الذي وقف إلى جانبي كأنني أحد أبنائه، لقد انقطعت أخباره منذ زمن طويل وآمل أن يكون بخير، وأغتنم هنا الفرصة لأشكره على حفاوته واهتمامه. وبالنسبة لتواجدي في المملكة في تلك الفترة الممتدة من 2008 وحتى عام 2012 تقريباً شاركت بالحياة الثقافية في المملكة وقدمت العديد من الأمسيات الشعرية في جدة والمنطقة الشرقية، كما استضافني الأصدقاء في سيهات ضمن ملتقى الوعد الثقافي، وأيضا في نجران ضمن فعاليات مهرجان قس بن ساعدة. وأود أن أذكر قصة هنا في تلك الفترة كان يجب أن ألتقى الشاعر الكبير محمد الثبيتي بعد أن رتب اللقاء صديقي مسعد الحارثي، ولكن بسبب مرض الشاعر محمد الثبيتي تم تأجيل اللقاء ثم توفي الشاعر وفاتني هذا اللقاء الذي كنت أنتظره بشغف، وهذا الشيء الوحيد الذي حزنت لأجله خلال تواجدي في المملكة.
• من هم أصدقاؤك الشعراء الذين تراهن عليهم؟
•• في الأساس أراهن على الشعر أنه سينقذ العالم من بأسه ومن غضبه، العالم بائس وغاضب، الطبيعة غير راضية عن أفعال الإنسان والبشرية رغم كل التطور الذي نشهده تسير نحو الهاوية والدمار؛ لأنها تفقد إنسانيتها وبدل أن تكون الآلة في خدمة الإنسان صار الإنسان يخدم الآلة وسيتحول لعبد لها إن لم ينقذه الشعر. لكن لماذا الشعر لأنه ببساطة ضمير ووجدان الإنسان وعاطفته الحية. وبالعودة لسؤالك فأنا أراهن على أصدقائي الشعراء جميعاً ومنهم صديقي الشاعر اللبناني علي حمام وهو رفيق دربي في الكتابة منذ نعومة أظفارنا وأجد في تجربته صوتاً شعرياً متميزاً وله بصمته الخاصة. كما أراهن على صديقي الشاعر السعودي صالح زمانان هذا الشاعر الفذ صاحب الصوت الشعري النجراني إذ يحتوى نصه الشعري على لغة شعرية متفردة وعالية. كما أراهن على الكثير من أصدقائي الشعراء وأذكر منهم: الشاعرة اللبنانية رنيم ضاهر وصديقي الشاعر المصري فتحي عبدالسميع وأيضا الشاعر العراقي عبود الجابري وغيرهم الكثير من الأسماء الشعرية الكبيرة.
• لمن تقرأ من مجايليك من الشعراء السعوديين؟
•• كما تعلم أنني على اطلاع لا بأس به بالمشهد الشعري السعودي؛ لذلك أنا أقرأ للكثير من الشعراء المجايلين ومنهم الشاعر الرائع أحمد الملا وصديقي الشاعر محمد خضر وأيضاً صديقي الشاعر على الحازمي والشاعر عبدالله ثابت وأيضا الشاعر الذي اختفى فجأة من المشهد الشعري السعودي ولم أعد أعرف عنه شيئاً وهو عيد الخميسي والعديد من الأسماء الشعرية الأخرى اللامعة.