لم أشعر يوماً بأن الصديق عبدالمجيد التركي مجرد شاعر وكاتب وصحفي، بل منذ أوّل لقاء في القاهرة، وصورته المُثلى في ذهني (كُتلة مشاعر من نُبل ونقاء) أشبه بالشمس التي تبحث في الشتاء عن مُهجرين وعالقين بالزمهرير لتمدهم ببعض الدفء، وأقرب لكوكب سارٍ لا ينام حرصاً على الإصغاء لحداء السُّراة، وأوثقُ صلة بغيمة سخيّة تجود بالعطاء على مسكونين بصوت الرعد، أدنى ما كان من النجوى في الحُب وإن تسلّعت مذاهب العاشقين، وأنأى ما يكونُ عن الشكوى برغم أسبابها المتوفرة. ولد الشاعر اليمني في يومٍ أخضر من عام 1975، وعمل مصححاً لغوياً بصحيفة الثورة الرسمية، ومشرفاً على ملحق اليمن اليوم الثقافي، صدر له 2004 «اعترافات مائية»، و«هكذا أنا» في 2016، و«كتاب الاحتضار» و«كبرتُ كثيراً يا أبي»، 2023.. وهنا نص حوارنا معه:
• هل أثمر ما يمكن تسميته «المجتمع المدني» في اليمن نخباً ثقافية ذات مواقف مؤثرة؟
•• النخب الثقافية ليست نتاجاً للمجتمع المدني بقدر ما تقوم هذه النخب بصياغة هذا المجتمع المدني؛ الذي لا بد أن تكون له سياسة وأيديولوجيا خاصة، والنخب الثقافية الحقيقية لا يمكن أن تتماشى مع أي أيديولوجيا..
الطفرة الثقافية الحاصلة في اليمن كانت ثمرتها بعد 22 مايو 1990، حين تحققت الوحدة اليمنية، ورفعت الرقابة مجهرها عن الصحف ودور النشر، ووضع الرقيب مقصَّه في المطبخ، حيث مكانه الطبيعي.
• كيف يتعامل المثقف مع الواقع اليمني، ومن أي زاوية ينظر إليه؟
•• لكل مثقف رؤية تخصه وتعكس مستواه الثقافي، والفكري، والوطني، فهناك مثقفون سطحيون ينظرون للواقع اليمني من خارجه، وهم كمن ينظر في زجاجة كوكاكولا من خارجها، وهؤلاء لن يروا شيئاً ما لم يعيشوا الواقع كما هو. والأحرى بالمثقف أن يكون مواطناً قبل أن يكون أي شيء آخر، ويتعامل مع الواقع ويقدِّمه كما هو، ويجب على المثقف أن يكون مثقفاً على الواقع قبل أن يكون مثقفاً على الورق.
• ما ترتيب الثقافة اليمنية في سلم الترتيب العربي؟ وما السبب؟
•• منذ ما قبل الإسلام وحتى الآن لا يخلو عقد من وجود أسماء بارزة، والثقافة اليمنية متوهجة منذ عقد التسعينات، كمّاً وكيفاً، وهي الآن أكثر توهجاً بعد مجيء الجيل الألفيني.
المشهد اليمني خلال هذه العقود يحتل الصدارة، أما عن السبب فهو وجود جيل شبابي امتلك شروط الإبداع، ولا أظن أن هناك مشهداً شعرياً عربياً شبابياً كما هو الآن في اليمن.
• لماذا حظوظ الفن اليمني (الطرب تحديداً) أوفر وأرحب؟
•• الشعر الغنائي والموشحات اليمنية، دون أدنى شك، تفوق الموشحات الأندلسية في جودتها، لكن ليس هناك إعلام يمني يوصل هذا الطرب إلى كل الخريطة، فالإعلام الذي يصنع الضجيج هو الذي يتصدر المشهد حتى لو كان ما يقدمه لا يستحق الضجيج. وربما أن الذي يمتلك شيئاً جيداً يرى أنه ممتلئ وليس بحاجة لضجيج. وللشعر الغنائي اليمني أقطابه الكبار، أمثال القاضي: محمد بن شرف الدين، والقاضيان عبدالرحمن الآنسي، وأحمد الآنسي، والقاضي علي العنسي، وما زالت هذه الموشحات والقصائد نابضة ومتجددة حتى اليوم، رغم مضي مئات السنين عليها.
• متى بدأت تجربتك الشعرية؟
•• لا أحد يستطيع تحديد بداية كتابته للشعر، والحديث عن التجربة الشعرية بمفهومها الصحيح سيكون شائكاً وطويلاً، لأن التجربة تكون نتيجة تراكم، وتصور، ورؤية مختلفة للحياة، وهذه الرؤية هي التي تصنع التجربة الشعرية لدى الشاعر، وتجعله مهيئاً لمواجهة الحياة بمفهومه الذي تمتلئ به حروفه وأفكاره.
أما إن كنت تقصد بداية الظهور، فقد بدأت بالنشر في الصحف منذ آواخر تسعينات القرن الماضي.
• ما إرهاصات التجربة الأولى؟•• أدين لمدينة «شهارة»، التي ولدت فيها، بهذه الإرهاصات التي شكَّلت وعيي منذ طفولتي، فقد كانت «شهارة» هجرة من هجر العلم، وواحدة من المدن التي تصدِّر الشعر والأدب.. وأدين كذلك لجدتي التي جعلتني مستمعاً جيداً بقصصها وحكاياتها قبل النوم، إلى حد أنني كنت أصنع بيني وبين نفسي سيناريو آخر وخاتمة مختلفة لهذه الحكايات، وأقوم بتحويرها وأنا طفل، فأيقنت أنني قادر على اختلاق الحكايات، وهذا أفادني كثيراً في تجربتي الشعرية.
• من له فضل في بروزك شعرياً؟•• لا أحد، فأنا منذ طفولتي لا أحب أن يكون لأحد فضل عليَّ.. فقد كنت أكتب بصمت، وأصقل معارفي بالقراءة والتأمل، وبهذا صنعت نفسي بنفسي كي لا يحوز أحد على هذا الفضل، لكن هذا الصقل كان ناقصاً، فاختلطت بالشعراء واستمعت إلى المثاقفات والنقاشات، وعرفت طريق الصحف والنشر.
• أما زلت تراهن على الشعر؟
•• نعم، أراهن على الشعر الواعي، الذي يعيش مع الواقع ويصوره كما هو دون تزييف.. أراهن على الشعر المكتوب بحرفية تتجاوز التنظير، وتكسر الصنمية التي جعلت الشعر مكرراً منذ أربعة عشر قرناً. وهذا الرهان هو ما قمت به في كتابي الشعري الجديد: «كبرتُ كثيراً يا أبي»، الذي كسر تنظيرات الحداثة التي أوشكت أن تحول الشعر إلى صنمٍ أصمّ.
• كيف حال القصيدة العمودية اليوم؟•• دون شك هناك شعراء ينفخون من روحهم في القصيدة العمودية، ويكتبونها بإخلاص، ويملأونها بالتأمل. فالتأمل في نظري هو أساس الشعر.. وفي اليمن شعراء عموديون مقتدرون، ويكتبون بطريقة مدهشة ومختلفة عمَّا يعهده الناس.
• أين النقاد العرب من تجارب الأجيال؟•• النقاد الكبار رحلوا، والنقاد الحقيقيون، الآن، يعدُّون على الأصابع، ولأنهم قلة ربما لا يستطيعون مواكبة كل جديد، ووجود النقد مهم لغربلة ما تطبعه المطابع كل يوم، لكن حتى لو غاب النقد وأصبح التلميع هو السائد فلن يصح إلا الصحيح.
• أما زال البعض يستهلك تجارب الغرب والشرق من الحداثة إلى الهايكو؟•• نعم، للأسف.. وهناك من وصل إلى استهلاك وتطويع «ترجمة الأفلام» في نصوصه باسم الحداثة والهايكو.. فحين تكتب الشعر دون وعي بماهيته، ودون الوقوف أمامه بهيبة وإجلال ستكون النتيجة استهلاكاً واجتراراً، ما لم تكن واعياً بتجربتك ولديك رؤية واضحة للشعر.. وأجزم أنك لو طلبتَ من مائة شاعر أن يتحدثوا عن «تجربتهم الشعرية» فلن يستطيع سوى خمسة منهم الحديث عن تجاربهم الشعرية كما يجب، وليس كما ينبغي.
• هل أثمر ما يمكن تسميته «المجتمع المدني» في اليمن نخباً ثقافية ذات مواقف مؤثرة؟
•• النخب الثقافية ليست نتاجاً للمجتمع المدني بقدر ما تقوم هذه النخب بصياغة هذا المجتمع المدني؛ الذي لا بد أن تكون له سياسة وأيديولوجيا خاصة، والنخب الثقافية الحقيقية لا يمكن أن تتماشى مع أي أيديولوجيا..
الطفرة الثقافية الحاصلة في اليمن كانت ثمرتها بعد 22 مايو 1990، حين تحققت الوحدة اليمنية، ورفعت الرقابة مجهرها عن الصحف ودور النشر، ووضع الرقيب مقصَّه في المطبخ، حيث مكانه الطبيعي.
• كيف يتعامل المثقف مع الواقع اليمني، ومن أي زاوية ينظر إليه؟
•• لكل مثقف رؤية تخصه وتعكس مستواه الثقافي، والفكري، والوطني، فهناك مثقفون سطحيون ينظرون للواقع اليمني من خارجه، وهم كمن ينظر في زجاجة كوكاكولا من خارجها، وهؤلاء لن يروا شيئاً ما لم يعيشوا الواقع كما هو. والأحرى بالمثقف أن يكون مواطناً قبل أن يكون أي شيء آخر، ويتعامل مع الواقع ويقدِّمه كما هو، ويجب على المثقف أن يكون مثقفاً على الواقع قبل أن يكون مثقفاً على الورق.
• ما ترتيب الثقافة اليمنية في سلم الترتيب العربي؟ وما السبب؟
•• منذ ما قبل الإسلام وحتى الآن لا يخلو عقد من وجود أسماء بارزة، والثقافة اليمنية متوهجة منذ عقد التسعينات، كمّاً وكيفاً، وهي الآن أكثر توهجاً بعد مجيء الجيل الألفيني.
المشهد اليمني خلال هذه العقود يحتل الصدارة، أما عن السبب فهو وجود جيل شبابي امتلك شروط الإبداع، ولا أظن أن هناك مشهداً شعرياً عربياً شبابياً كما هو الآن في اليمن.
• لماذا حظوظ الفن اليمني (الطرب تحديداً) أوفر وأرحب؟
•• الشعر الغنائي والموشحات اليمنية، دون أدنى شك، تفوق الموشحات الأندلسية في جودتها، لكن ليس هناك إعلام يمني يوصل هذا الطرب إلى كل الخريطة، فالإعلام الذي يصنع الضجيج هو الذي يتصدر المشهد حتى لو كان ما يقدمه لا يستحق الضجيج. وربما أن الذي يمتلك شيئاً جيداً يرى أنه ممتلئ وليس بحاجة لضجيج. وللشعر الغنائي اليمني أقطابه الكبار، أمثال القاضي: محمد بن شرف الدين، والقاضيان عبدالرحمن الآنسي، وأحمد الآنسي، والقاضي علي العنسي، وما زالت هذه الموشحات والقصائد نابضة ومتجددة حتى اليوم، رغم مضي مئات السنين عليها.
• متى بدأت تجربتك الشعرية؟
•• لا أحد يستطيع تحديد بداية كتابته للشعر، والحديث عن التجربة الشعرية بمفهومها الصحيح سيكون شائكاً وطويلاً، لأن التجربة تكون نتيجة تراكم، وتصور، ورؤية مختلفة للحياة، وهذه الرؤية هي التي تصنع التجربة الشعرية لدى الشاعر، وتجعله مهيئاً لمواجهة الحياة بمفهومه الذي تمتلئ به حروفه وأفكاره.
أما إن كنت تقصد بداية الظهور، فقد بدأت بالنشر في الصحف منذ آواخر تسعينات القرن الماضي.
• ما إرهاصات التجربة الأولى؟•• أدين لمدينة «شهارة»، التي ولدت فيها، بهذه الإرهاصات التي شكَّلت وعيي منذ طفولتي، فقد كانت «شهارة» هجرة من هجر العلم، وواحدة من المدن التي تصدِّر الشعر والأدب.. وأدين كذلك لجدتي التي جعلتني مستمعاً جيداً بقصصها وحكاياتها قبل النوم، إلى حد أنني كنت أصنع بيني وبين نفسي سيناريو آخر وخاتمة مختلفة لهذه الحكايات، وأقوم بتحويرها وأنا طفل، فأيقنت أنني قادر على اختلاق الحكايات، وهذا أفادني كثيراً في تجربتي الشعرية.
• من له فضل في بروزك شعرياً؟•• لا أحد، فأنا منذ طفولتي لا أحب أن يكون لأحد فضل عليَّ.. فقد كنت أكتب بصمت، وأصقل معارفي بالقراءة والتأمل، وبهذا صنعت نفسي بنفسي كي لا يحوز أحد على هذا الفضل، لكن هذا الصقل كان ناقصاً، فاختلطت بالشعراء واستمعت إلى المثاقفات والنقاشات، وعرفت طريق الصحف والنشر.
• أما زلت تراهن على الشعر؟
•• نعم، أراهن على الشعر الواعي، الذي يعيش مع الواقع ويصوره كما هو دون تزييف.. أراهن على الشعر المكتوب بحرفية تتجاوز التنظير، وتكسر الصنمية التي جعلت الشعر مكرراً منذ أربعة عشر قرناً. وهذا الرهان هو ما قمت به في كتابي الشعري الجديد: «كبرتُ كثيراً يا أبي»، الذي كسر تنظيرات الحداثة التي أوشكت أن تحول الشعر إلى صنمٍ أصمّ.
• كيف حال القصيدة العمودية اليوم؟•• دون شك هناك شعراء ينفخون من روحهم في القصيدة العمودية، ويكتبونها بإخلاص، ويملأونها بالتأمل. فالتأمل في نظري هو أساس الشعر.. وفي اليمن شعراء عموديون مقتدرون، ويكتبون بطريقة مدهشة ومختلفة عمَّا يعهده الناس.
• أين النقاد العرب من تجارب الأجيال؟•• النقاد الكبار رحلوا، والنقاد الحقيقيون، الآن، يعدُّون على الأصابع، ولأنهم قلة ربما لا يستطيعون مواكبة كل جديد، ووجود النقد مهم لغربلة ما تطبعه المطابع كل يوم، لكن حتى لو غاب النقد وأصبح التلميع هو السائد فلن يصح إلا الصحيح.
• أما زال البعض يستهلك تجارب الغرب والشرق من الحداثة إلى الهايكو؟•• نعم، للأسف.. وهناك من وصل إلى استهلاك وتطويع «ترجمة الأفلام» في نصوصه باسم الحداثة والهايكو.. فحين تكتب الشعر دون وعي بماهيته، ودون الوقوف أمامه بهيبة وإجلال ستكون النتيجة استهلاكاً واجتراراً، ما لم تكن واعياً بتجربتك ولديك رؤية واضحة للشعر.. وأجزم أنك لو طلبتَ من مائة شاعر أن يتحدثوا عن «تجربتهم الشعرية» فلن يستطيع سوى خمسة منهم الحديث عن تجاربهم الشعرية كما يجب، وليس كما ينبغي.