يستعيد زائر القاهرة حارات نجيب محفوظ، وهو يمشي في الطرقات، ما يعني نجاح صاحب «أولاد حارتنا» في ربط القارئ وتعليقه بروح المكان، ويُعدُّ فضاء المكان (الحيّز الجغرافي للأعمال السردية) ركناً جوهرياً في بنية النص، فالفضاء في الرواية ليس هامشاً، ولا زيّاً خارجياً، أو مسرحاً تجري عليه الأحداث، بل هو صانع حدث ودلالات، ومتخم بالأبعاد الرمزية في الأعمال الخالدة، وبما أنَّ ليس كل سردٍ فاتناً؛ ولا كل فاتنٍ محرّضاً على التأمل والانتقال من الواقع للمتخيل، ومن المتخيل للواقع، فإن إحياء فضاء المكان مهارة، فيما إماتته فشل، وهنا نتساءل عن الروايات التي دفعتنا لتعقب المكان على أرض الواقع، انطلاقاً من تعلُّقنا به عبر كتابة جاذبة ومغرية بالتحرك من الهامش إلى المتن والعكس.
يؤكد الروائي اليمني وجدي الأهدل أنَّ ليس كل الروايات العربية فعلتْ ذلك، إلا أن الأفضل منها ارتقى إلى هذه القمة الفنية العالية. وأوضح الأهدل أنه لا بد أن يهيمن عنصر المكان في الرواية، وإلا فستكون شبه رواية. ولفت إلى روايات إبراهيم الكوني، التي قدمت الصحراء بناسها وبداوتها وأساطيرها، فتاقت النفوس إلى مرابعها، وروايات نجيب محفوظ العظيمة التي اتخذتْ من الحارة المصرية موقعاً لأحداثها وعوالمها السحرية، فلا يكاد يضع المرء قدمه في القاهرة إلا وحضرت عوالم نجيب محفوظ في خاطره، وأينما تلفت فكأنما يطابق بين الحقيقة والخيال، مشيراً إلى رواية «شريد المنازل» لجبور الدويهي التي وصفت مدينة بيروت في السبعينات، وإلى رواية «ستيمر بوينت» لأحمد زين التي وصفت مدينة عدن في الستينات، وسواهما من الروايات التي كتبت باحترافية ونضج، فتشتاق النفس القارئة إلى زيارة هذه الأماكن وتفقدها، والنظر إلى ماذا بقي منها وماذا اندثر. وأضاف الأهدل: بصفة عامة يميل الروائي المحترف إلى وصف المكان بدقة، وكأنه رحالة جغرافي يستكشف صقعاً جديداً من أصقاع الأرض، هو ذاته مبهور به، ويبذل ما في وسعه لنقل ما رأته عيناه إلى القراء بأمانة فنية صادقة.
فيما يرى الناقد فتحي عبدالسميع أن أهمية الرواية لا تكمن في قدرتها على وصف الأماكن الواقعية وتقديمها بشكل يحرضنا على زيارتها، إلا أن روايات كثيرة لفتت انتباهنا إلى بعض الأماكن بشكل مثير، كون الروائي عندما ينظر فنياً إلى المكان الواقعي يعيد اكتشافه وخلقه من جديد، فالفن يغسل المكان من نظراتنا العادية، ويركز في التفاصيل ويدمجها بالأرواح والأجساد، فيزيده نوراً وجمالاً، وأكد حضور الكثير من الأماكن الواقعية التي نذهب إليها وفي أذهاننا الروائي الذي كتب عنها، وعدّ قاهرة نجيب محفوظ من أوضح النماذج الدالة. وأضاف: ومع كل ذلك يبقى النجاح محدوداً، فالقاهرة -مثلاً- تحتاج أرواحاً كثيرة تغسلها، ونحن نحتاج أكثر من قاهرة لا قاهرة محفوظ وحدها، كون أماكن كثيرة بحاجة إلى نظرات الروائيين ولغتهم وعوالمهم الكاشفة.
ويذهب الروائي علي الأمير إلى أن المكان، بحد ذاته في الرواية، أهم بكثير من الزمان، ولا يقل أهمية عن الحدث، إلا أنه -بحسب الأمير- لا يشكّل فضاءً في تصوره، إلا إذا استطاع الكاتب أن يفصل القارئ عن واقعه تماماً؛ ليزرعه في المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، أو أي حدث جزئي منها بحيث ينسى القارئ لوهلة أنه يقرأ رواية هي من صنع الخيال؛ لأن جميع حواسه أصبحت بالكامل منغمسة في المكان السردي، يرى ويسمع ويشم ويكاد يشعر بالأجساد تزاحمه فيه. وأضاف: يبدو ما أقوله ضرباً من المغالاة التي يصعب استيعابها؛ لذلك سأضرب مثالاً لمسته بنفسي من خلال اتصال تلقيته من شاعرة قرأت روايتي «قاع اليهود» كانت تقول إنها لم تزر صنعاء، لكنها زارتها من خلال الرواية، ثم أردفت جازمة أن سبب نجاحي في أخذها إلى هناك هو كوني أكتب عن أحداث عشتها شخصياً، وعندما نفيت علاقتي بالأحداث وأنها من صنع الخيال، قالت: مستحيل، وركزت على المشهد الذي دار أمام كاشير المطعم، مؤكدة أنها رأتني شخصياً في ثياب البطل، وأنها عاشت معي كل تفاصيل وأجواء المكان، وشمت الروائح، وزاحمت في الطابور، وسمعت لهجة المتحدثين، وعاشت لحظات حقيقية، يصعب على الخيال استحضارها، ولم تصدق أن المشهد كله كان متخيلاً، مشيراً إلى أن المكان بالفعل شكّل فضاء في الرواية.
ليس بالسهولة أن تكون روح المكان حاضرة
ولم يُخفِ الروائي عبدالعزيز الصقعبي حيرته عند إبداء رأيه في الأعمال الإبداعية المحلية والعربية والعالمية، مشيراً إلى أن الحديث عن فضاء المكان في الرواية السعودية يلزمني أن أكون مطلعاً على كل الإصدارات أو على الأقل جزءاً كبيراً منها، إلا أنه ولأسباب كثيرة من أهمها سوء التوزيع، ظل اطلاعه على ما صدر من أعمال روائية في المملكة، خلال الأعوام الماضية، محدوداً. وقال الصقعبي: أعتقد أن طرح اسم حي أو شارع أو محل مشهور أو بالطبع اسم مدينة، لا يعبر تماماً عن المكان حقيقة، فهنالك أحداث وقعت في الرياض أو جدة، كمثال، أوردها روائي ما، وبالإمكان وبكل سهولة تغيير اسم هاتين المدينتين لأي اسم آخر ولا يؤثر ذلك على الحدث، وأجد ذلك حاضراً في الكتابات الحديثة، ما يدل على أنه ليس بالسهولة مطلقاً أن تكون روح المكان حاضرة، وهو تحدٍّ لكل روائي، بالذات حينما يشرع في كتابة روايته. وتساءل الصقعبي: هل فضاء المكان في روايته واقعي أم متخيل؟ ويجيب: إذا كان متخيلاً، هل تكون لديه القدرة لأن يقنع القارئ أن هذا المكان موجود؟ ويرى أن اللافت للنظر أن المكان حاضر بقوة في عناوين الرواية السعودية، سواء مدن مثل الطائف والرياض وبريدة وغيرها أو شوارع وأحياء مثل الكراديب والعدامة والعطايف والدحو وشارع الأعشى وغيرها، واشتملت أغلب الروايات السعودية على أسماء شوارع وأماكن مختلفة، مؤكداً أنه رغم هذا الحضور الكبير للأسماء، إلا أنه لم يجد ما يحفزه لتعقب السارد في المكان الذي وصفه، ويذهب إلى أننا نحتاج لممارسة كتابية طويلة ومكثفة لنصل إلى القدرة على بث الروح في المكان، بما في ذلك الصحراء التي ننتمي إليها إلى حدٍّ ما، كونها لم تصل الرواية والقصة في المملكة إلى سبر أغوارها، مثل رواية طوارق لـ«فيكيروا»، التي قرأتها منذ سنوات مع مجموعة من الروايات للكاتب، إذ وصف بدقة كثيراً من الأمكنة بالصحراء، وعموماً هنالك فضاءات متعددة للأمكنة في المملكة، بمساحتها الشاسعة وتنوعها البيئي والجغرافي. وأضاف الصقعبي: بصفتي أحد كتاب الرواية في المملكة مع مجموعة من الكتاب والكاتبات، الذين يعيشون هم الكتابة (آمل ذلك)، ويحرصون على تقديم أعمال مختلفة ومميزة، وألتمس العذر لعدم ذكر أي اسم، إلا أن هناك تحديّاً بسبب أن المقروئية الأكثر اتجهت لأعمال تتناول عالم الجن المتخيل، مغادرين كل فضاءات الأمكنة والأزمنة. ويؤكد أنه ليس ضد الاتجاه إلى الفنتازيا والخيال، إلا أننا نحتاج كثيراً أن نكون قريبين من بيئتنا لننطلق منها إلى أفق أرحب، وأن ينتقل الروائي من فضاء الواقع إلى فضاء المتخيل المكاني والزماني، فهناك روايات عبّرت عن فضاء المكان في المملكة، وفق تجربة كل روائي وقدرته الإبداعية، إلا أنه يتمنى أن يراكم كل روائي أو روائية من المملكة العربية السعودية التجربة؛ ليكون لديه أو لديها مثل رباعية نابولي لإيلينا فيرانتي، أو ثلاثية نجيب محفوظ، أو حمزاتوف، والأمثلة كثيرة. وتطلع لأن يقرأ في المستقبل القريب أكثر من رواية يستطيع كاتبها أن يعبر بصدق عن فضاء المكان.
يؤكد الروائي اليمني وجدي الأهدل أنَّ ليس كل الروايات العربية فعلتْ ذلك، إلا أن الأفضل منها ارتقى إلى هذه القمة الفنية العالية. وأوضح الأهدل أنه لا بد أن يهيمن عنصر المكان في الرواية، وإلا فستكون شبه رواية. ولفت إلى روايات إبراهيم الكوني، التي قدمت الصحراء بناسها وبداوتها وأساطيرها، فتاقت النفوس إلى مرابعها، وروايات نجيب محفوظ العظيمة التي اتخذتْ من الحارة المصرية موقعاً لأحداثها وعوالمها السحرية، فلا يكاد يضع المرء قدمه في القاهرة إلا وحضرت عوالم نجيب محفوظ في خاطره، وأينما تلفت فكأنما يطابق بين الحقيقة والخيال، مشيراً إلى رواية «شريد المنازل» لجبور الدويهي التي وصفت مدينة بيروت في السبعينات، وإلى رواية «ستيمر بوينت» لأحمد زين التي وصفت مدينة عدن في الستينات، وسواهما من الروايات التي كتبت باحترافية ونضج، فتشتاق النفس القارئة إلى زيارة هذه الأماكن وتفقدها، والنظر إلى ماذا بقي منها وماذا اندثر. وأضاف الأهدل: بصفة عامة يميل الروائي المحترف إلى وصف المكان بدقة، وكأنه رحالة جغرافي يستكشف صقعاً جديداً من أصقاع الأرض، هو ذاته مبهور به، ويبذل ما في وسعه لنقل ما رأته عيناه إلى القراء بأمانة فنية صادقة.
فيما يرى الناقد فتحي عبدالسميع أن أهمية الرواية لا تكمن في قدرتها على وصف الأماكن الواقعية وتقديمها بشكل يحرضنا على زيارتها، إلا أن روايات كثيرة لفتت انتباهنا إلى بعض الأماكن بشكل مثير، كون الروائي عندما ينظر فنياً إلى المكان الواقعي يعيد اكتشافه وخلقه من جديد، فالفن يغسل المكان من نظراتنا العادية، ويركز في التفاصيل ويدمجها بالأرواح والأجساد، فيزيده نوراً وجمالاً، وأكد حضور الكثير من الأماكن الواقعية التي نذهب إليها وفي أذهاننا الروائي الذي كتب عنها، وعدّ قاهرة نجيب محفوظ من أوضح النماذج الدالة. وأضاف: ومع كل ذلك يبقى النجاح محدوداً، فالقاهرة -مثلاً- تحتاج أرواحاً كثيرة تغسلها، ونحن نحتاج أكثر من قاهرة لا قاهرة محفوظ وحدها، كون أماكن كثيرة بحاجة إلى نظرات الروائيين ولغتهم وعوالمهم الكاشفة.
ويذهب الروائي علي الأمير إلى أن المكان، بحد ذاته في الرواية، أهم بكثير من الزمان، ولا يقل أهمية عن الحدث، إلا أنه -بحسب الأمير- لا يشكّل فضاءً في تصوره، إلا إذا استطاع الكاتب أن يفصل القارئ عن واقعه تماماً؛ ليزرعه في المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، أو أي حدث جزئي منها بحيث ينسى القارئ لوهلة أنه يقرأ رواية هي من صنع الخيال؛ لأن جميع حواسه أصبحت بالكامل منغمسة في المكان السردي، يرى ويسمع ويشم ويكاد يشعر بالأجساد تزاحمه فيه. وأضاف: يبدو ما أقوله ضرباً من المغالاة التي يصعب استيعابها؛ لذلك سأضرب مثالاً لمسته بنفسي من خلال اتصال تلقيته من شاعرة قرأت روايتي «قاع اليهود» كانت تقول إنها لم تزر صنعاء، لكنها زارتها من خلال الرواية، ثم أردفت جازمة أن سبب نجاحي في أخذها إلى هناك هو كوني أكتب عن أحداث عشتها شخصياً، وعندما نفيت علاقتي بالأحداث وأنها من صنع الخيال، قالت: مستحيل، وركزت على المشهد الذي دار أمام كاشير المطعم، مؤكدة أنها رأتني شخصياً في ثياب البطل، وأنها عاشت معي كل تفاصيل وأجواء المكان، وشمت الروائح، وزاحمت في الطابور، وسمعت لهجة المتحدثين، وعاشت لحظات حقيقية، يصعب على الخيال استحضارها، ولم تصدق أن المشهد كله كان متخيلاً، مشيراً إلى أن المكان بالفعل شكّل فضاء في الرواية.
ليس بالسهولة أن تكون روح المكان حاضرة
ولم يُخفِ الروائي عبدالعزيز الصقعبي حيرته عند إبداء رأيه في الأعمال الإبداعية المحلية والعربية والعالمية، مشيراً إلى أن الحديث عن فضاء المكان في الرواية السعودية يلزمني أن أكون مطلعاً على كل الإصدارات أو على الأقل جزءاً كبيراً منها، إلا أنه ولأسباب كثيرة من أهمها سوء التوزيع، ظل اطلاعه على ما صدر من أعمال روائية في المملكة، خلال الأعوام الماضية، محدوداً. وقال الصقعبي: أعتقد أن طرح اسم حي أو شارع أو محل مشهور أو بالطبع اسم مدينة، لا يعبر تماماً عن المكان حقيقة، فهنالك أحداث وقعت في الرياض أو جدة، كمثال، أوردها روائي ما، وبالإمكان وبكل سهولة تغيير اسم هاتين المدينتين لأي اسم آخر ولا يؤثر ذلك على الحدث، وأجد ذلك حاضراً في الكتابات الحديثة، ما يدل على أنه ليس بالسهولة مطلقاً أن تكون روح المكان حاضرة، وهو تحدٍّ لكل روائي، بالذات حينما يشرع في كتابة روايته. وتساءل الصقعبي: هل فضاء المكان في روايته واقعي أم متخيل؟ ويجيب: إذا كان متخيلاً، هل تكون لديه القدرة لأن يقنع القارئ أن هذا المكان موجود؟ ويرى أن اللافت للنظر أن المكان حاضر بقوة في عناوين الرواية السعودية، سواء مدن مثل الطائف والرياض وبريدة وغيرها أو شوارع وأحياء مثل الكراديب والعدامة والعطايف والدحو وشارع الأعشى وغيرها، واشتملت أغلب الروايات السعودية على أسماء شوارع وأماكن مختلفة، مؤكداً أنه رغم هذا الحضور الكبير للأسماء، إلا أنه لم يجد ما يحفزه لتعقب السارد في المكان الذي وصفه، ويذهب إلى أننا نحتاج لممارسة كتابية طويلة ومكثفة لنصل إلى القدرة على بث الروح في المكان، بما في ذلك الصحراء التي ننتمي إليها إلى حدٍّ ما، كونها لم تصل الرواية والقصة في المملكة إلى سبر أغوارها، مثل رواية طوارق لـ«فيكيروا»، التي قرأتها منذ سنوات مع مجموعة من الروايات للكاتب، إذ وصف بدقة كثيراً من الأمكنة بالصحراء، وعموماً هنالك فضاءات متعددة للأمكنة في المملكة، بمساحتها الشاسعة وتنوعها البيئي والجغرافي. وأضاف الصقعبي: بصفتي أحد كتاب الرواية في المملكة مع مجموعة من الكتاب والكاتبات، الذين يعيشون هم الكتابة (آمل ذلك)، ويحرصون على تقديم أعمال مختلفة ومميزة، وألتمس العذر لعدم ذكر أي اسم، إلا أن هناك تحديّاً بسبب أن المقروئية الأكثر اتجهت لأعمال تتناول عالم الجن المتخيل، مغادرين كل فضاءات الأمكنة والأزمنة. ويؤكد أنه ليس ضد الاتجاه إلى الفنتازيا والخيال، إلا أننا نحتاج كثيراً أن نكون قريبين من بيئتنا لننطلق منها إلى أفق أرحب، وأن ينتقل الروائي من فضاء الواقع إلى فضاء المتخيل المكاني والزماني، فهناك روايات عبّرت عن فضاء المكان في المملكة، وفق تجربة كل روائي وقدرته الإبداعية، إلا أنه يتمنى أن يراكم كل روائي أو روائية من المملكة العربية السعودية التجربة؛ ليكون لديه أو لديها مثل رباعية نابولي لإيلينا فيرانتي، أو ثلاثية نجيب محفوظ، أو حمزاتوف، والأمثلة كثيرة. وتطلع لأن يقرأ في المستقبل القريب أكثر من رواية يستطيع كاتبها أن يعبر بصدق عن فضاء المكان.