يعد الشاعر عارف الساعدي من أصفى الأصوات الشعرية العربية، وهو مثقف واسع الإطلاع؛ لذا تم اختياره مستشاراً ثقافياً لرئيس وزراء العراق الشقيق، إضافةً لما يتمتع به الساعدي من دماثة خلق، وحسّ اتصالي راقٍ، فهو يعتني بقصيدته ويتمعّن طويلاً فيما يكتب، ولا يزال مستمسكاً بعُرى جذوره العميقة، معترفاً بأبوة الشعراء الأفذاذ، غير مستنكف ولا متعالٍ على حكاية الجدات، وبراءة الطفولة، ومعطيات البئر الأولى.. وهنا نص الحوار:
• كيف حال الثقافة العراقية؟
•• الثقافة العراقية جزء من الثقافة العربية تتأثر بالمحيط وتؤثر فيه في الوقت نفسه، في العراق دائماً نقول إننا لا نملك شيئاً أصيلاً في هذا البلد قدر ما نملك من الثقافة، فهي دعامتنا الوحيدة لمواجهة الآخر، وهي عنصر أساس في بناء الشخصية العراقية التي تتميز بالثقافة، ولكن كحال العالم تتعرض هذه الخصيصة لهزات، فكلما هزت البلد عاصفة سياسية أو حرب أو حصار فإن الثقافة تتعرض لتلك الهزات، ولكنها على العموم تبقى ركيزة رئيسة من الممكن أن ننطلق منها لأي فضاء آخر، ميزة الثقافة العراقية أن لها جذوراً متينة لا تهتز فبأي لحظة يستعيد البلد عافيته أجد الثقافة في أعلى سلم البلاد من حيث بناء الإنسان وانشغاله بالمعارف.
• هل باستطاعة المثقفين العراقيين الحاليين إحداث نقلة في الثقافة العربية؛ شأن السياب ونازك الملائكة والبياتي؟
•• عُرف عن العراق أنه أبو التحولات الحداثية في الثقافة العربية وتحديداً في الشعر، ذلك أن الشعر هو مادة العرب الأصيلة، إذ إن أغلب الفنون الإبداعية مستوردة إلا الشعر فإنه فننا الأصيل، وهو جزء من حياتنا اليومية، ما أحدثه السياب ونازك والبياتي وجيلهم الذهبي هو نتاج مرحلة المدنية في العراق وصعود الطبقة الوسطى في البلد، حيث بداية التعليم العالي وانفتاح البلد على العالم الغربي والبعثات العالمية وبداية المدن الحقيقية، ونهاية الحرب العالمية الثانية وأسباب أخرى كثيرة أسهمت بتحولات مجتمعية أنتجت التحول الثقافي المهم على أيدي الرواد، أما حالياً فالعراق يمتلك هذا الإرث العظيم والمتعب في الوقت نفسه، ذلك أن الشعراء أبناء جيلي والأجيال التي سبقتنا والتي لحقتنا أبناء هذا الإرث المهم الذي يجب علينا تجاوزه وهو رهان صعب، ولكن بمجرد أنك تشعر بثقل هذا الإرث وعليك إما أن تتجاوزه أو تحافظ عليه على الأقل فإنك في الطريق الصحيح، ولكن مع هذا لا نعدم من تجارب تخرج بين جيل وآخر من فكرة التجديد والتحول والتجاوز وهي محاولات لم تنقطع حتى هذه اللحظة.
• ما الجديد الذي تعملون عليه اليوم غير المربد؟
•• المربد ميراث عظيم ما زلنا نعمل عليه ونحاول تطويره بالشكل الذي يليق باسمه وباسم الشعراء الذين مروا عليه من الجواهري إلى آخر شاعر عربي مؤمن بالشعر وبالحرية، نعمل بالتأكيد على مشاريع كثيرة لا تختص في الشعر فقط ، إنما في الدراما والسينما والمسرح والغناء وكلها قوى ناعمة تبني المجتمعات وتديم روح المعرفة.
• بصفتك مستشار رئيس الوزراء، متى يُستشار المستشار، أم أنه يبادر بطرح المشورة ولو لم تطلب منه؟
•• هناك خطان للمستشار؛ الأول هو أن يكون مبادراً ويطرح مشاريع تقنع الرئيس وفريق عمله فيتبناها الرئيس، وتكون منجزاً على الأرض وهذا ما أعمل عليه، والخط الثاني هو أن تحول له استشارات يعطي رأيه فيها، وأنا أعمل على الفكرتين، ولكن تبنّي المشاريع هو هدفي الأساس؛ لأن الوسط الثقافي وهمومه نحن أقرب إليه ونعرف مفاتيح الحلول لعدد من تلك.
• لماذا تراجعت الثقافة العربية في سلم الأولويات؟
•• جزء من هذا التراجع مرتبط بالتعليم وتحولاته وتراجع التعليم؛ سبب تراجعاً في الاهتمام بالثقافة وشجونها، الجزء الآخر والمهم مرتبط بالأنظمة السياسية وقدرتها على الاهتمام بالثقافة؛ باعتبارها الحل الأمثل لمشاكل البلدان، فإن لم تهتم الأنظمة بالثقافة وتدعمها كما تدعم وزارات الدفاع والأمن فلن نحظى بأجيال متوازنة، فالمبالغ التي ترصد لشراء الدبابات والمدافع لو خصص قيم منها لبناء المسارح والسينمات ودور العرض التشكيلي والموسيقي والاهتمام بالشباب سنحصد شباباً يحبون أوطانهم ويتعايشون بمحبة عالية ويسهمون ببناء بلدانهم بطريقة علمية وسنتجنب الكثير من مشاكل التطرف والإرهاب.
• متى نحضر الأيام الثقافية العراقية في الرياض؟
•• العراق حاضر وجاهز بكل تنوعاته الثقافية للحضور في أسبوع ثقافي عراقي في الرياض، شرط أن يتعهد لنا السعوديون بإقامة أسبوع ثقافي سعودي في بغداد وبكل مفاصل الثقافة السعودية، وهذا ما قطعه لنا سمو الأمير بدر آل فرحان وزير الثقافة في افتتاح معرض الرياض للكتاب عام 2021 عندما كان العراق ضيف شرف في المعرض، ولكن للأسف إلى الآن لم يتحقق هذا الوعد؛ لذلك نحن جاهزون للحضور إلى الرياض ولكن مع هذا الوعد.
• أين يلتقي المثقف العربي مع أخيه العربي وأين يفترق؟
•• السؤال واسع جدّاً؛ لأن هذا الأمر يتعلق بمرجعيات المثقفين العرب وخلفياتهم المعرفية التي يختلف فيها مثقف عن مثقف آخر، فنحن في العراق مررنا بصراعات مريرة أيام الستينات ما بين المثقفين الشيوعيين والمثقفين البعثيين والقوميين وكل ينطلق من أيديولوجيته ومبانيه الفكرية التي تتضاد مع الآخر، حتى وصلت الخلافات إلى القتل والتهجير والنفي، وقد أكلت منا تلك الخلافات ما يقارب الستين عاماً وإلى الآن هناك بعض من جذور تلك الخلافات، أما الآن في هذا الزمن فنحن نعيش غروب الأيديولوجيا وصعود المثقف الليبرالي نوعاً ما، ولكن في الوقت نفسه هناك المثقف المتطرف الذي لا يمكن أن نسميه مثقفاً.
• ما شرط الثقافة الفاعلة والمؤثرة؟
•• حسب ما أرى فإن شرط الثقافة الفاعلة هي مدى قدرتك في إنتاج خطاب متوازن بعيد عن العنف والإرهاب والنظر إلى الآخر المختلف عنك نظرة متوازنة غير مرتابة، فنحن تعلمنا منذ الصغر أن الآخر عدو لك فاجتنبه أو حاربه، وهذه النظرة تجدها مبثوثة في الشعر والقصة وفي الأفلام والمسلسلات، ولكن العالم الحر علمنا غير ذلك أن الآخر يشبهك وربما أفضل منك وعليك استثمار حسناته لتتعلم منها، شرط الثقافة هو وجود مثقف نقدي لكل ما يعكر صفو الحياة ويمنع الحريات وينتج نصّاً يغذي العقل والقلب معا.
• ما المغذيات الشعرية الأولى؟
•• الأم والبيت والقرية والنهر الصغير وبكاء العجائز ونواحهن والجوع وطريق المدرسة الترابي والبرد أيام الشتاء في رفعة العلم في يوم الخميس والنظرة الأولى والموعد الأول والبكاء بين يدي الحبيبة وحكايات جدتي وخرافاتها وصنع القهوة للضيوف والهروب من المدرسة ومواويل جيراننا ونعي الأمهات على فقداناتهن... كل ذلك وغيره مغذيات الشعرية الأولى.
• هل لك آباء شعريون؟
•• كل قصيدة عظيمة قرأتها هي كوب حليب شعري أشربه في طفولتي، وكل شاعر عظيم مررت به هو أب أتعلق بثيابه، وقد قيل إن القصيدة العظيمة هي من تجد صدى العظماء فيها، فالقصيدة الخالية من هؤلاء وأثرهم ستكون قصيدة فقيرة.
• متى تكتب قصيدتك، ومتى تكتبك؟
•• القصيدة عادة هي التي تكتبني، فقد أترك الشعر أشهراً عديدة، وأمارس حياتي دون الشعر، ولكنني في كل يوم أردد أبيات الجواهري:
برمت بلوم اللائمين وقولهم
أأنت إلى تغريدة غير راجع
أأنت تركت الشعر غير محاول
أم الشعر إذ حاولت غير مطاوع
وهل نضبت تلك العواطف ثرة
لطافاً مجاريها غرار المنابع
يظنون أن الشعر قبسة قابس
متى ما أرادوها وسلعة بائع
ثم تأتي القصيدة في لحظة ما فأسلم نفسي لها كاملاً، وأبقى كمن يلملم الحطب للنار حتى يديم اشتعالها، كل شيء أحوله لخدمة القصيدة.
• لماذا يعتني الشاعر العمودي والتفعيلي بالجمهور أكثر من اعتنائه بإنسانه الداخلي؟
•• الشاعر بلا جمهور شيء صعب بصراحة، ولكن في الوقت نفسه لا يصح الشاعر أن يكتب قصيدته للجمهور لأنه سينقاد إلى الشعبويات والبديهيات العادية، ويبقى يبحث عن تصفيق لا قيمة له، الشاعر الحق هو الذي يسحب جمهوره ويقلقه ويحاصره بالأسئلة؛ لأن الشعر الممتلئ إجابات شعر مطمئن ساذج، بينما الشعر المستفز هو الذي يثير في النفوس أكثر من تصفيفة عابرة، ومع هذا فعلى الشاعر ألّا يتعالى على جمهوره ويقرأ عليهم تهويمات لا معنى لها ويملأ قصيدته بطلاسم وخطاطات لا طائل من ورائها، وعندما تسأله عن معناها يتحجج بالحداثة ويقول إن قصيدتي للمستقبل، وكأن الحداثة أن تجلد الناس بالغموض الذي لا معنى له، طيب لماذا تحشر نفسك وتقرأ أمام الجمهور إذا كنت شاعراً مستقبلياً كما يدعي البعض.
• لمن تدين بالفضل لما بلغته من ذيوع وقبول؟
•• أدين للشعر بكل ما وصلت له، فحياتي كلها مرهونة به، صداقاتي بسبب الشعر، دراستي حتى أصبحت دكتوراً ومن ثم أخذت لقب الأستاذية بسبب الشعر، عملي كأستاذ جامعي ومن ثم مديراً عاماً في وزارة الثقافة وبعدها مستشاراً ثقافياً لرئيس الوزراء هي بسبب الشعر، سفراتي وتنقلاتي وعلاقاتي كلها بسبب الشعر، الشعر فتح لي عالماً كاملاً من البهجة والحزن، الدين له دائماً وألعنه أيضاً كما لعنته لميعة عباس عمارة حين قالت:
لعنة اللاعن يا شعر عليك
ما الذي أوقعني بين يديك
كل أسرار الورى مستورة
وخفي الهمس مفضوح لديك
أنت لو كنت ملاكاً صالحاً
ما توسلنا بشيطان لديك
• ألا يدوّخ كثرة التصفيق الشاعر؟
•• يربكه ولكنه يشعره بالفرح أيضاً، الشعراء الحقيقون أطفال كبار يفرحون بالحلوى، وهي الجمهور الذي تترقرق عيونهم على النص.
• كيف يتجاوز الشاعر نفسه؟
•• لا قيمة للشاعر إن لم يتجاوز نفسه، فلا معنى للشاعر إذا كرر قصائده، ولا قيمة فنية له إن لم يختلف ديوان عن ديوان وقصيدة عن أخرى، وهذا رهان صعب جدّاً، يعتمد على الشاعر في ألّا يكرر تجاربه انطلاقاً من وعيه بالتحولات وانطلاقاً من مرجعياته ومغذياته التي يتغذى عليها وهي القراءة والوعي والثقافة بشكل عام، فالشعراء الذين لا يقرؤون الرواية أو الشعر المترجم ولا يشاهدون أفلاماً سينمائية، ولا يسافرون ولا يعشقون ولا يشاكسون ستجد نصوصهم باردة ومكررة ولا قيمة لها.
• ما رأيكم بمن يكتب شعراً لحصد الجوائز والمنافسة في المسابقات؟
•• بصراحة لست مع كتابة نصوص شعرية لغرض الجائزة، رغم أني فعلتها مرة واحدة وفشلت فيه، فعلى الرغم من أهمية الجوائز مادياً وإعلاميا، ولكن حصر بعض الجوائز لأغراض محددة والكتابة عنها بهذه الطريقة ستنتج شعراً أقرب إلى التعليمي، فالحداثة تجاوزت فكرة الغرضية والوظيفية المحددة للقصيدة؛ لأنها أشبه باللجام الذي يوضع على الخيل، أنا مع الجوائز التي تمنح للمنجز الشعري، مع الجائزة التي تمنح للشعر غير المكتوب لجائزة ما سوى الشعر، هنا يشعر الشاعر أنه أنجز شيئاً مهماً وأنهم التفتوا إلى شعره دون أن يكتبه للفوز، وهذا ما شعرت به حين فزت بجائزة الأمير عبدالله الفيصل عام 2021 عن كامل منجزي الشعري.
• ما الذي يمكن أن تعالجه القصيدة اليوم؟ أم هي مُسكّن وجع فقط؟
•• ليس من شأن الشعر الحقيقي معالجة أي شيء، فتلك مرحلة تجاوزناها في أن يكون الشعر خادماً لأغراض اجتماعية أو دينية أو سياسية، الشعر الحق هو أن تعالج القصيدة نفسها وذاتها، أن تتجلى اللغة في أعلى مباهجها ومسراتها، الشعر لا وظيفة له سوى ذاته؛ لأنه لو دخلت الأغراض عليه والمعالجات سيتحول إلى وسيلة لغايات غير شعرية، وهذا ما يأباه الشعر في أن يكون جسراً لأشياء غير شعرية، الشعر هو الغاية وهو الوسيلة في الوقت نفسه، حين نصل إلى هذا الهدف سنكون أمام قصيدة عظيمة تصلح لكل زمان ومكان؛ لأن القصائد الغرضية ذات الوظيفة المحددة ستموت بموت الحدث وتزول بزوال المكان.
• ماذا تقول لمن يظن الشعر رصف كلمات أو تلاعباً باللغة؟
•• الله يسامحك.
• ما مدى رضاك عن النقاد واشتغالهم على شعرك؟
•• على بساطة تجربتي الشعرية أقول إني محظوظ مقارنة بأبناء جيلي وحتى بالأجيال التي سبقتني من الشعراء العراقيين والعرب، فقد حظيت بأكثر من عشرين دراسة ماجستير ودكتوراه مكرسة لدراسة شعري فقط، وهذا منجز كبير، فضلاً عن دخولي لأكثر من خمسين عملاً أكاديمياً ضمن أبناء جيلي أو دراسة الظواهر الشعرية العراقية، إضافة إلى تناول تجربتي من قبل كبار النقاد العراقيين والعرب الذين أدلوا بدلوهم في تلك التجربة، وهو محل اعتزاز وتقدير من قبلي.
• هل يحتاج الشاعر واسطة ليكون شاعراً؟
•• الشاعر الحقيقي يشبه لاعب الكرة في المنتخب الوطني، فلا يمكن للمدرب أو رئيس اتحاد الكرة أن يصعّد لاعباً للمنتخب وهو ضعيف، سيفتضح أمره في أول لعبة، كذلك الشعراء لا يمكن للواسطة أن تنهض بهذا العمل الجليل، ربما بعض أصحاب الأموال لديهم رغبة أن يكونوا شعراء، ولدي أمثلة بذلك، لكنهم ينصدمون أمام شعراء صعاليك ولكنهم شعراء حقيقيون.
• ما الذي تطمح إليه شعرياً وإنسانياً؟
•• أطمح أن تبقى قصيدتي في الذاكرة ولو بعد حين، القصيدة التي تعبر الزمن شاعرها محظوظ.
• كيف حال الثقافة العراقية؟
•• الثقافة العراقية جزء من الثقافة العربية تتأثر بالمحيط وتؤثر فيه في الوقت نفسه، في العراق دائماً نقول إننا لا نملك شيئاً أصيلاً في هذا البلد قدر ما نملك من الثقافة، فهي دعامتنا الوحيدة لمواجهة الآخر، وهي عنصر أساس في بناء الشخصية العراقية التي تتميز بالثقافة، ولكن كحال العالم تتعرض هذه الخصيصة لهزات، فكلما هزت البلد عاصفة سياسية أو حرب أو حصار فإن الثقافة تتعرض لتلك الهزات، ولكنها على العموم تبقى ركيزة رئيسة من الممكن أن ننطلق منها لأي فضاء آخر، ميزة الثقافة العراقية أن لها جذوراً متينة لا تهتز فبأي لحظة يستعيد البلد عافيته أجد الثقافة في أعلى سلم البلاد من حيث بناء الإنسان وانشغاله بالمعارف.
• هل باستطاعة المثقفين العراقيين الحاليين إحداث نقلة في الثقافة العربية؛ شأن السياب ونازك الملائكة والبياتي؟
•• عُرف عن العراق أنه أبو التحولات الحداثية في الثقافة العربية وتحديداً في الشعر، ذلك أن الشعر هو مادة العرب الأصيلة، إذ إن أغلب الفنون الإبداعية مستوردة إلا الشعر فإنه فننا الأصيل، وهو جزء من حياتنا اليومية، ما أحدثه السياب ونازك والبياتي وجيلهم الذهبي هو نتاج مرحلة المدنية في العراق وصعود الطبقة الوسطى في البلد، حيث بداية التعليم العالي وانفتاح البلد على العالم الغربي والبعثات العالمية وبداية المدن الحقيقية، ونهاية الحرب العالمية الثانية وأسباب أخرى كثيرة أسهمت بتحولات مجتمعية أنتجت التحول الثقافي المهم على أيدي الرواد، أما حالياً فالعراق يمتلك هذا الإرث العظيم والمتعب في الوقت نفسه، ذلك أن الشعراء أبناء جيلي والأجيال التي سبقتنا والتي لحقتنا أبناء هذا الإرث المهم الذي يجب علينا تجاوزه وهو رهان صعب، ولكن بمجرد أنك تشعر بثقل هذا الإرث وعليك إما أن تتجاوزه أو تحافظ عليه على الأقل فإنك في الطريق الصحيح، ولكن مع هذا لا نعدم من تجارب تخرج بين جيل وآخر من فكرة التجديد والتحول والتجاوز وهي محاولات لم تنقطع حتى هذه اللحظة.
• ما الجديد الذي تعملون عليه اليوم غير المربد؟
•• المربد ميراث عظيم ما زلنا نعمل عليه ونحاول تطويره بالشكل الذي يليق باسمه وباسم الشعراء الذين مروا عليه من الجواهري إلى آخر شاعر عربي مؤمن بالشعر وبالحرية، نعمل بالتأكيد على مشاريع كثيرة لا تختص في الشعر فقط ، إنما في الدراما والسينما والمسرح والغناء وكلها قوى ناعمة تبني المجتمعات وتديم روح المعرفة.
• بصفتك مستشار رئيس الوزراء، متى يُستشار المستشار، أم أنه يبادر بطرح المشورة ولو لم تطلب منه؟
•• هناك خطان للمستشار؛ الأول هو أن يكون مبادراً ويطرح مشاريع تقنع الرئيس وفريق عمله فيتبناها الرئيس، وتكون منجزاً على الأرض وهذا ما أعمل عليه، والخط الثاني هو أن تحول له استشارات يعطي رأيه فيها، وأنا أعمل على الفكرتين، ولكن تبنّي المشاريع هو هدفي الأساس؛ لأن الوسط الثقافي وهمومه نحن أقرب إليه ونعرف مفاتيح الحلول لعدد من تلك.
• لماذا تراجعت الثقافة العربية في سلم الأولويات؟
•• جزء من هذا التراجع مرتبط بالتعليم وتحولاته وتراجع التعليم؛ سبب تراجعاً في الاهتمام بالثقافة وشجونها، الجزء الآخر والمهم مرتبط بالأنظمة السياسية وقدرتها على الاهتمام بالثقافة؛ باعتبارها الحل الأمثل لمشاكل البلدان، فإن لم تهتم الأنظمة بالثقافة وتدعمها كما تدعم وزارات الدفاع والأمن فلن نحظى بأجيال متوازنة، فالمبالغ التي ترصد لشراء الدبابات والمدافع لو خصص قيم منها لبناء المسارح والسينمات ودور العرض التشكيلي والموسيقي والاهتمام بالشباب سنحصد شباباً يحبون أوطانهم ويتعايشون بمحبة عالية ويسهمون ببناء بلدانهم بطريقة علمية وسنتجنب الكثير من مشاكل التطرف والإرهاب.
• متى نحضر الأيام الثقافية العراقية في الرياض؟
•• العراق حاضر وجاهز بكل تنوعاته الثقافية للحضور في أسبوع ثقافي عراقي في الرياض، شرط أن يتعهد لنا السعوديون بإقامة أسبوع ثقافي سعودي في بغداد وبكل مفاصل الثقافة السعودية، وهذا ما قطعه لنا سمو الأمير بدر آل فرحان وزير الثقافة في افتتاح معرض الرياض للكتاب عام 2021 عندما كان العراق ضيف شرف في المعرض، ولكن للأسف إلى الآن لم يتحقق هذا الوعد؛ لذلك نحن جاهزون للحضور إلى الرياض ولكن مع هذا الوعد.
• أين يلتقي المثقف العربي مع أخيه العربي وأين يفترق؟
•• السؤال واسع جدّاً؛ لأن هذا الأمر يتعلق بمرجعيات المثقفين العرب وخلفياتهم المعرفية التي يختلف فيها مثقف عن مثقف آخر، فنحن في العراق مررنا بصراعات مريرة أيام الستينات ما بين المثقفين الشيوعيين والمثقفين البعثيين والقوميين وكل ينطلق من أيديولوجيته ومبانيه الفكرية التي تتضاد مع الآخر، حتى وصلت الخلافات إلى القتل والتهجير والنفي، وقد أكلت منا تلك الخلافات ما يقارب الستين عاماً وإلى الآن هناك بعض من جذور تلك الخلافات، أما الآن في هذا الزمن فنحن نعيش غروب الأيديولوجيا وصعود المثقف الليبرالي نوعاً ما، ولكن في الوقت نفسه هناك المثقف المتطرف الذي لا يمكن أن نسميه مثقفاً.
• ما شرط الثقافة الفاعلة والمؤثرة؟
•• حسب ما أرى فإن شرط الثقافة الفاعلة هي مدى قدرتك في إنتاج خطاب متوازن بعيد عن العنف والإرهاب والنظر إلى الآخر المختلف عنك نظرة متوازنة غير مرتابة، فنحن تعلمنا منذ الصغر أن الآخر عدو لك فاجتنبه أو حاربه، وهذه النظرة تجدها مبثوثة في الشعر والقصة وفي الأفلام والمسلسلات، ولكن العالم الحر علمنا غير ذلك أن الآخر يشبهك وربما أفضل منك وعليك استثمار حسناته لتتعلم منها، شرط الثقافة هو وجود مثقف نقدي لكل ما يعكر صفو الحياة ويمنع الحريات وينتج نصّاً يغذي العقل والقلب معا.
• ما المغذيات الشعرية الأولى؟
•• الأم والبيت والقرية والنهر الصغير وبكاء العجائز ونواحهن والجوع وطريق المدرسة الترابي والبرد أيام الشتاء في رفعة العلم في يوم الخميس والنظرة الأولى والموعد الأول والبكاء بين يدي الحبيبة وحكايات جدتي وخرافاتها وصنع القهوة للضيوف والهروب من المدرسة ومواويل جيراننا ونعي الأمهات على فقداناتهن... كل ذلك وغيره مغذيات الشعرية الأولى.
• هل لك آباء شعريون؟
•• كل قصيدة عظيمة قرأتها هي كوب حليب شعري أشربه في طفولتي، وكل شاعر عظيم مررت به هو أب أتعلق بثيابه، وقد قيل إن القصيدة العظيمة هي من تجد صدى العظماء فيها، فالقصيدة الخالية من هؤلاء وأثرهم ستكون قصيدة فقيرة.
• متى تكتب قصيدتك، ومتى تكتبك؟
•• القصيدة عادة هي التي تكتبني، فقد أترك الشعر أشهراً عديدة، وأمارس حياتي دون الشعر، ولكنني في كل يوم أردد أبيات الجواهري:
برمت بلوم اللائمين وقولهم
أأنت إلى تغريدة غير راجع
أأنت تركت الشعر غير محاول
أم الشعر إذ حاولت غير مطاوع
وهل نضبت تلك العواطف ثرة
لطافاً مجاريها غرار المنابع
يظنون أن الشعر قبسة قابس
متى ما أرادوها وسلعة بائع
ثم تأتي القصيدة في لحظة ما فأسلم نفسي لها كاملاً، وأبقى كمن يلملم الحطب للنار حتى يديم اشتعالها، كل شيء أحوله لخدمة القصيدة.
• لماذا يعتني الشاعر العمودي والتفعيلي بالجمهور أكثر من اعتنائه بإنسانه الداخلي؟
•• الشاعر بلا جمهور شيء صعب بصراحة، ولكن في الوقت نفسه لا يصح الشاعر أن يكتب قصيدته للجمهور لأنه سينقاد إلى الشعبويات والبديهيات العادية، ويبقى يبحث عن تصفيق لا قيمة له، الشاعر الحق هو الذي يسحب جمهوره ويقلقه ويحاصره بالأسئلة؛ لأن الشعر الممتلئ إجابات شعر مطمئن ساذج، بينما الشعر المستفز هو الذي يثير في النفوس أكثر من تصفيفة عابرة، ومع هذا فعلى الشاعر ألّا يتعالى على جمهوره ويقرأ عليهم تهويمات لا معنى لها ويملأ قصيدته بطلاسم وخطاطات لا طائل من ورائها، وعندما تسأله عن معناها يتحجج بالحداثة ويقول إن قصيدتي للمستقبل، وكأن الحداثة أن تجلد الناس بالغموض الذي لا معنى له، طيب لماذا تحشر نفسك وتقرأ أمام الجمهور إذا كنت شاعراً مستقبلياً كما يدعي البعض.
• لمن تدين بالفضل لما بلغته من ذيوع وقبول؟
•• أدين للشعر بكل ما وصلت له، فحياتي كلها مرهونة به، صداقاتي بسبب الشعر، دراستي حتى أصبحت دكتوراً ومن ثم أخذت لقب الأستاذية بسبب الشعر، عملي كأستاذ جامعي ومن ثم مديراً عاماً في وزارة الثقافة وبعدها مستشاراً ثقافياً لرئيس الوزراء هي بسبب الشعر، سفراتي وتنقلاتي وعلاقاتي كلها بسبب الشعر، الشعر فتح لي عالماً كاملاً من البهجة والحزن، الدين له دائماً وألعنه أيضاً كما لعنته لميعة عباس عمارة حين قالت:
لعنة اللاعن يا شعر عليك
ما الذي أوقعني بين يديك
كل أسرار الورى مستورة
وخفي الهمس مفضوح لديك
أنت لو كنت ملاكاً صالحاً
ما توسلنا بشيطان لديك
• ألا يدوّخ كثرة التصفيق الشاعر؟
•• يربكه ولكنه يشعره بالفرح أيضاً، الشعراء الحقيقون أطفال كبار يفرحون بالحلوى، وهي الجمهور الذي تترقرق عيونهم على النص.
• كيف يتجاوز الشاعر نفسه؟
•• لا قيمة للشاعر إن لم يتجاوز نفسه، فلا معنى للشاعر إذا كرر قصائده، ولا قيمة فنية له إن لم يختلف ديوان عن ديوان وقصيدة عن أخرى، وهذا رهان صعب جدّاً، يعتمد على الشاعر في ألّا يكرر تجاربه انطلاقاً من وعيه بالتحولات وانطلاقاً من مرجعياته ومغذياته التي يتغذى عليها وهي القراءة والوعي والثقافة بشكل عام، فالشعراء الذين لا يقرؤون الرواية أو الشعر المترجم ولا يشاهدون أفلاماً سينمائية، ولا يسافرون ولا يعشقون ولا يشاكسون ستجد نصوصهم باردة ومكررة ولا قيمة لها.
• ما رأيكم بمن يكتب شعراً لحصد الجوائز والمنافسة في المسابقات؟
•• بصراحة لست مع كتابة نصوص شعرية لغرض الجائزة، رغم أني فعلتها مرة واحدة وفشلت فيه، فعلى الرغم من أهمية الجوائز مادياً وإعلاميا، ولكن حصر بعض الجوائز لأغراض محددة والكتابة عنها بهذه الطريقة ستنتج شعراً أقرب إلى التعليمي، فالحداثة تجاوزت فكرة الغرضية والوظيفية المحددة للقصيدة؛ لأنها أشبه باللجام الذي يوضع على الخيل، أنا مع الجوائز التي تمنح للمنجز الشعري، مع الجائزة التي تمنح للشعر غير المكتوب لجائزة ما سوى الشعر، هنا يشعر الشاعر أنه أنجز شيئاً مهماً وأنهم التفتوا إلى شعره دون أن يكتبه للفوز، وهذا ما شعرت به حين فزت بجائزة الأمير عبدالله الفيصل عام 2021 عن كامل منجزي الشعري.
• ما الذي يمكن أن تعالجه القصيدة اليوم؟ أم هي مُسكّن وجع فقط؟
•• ليس من شأن الشعر الحقيقي معالجة أي شيء، فتلك مرحلة تجاوزناها في أن يكون الشعر خادماً لأغراض اجتماعية أو دينية أو سياسية، الشعر الحق هو أن تعالج القصيدة نفسها وذاتها، أن تتجلى اللغة في أعلى مباهجها ومسراتها، الشعر لا وظيفة له سوى ذاته؛ لأنه لو دخلت الأغراض عليه والمعالجات سيتحول إلى وسيلة لغايات غير شعرية، وهذا ما يأباه الشعر في أن يكون جسراً لأشياء غير شعرية، الشعر هو الغاية وهو الوسيلة في الوقت نفسه، حين نصل إلى هذا الهدف سنكون أمام قصيدة عظيمة تصلح لكل زمان ومكان؛ لأن القصائد الغرضية ذات الوظيفة المحددة ستموت بموت الحدث وتزول بزوال المكان.
• ماذا تقول لمن يظن الشعر رصف كلمات أو تلاعباً باللغة؟
•• الله يسامحك.
• ما مدى رضاك عن النقاد واشتغالهم على شعرك؟
•• على بساطة تجربتي الشعرية أقول إني محظوظ مقارنة بأبناء جيلي وحتى بالأجيال التي سبقتني من الشعراء العراقيين والعرب، فقد حظيت بأكثر من عشرين دراسة ماجستير ودكتوراه مكرسة لدراسة شعري فقط، وهذا منجز كبير، فضلاً عن دخولي لأكثر من خمسين عملاً أكاديمياً ضمن أبناء جيلي أو دراسة الظواهر الشعرية العراقية، إضافة إلى تناول تجربتي من قبل كبار النقاد العراقيين والعرب الذين أدلوا بدلوهم في تلك التجربة، وهو محل اعتزاز وتقدير من قبلي.
• هل يحتاج الشاعر واسطة ليكون شاعراً؟
•• الشاعر الحقيقي يشبه لاعب الكرة في المنتخب الوطني، فلا يمكن للمدرب أو رئيس اتحاد الكرة أن يصعّد لاعباً للمنتخب وهو ضعيف، سيفتضح أمره في أول لعبة، كذلك الشعراء لا يمكن للواسطة أن تنهض بهذا العمل الجليل، ربما بعض أصحاب الأموال لديهم رغبة أن يكونوا شعراء، ولدي أمثلة بذلك، لكنهم ينصدمون أمام شعراء صعاليك ولكنهم شعراء حقيقيون.
• ما الذي تطمح إليه شعرياً وإنسانياً؟
•• أطمح أن تبقى قصيدتي في الذاكرة ولو بعد حين، القصيدة التي تعبر الزمن شاعرها محظوظ.