يروي أحد الموثقين أن محتسباً أقام دعوى لدى القضاء، على شاعر بتهمة الفُحشِ، وإقراره بارتكاب ما يوجب إقامة الحدّ الشرعي، والعقوبة المُغلّظة، فقال الشاعر: يقول الله عن الشعراء (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) فأسقط القاضي الدعوى.
ويرى مفكرون ونقاد أن التجريد يحرر الفن من أثقال الوظيفية (العقدية، الثقافية، الاجتماعية،الإعلامية) ليحقق الانفعال والتفاعل، كون الوظيفية نفعيّة ارتبطت بالبدائية، فيما يتمسك البعض من الكتبة، بمبدأ الكتابة الرسالية، ويُثقل البعض كتابته بالحمولات وإن زاد وزنها. وهنا استطلاع رأي عدد من المبدعين عن مدى إيمان الكاتب بالمعايير الأخلاقية، وتطبيق ما يؤمن به في إصداراته ونتاجه.
يرى الناقد الدكتور حسين المناصرة أن الإبداع، شكلاً ومضمونًا أو مبنًى ومعنًى، محكوم في الأساس بمعايير فنية وجمالية تميزه عن الكتابة العادية أو اللغة التداولية التي وصفت بدرجة الصفر بحسب تعبير بارت، مشيراً إلى قول الجاحظ «المعاني ملقاة على قارعة الطريق» كون العبرة في المكون الإبداعي باللفظ، إضافةً لما تأسس لدى الجرجاني في نظرية النظم، وربما تصل الحالة الإبداعية إلى الإعجاز، كما هو حال القرآن الكريم، بصفته خطاباً لغوياً نزل على مجتمع عربي تعد اللغة (الشعر) أعلى مراتب الإبداع في استخدام اللغة وفق جماليات عديدة كالموسيقى والصورة الفنية وغيرهما.
ويرى المناصرة أن مقولة «أعذب الشعر أكذبه» تدل على أن الكذب قيمة جمالية عليا. والكذب هنا هو التخييل، أي الكتابة في غير ما هو واقعي، حتى لو كان الواقعي أكثر خيالية من الخيال. وأرجع ضعف الشعر العربي في صدر الإسلام إلى كون الشعراء انتقلوا من مرحلة التخييل إلى مرحلة محكومة بمعايير أخلاقية حددتها الآيات الكريمة: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... (227) (سورة الشعراء)، موضحاً أن كل المناهج النقدية، اتجهت في نظرياتها المختلفة إلى محاكمة الإبداع في سياقات جمالية فنية فحسب، واعتبار المعاني أو المضامين التي عادة ما ينظر إليها في اعتبارات قيمية أخلاقية في أدنى الاهتمامات النقدية، لافتاً إلى أنه وإن كانت المعايير الأخلاقية تحافظ على قدسية التابوهات بغض النظر عن أنواعها، واختلاف المنظورات إليها، فإن من أهم أسس الإبداع أن يخترق التابوهات بكل جرأة وحرية، فتعطي الإبداع خصوصية تعبيره عن أزمات، وكسر الثوابت المهيمنة قمعياً، وكشف المخبوء الذي يستلب الخير والحق والجمال.
وتطلّع المناصرة للالتزام بحصانة الكتابة، بأن يلتزم المبدع ببعض المعايير الأخلاقية النابعة من اللغة ذاتها في طريقة التعبير الجمالي عن القبح أو عن العيب مثلاً، كون الكتابة للجميع؛ لأبنائنا وبناتنا وأبناء الجيران، ولأسرتنا الممتدة ولكل الأسر. وعدّ المبدع مختبر إبداع أي أنه الرقيب الأول والأخير على كتابته. فتغدو الإجابة المعيارية أن الإبداع محكوم بمعايير فنية، وبقيم جمالية، وبأدبية متعددة، ولا توجد أية معايير أخلاقية في النظريات الأدبية والنقدية عموماً تحاكم الإبداع أو المبدع، مضيفاً أن هذا الحكم لا يصادر أن تكون هناك معايير أخلاقية لدى بعض الكتاب والنقاد، ومن حقهم أن يتبنوا أي مذاهب أخلاقية، إلا أنها في المحصلة ليست من الإبداع أو من معايير محاكمة الإبداع.
ويذهب القاص والروائي المصري سمير الفيل إلى أن القيمة الفنية أكثر اتساعاً من المعايير الأخلاقية المغلقة، وأن الإبداع الأدبي له معايير خاصة به، تتضمن شقين لا ينفصمان: الشق الجمالي والشق الفكري، والمعوّل عليه هنا القيمة الجمالية، وتجلياتها في اللغة والأسلوب والابتكار وقوة التأثير، ما يجعل النص الأدبي له خصوصياته الفنية والتشكيلية والبنائية.
وعدّ الفيل مبادرة الكاتب للتجديد والتجريب مبنية على فهم واستيعاب وهضم الأعمال السابقة ثم محاولة الانفلات مما هو مكرر بالضرورة، وإن حضرت علامات مؤثرة تكمن في الخلفية كقيم معيارية كما هو الحال في فن المسرح، إذ عليك ككاتب أن تستفيد من أعمال الداهية وليم شكسبير الذي استوعب تناقضات النفس البشرية وانعكس ذلك على أعماله مثل (عطيل) و(مكبث) و(تاجر البندقية)، وفي الرواية لابد أن يستوعب الكاتب عطاءات كالتي بسطها ديستويفسكي في أعماله الرصينة، صحيح أن بها ثرثرة تبدو زائدة غير أنه مولع بكشف طبيعة الضمير البشري في كافة تبدياته. مستعيداً كلاسيكية نجيب محفوظ أحياناً، غير أنه كان نموذجاً لإرادة التطوير والانتقال من مرحلة إلى أخرى، مستوعباً تحولات الواقع والحياة، وتجلى ذلك في (الثلاثية) و(الحرافيش)، إضافةً ليحيى حقي في (قنديل أم هاشم)، إذ حاول المساوقة بين التراث الشعبي وبين قوة العلم بشكل فني بديع. وهو ما حققه صبري موسى في (فساد الأمكنة)، إذ كشف نقائض النفس البشرية في منطقة تسمى (جبل الدرهيب)، دون أن يسعى لأي معايير أخلاقية غير قوة الفن.
ودعا للتوقف في القصة القصيرة أمام ما قدمه أنطون تشيخوف على سبيل المثال، عبر مجموعاته التي اتسمت بالكثافة والتشكيل الفني البديع خاصة في أعمال مثل (موت موظف) و(الحرباء)، وغيرهما من نصوص تتميز بخطاب ناصع ورؤية متكاملة.
ويرى الفيل أن المعيار الأخلاقي لا يفيد في حالة الكتابة، وإن ظلت هناك ضوابط بمعنى ألا يسعى الكاتب للاصطدام بالموانع والزواجر بشكل مصطنع، فيجعل النص قابلاً للمصادرة، مؤكداً حضور العنصر الأخلاقي وضرورة الالتفات إليه، لا ليعطل موهبة القص أو التمسرح أو الشعر، ولكن كي لا تتحول الأعمال الأدبية إلى منشورات سياسية أو أوراق تحريضية يمكن تهميشها أو استيلاب جوهرها.
وأضاف: أتصور أن شاعراً مثل أمل دنقل كان يهتم بالتشكيل الفني، وفي الوقت نفسه لا يتورع عن مشاكسة الأنظمة بشكل فني محترف، وهو ما فعله سعد الله ونوس في القطر السوري عبر المسرح، وما فعله بشكل او بآخر ـ بشكل فني ملحوظ ـ علي الدميني ومحمد الثبيتي في السعودية، وأتصور أن محمود درويش رغم ثقل القضية الفلسطينية لم يتنازل عن الجمالي وإن ظل قابضاً على موقف ثوري يتخطى الوقوع في فخ»قولبة الفكر”، مشيراً إلى أنه في تجربته الشخصية كان يكتب بلا سقف في نصوص مجموعته (جبل النرجس) و(حمام يطير)، ثم لجأ إلى قص الزوائد التي وجدها تصطدم بالذوق العام فلا تضع حجاباً بينه وبين المتلقي.
ويذهب إلى أن تجربة الكتابة تمثل انتصاراً أكيداً لإعلاء الفني على الأخلاقي، ولا يراه خضوعاً للأيديولوجيا، بل هو فعل حرية لكي نطلق الطائر ليحلق في سماوات بعيدة بعدها ليغرد بما شاء له التغريد، بالصورة التي تمنحه سعادة وتفرداً، كون الفن له قيمة أكبر من ذلك الأخلاقي المحدود، منها المتعة والمعرفة وقوة الأثر، ولا شيء أبعد من ذلك.
لا لأدلجة الفن
وعدّ الشاعر سامح محجوب كل ما هو فني إبداعياً هو بالضروري قيمي وأخلاقي، وإن خالف تصورات وتمثُّلات العوام والمؤدلجين للفن. وقال: لا يمكن بأي حال من الأحوال إخراج القصيدة الشريرة لنزار قباني من الشعر ورجمها ورجم صاحبها لأنها تصف مشهداً إيروتيكياً إرضاءً للمتطفلين على الكتابة إنشاءً وتذوقاً، مضيفاً أن ذلك ينسحب بالطبع على كل الفنون التي يضطر بعضها كالفن التشكيلي مثلاً للتعامل مع الجسد كمعيار جمالي. وتطلّع لأن تتخلص مجتماعاتنا من هذا الخلط المتعمد فى غالب الأمر بين ما هو جمالي وما هو قيمي، والتوقف فوراً عن البحث للفن عن وظيفة غير جمالية، كون ذلك بمثابة قتل متعمد للإبداع الذي هو المحاولة الأكبر للإنسان فى معرفة العالم من خلال ذاته.
وتساءل الروائي عبدالعزيز الصقعبي: هل معيار الإبداع فنّيٌ أم أخلاقي؟ ويجيب: من وجهة نظري لا يمكن الفصل بين الفن والأخلاق في تقييم الإبداع، ولا يصلح أن توضع معايير فنية فقط ليتميز الإبداع، ولا أخلاقية فقط ليقبله الآخرون.
وشبّه المبدع بالطبيب الجراح الذي يقوم بعملية أي خلل فيها يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كوننا نقرأ نصوصاً مغلقة ونحاول أن نتماهى معها فلا نجد ما يحرك مشاعرنا، ما يجعلنا لا نتفاعل معها، وإن أعجبنا الشكل، إلا أن الإعجاب لا يتجاوز ذلك، لافتاً إلى مصادفة نصوص مباشرة تفقد علاقتها بالإبداع بسوء القالب المقدمة به، لعدم وجود سمة جمالية ترفع المضمون ليصل لمرحلة الإبداع، مستعيداً جدلية الفن للفن والفن للحياة، وعدها جدلية لا تنتهي مطلقاً، في ظل ما يطرح كل فريق من أمثلة يراها الجانب الآخر سيئة ليثبتوا أنهم هم على حق. وعزا ابتكار عمل يعجب به الجميع، ويضيف لهم شيئاً يحقق توازن المعيار الفني والأخلاقي، لقدرة المبدع.
ويرى مفكرون ونقاد أن التجريد يحرر الفن من أثقال الوظيفية (العقدية، الثقافية، الاجتماعية،الإعلامية) ليحقق الانفعال والتفاعل، كون الوظيفية نفعيّة ارتبطت بالبدائية، فيما يتمسك البعض من الكتبة، بمبدأ الكتابة الرسالية، ويُثقل البعض كتابته بالحمولات وإن زاد وزنها. وهنا استطلاع رأي عدد من المبدعين عن مدى إيمان الكاتب بالمعايير الأخلاقية، وتطبيق ما يؤمن به في إصداراته ونتاجه.
يرى الناقد الدكتور حسين المناصرة أن الإبداع، شكلاً ومضمونًا أو مبنًى ومعنًى، محكوم في الأساس بمعايير فنية وجمالية تميزه عن الكتابة العادية أو اللغة التداولية التي وصفت بدرجة الصفر بحسب تعبير بارت، مشيراً إلى قول الجاحظ «المعاني ملقاة على قارعة الطريق» كون العبرة في المكون الإبداعي باللفظ، إضافةً لما تأسس لدى الجرجاني في نظرية النظم، وربما تصل الحالة الإبداعية إلى الإعجاز، كما هو حال القرآن الكريم، بصفته خطاباً لغوياً نزل على مجتمع عربي تعد اللغة (الشعر) أعلى مراتب الإبداع في استخدام اللغة وفق جماليات عديدة كالموسيقى والصورة الفنية وغيرهما.
ويرى المناصرة أن مقولة «أعذب الشعر أكذبه» تدل على أن الكذب قيمة جمالية عليا. والكذب هنا هو التخييل، أي الكتابة في غير ما هو واقعي، حتى لو كان الواقعي أكثر خيالية من الخيال. وأرجع ضعف الشعر العربي في صدر الإسلام إلى كون الشعراء انتقلوا من مرحلة التخييل إلى مرحلة محكومة بمعايير أخلاقية حددتها الآيات الكريمة: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... (227) (سورة الشعراء)، موضحاً أن كل المناهج النقدية، اتجهت في نظرياتها المختلفة إلى محاكمة الإبداع في سياقات جمالية فنية فحسب، واعتبار المعاني أو المضامين التي عادة ما ينظر إليها في اعتبارات قيمية أخلاقية في أدنى الاهتمامات النقدية، لافتاً إلى أنه وإن كانت المعايير الأخلاقية تحافظ على قدسية التابوهات بغض النظر عن أنواعها، واختلاف المنظورات إليها، فإن من أهم أسس الإبداع أن يخترق التابوهات بكل جرأة وحرية، فتعطي الإبداع خصوصية تعبيره عن أزمات، وكسر الثوابت المهيمنة قمعياً، وكشف المخبوء الذي يستلب الخير والحق والجمال.
وتطلّع المناصرة للالتزام بحصانة الكتابة، بأن يلتزم المبدع ببعض المعايير الأخلاقية النابعة من اللغة ذاتها في طريقة التعبير الجمالي عن القبح أو عن العيب مثلاً، كون الكتابة للجميع؛ لأبنائنا وبناتنا وأبناء الجيران، ولأسرتنا الممتدة ولكل الأسر. وعدّ المبدع مختبر إبداع أي أنه الرقيب الأول والأخير على كتابته. فتغدو الإجابة المعيارية أن الإبداع محكوم بمعايير فنية، وبقيم جمالية، وبأدبية متعددة، ولا توجد أية معايير أخلاقية في النظريات الأدبية والنقدية عموماً تحاكم الإبداع أو المبدع، مضيفاً أن هذا الحكم لا يصادر أن تكون هناك معايير أخلاقية لدى بعض الكتاب والنقاد، ومن حقهم أن يتبنوا أي مذاهب أخلاقية، إلا أنها في المحصلة ليست من الإبداع أو من معايير محاكمة الإبداع.
ويذهب القاص والروائي المصري سمير الفيل إلى أن القيمة الفنية أكثر اتساعاً من المعايير الأخلاقية المغلقة، وأن الإبداع الأدبي له معايير خاصة به، تتضمن شقين لا ينفصمان: الشق الجمالي والشق الفكري، والمعوّل عليه هنا القيمة الجمالية، وتجلياتها في اللغة والأسلوب والابتكار وقوة التأثير، ما يجعل النص الأدبي له خصوصياته الفنية والتشكيلية والبنائية.
وعدّ الفيل مبادرة الكاتب للتجديد والتجريب مبنية على فهم واستيعاب وهضم الأعمال السابقة ثم محاولة الانفلات مما هو مكرر بالضرورة، وإن حضرت علامات مؤثرة تكمن في الخلفية كقيم معيارية كما هو الحال في فن المسرح، إذ عليك ككاتب أن تستفيد من أعمال الداهية وليم شكسبير الذي استوعب تناقضات النفس البشرية وانعكس ذلك على أعماله مثل (عطيل) و(مكبث) و(تاجر البندقية)، وفي الرواية لابد أن يستوعب الكاتب عطاءات كالتي بسطها ديستويفسكي في أعماله الرصينة، صحيح أن بها ثرثرة تبدو زائدة غير أنه مولع بكشف طبيعة الضمير البشري في كافة تبدياته. مستعيداً كلاسيكية نجيب محفوظ أحياناً، غير أنه كان نموذجاً لإرادة التطوير والانتقال من مرحلة إلى أخرى، مستوعباً تحولات الواقع والحياة، وتجلى ذلك في (الثلاثية) و(الحرافيش)، إضافةً ليحيى حقي في (قنديل أم هاشم)، إذ حاول المساوقة بين التراث الشعبي وبين قوة العلم بشكل فني بديع. وهو ما حققه صبري موسى في (فساد الأمكنة)، إذ كشف نقائض النفس البشرية في منطقة تسمى (جبل الدرهيب)، دون أن يسعى لأي معايير أخلاقية غير قوة الفن.
ودعا للتوقف في القصة القصيرة أمام ما قدمه أنطون تشيخوف على سبيل المثال، عبر مجموعاته التي اتسمت بالكثافة والتشكيل الفني البديع خاصة في أعمال مثل (موت موظف) و(الحرباء)، وغيرهما من نصوص تتميز بخطاب ناصع ورؤية متكاملة.
ويرى الفيل أن المعيار الأخلاقي لا يفيد في حالة الكتابة، وإن ظلت هناك ضوابط بمعنى ألا يسعى الكاتب للاصطدام بالموانع والزواجر بشكل مصطنع، فيجعل النص قابلاً للمصادرة، مؤكداً حضور العنصر الأخلاقي وضرورة الالتفات إليه، لا ليعطل موهبة القص أو التمسرح أو الشعر، ولكن كي لا تتحول الأعمال الأدبية إلى منشورات سياسية أو أوراق تحريضية يمكن تهميشها أو استيلاب جوهرها.
وأضاف: أتصور أن شاعراً مثل أمل دنقل كان يهتم بالتشكيل الفني، وفي الوقت نفسه لا يتورع عن مشاكسة الأنظمة بشكل فني محترف، وهو ما فعله سعد الله ونوس في القطر السوري عبر المسرح، وما فعله بشكل او بآخر ـ بشكل فني ملحوظ ـ علي الدميني ومحمد الثبيتي في السعودية، وأتصور أن محمود درويش رغم ثقل القضية الفلسطينية لم يتنازل عن الجمالي وإن ظل قابضاً على موقف ثوري يتخطى الوقوع في فخ»قولبة الفكر”، مشيراً إلى أنه في تجربته الشخصية كان يكتب بلا سقف في نصوص مجموعته (جبل النرجس) و(حمام يطير)، ثم لجأ إلى قص الزوائد التي وجدها تصطدم بالذوق العام فلا تضع حجاباً بينه وبين المتلقي.
ويذهب إلى أن تجربة الكتابة تمثل انتصاراً أكيداً لإعلاء الفني على الأخلاقي، ولا يراه خضوعاً للأيديولوجيا، بل هو فعل حرية لكي نطلق الطائر ليحلق في سماوات بعيدة بعدها ليغرد بما شاء له التغريد، بالصورة التي تمنحه سعادة وتفرداً، كون الفن له قيمة أكبر من ذلك الأخلاقي المحدود، منها المتعة والمعرفة وقوة الأثر، ولا شيء أبعد من ذلك.
لا لأدلجة الفن
وعدّ الشاعر سامح محجوب كل ما هو فني إبداعياً هو بالضروري قيمي وأخلاقي، وإن خالف تصورات وتمثُّلات العوام والمؤدلجين للفن. وقال: لا يمكن بأي حال من الأحوال إخراج القصيدة الشريرة لنزار قباني من الشعر ورجمها ورجم صاحبها لأنها تصف مشهداً إيروتيكياً إرضاءً للمتطفلين على الكتابة إنشاءً وتذوقاً، مضيفاً أن ذلك ينسحب بالطبع على كل الفنون التي يضطر بعضها كالفن التشكيلي مثلاً للتعامل مع الجسد كمعيار جمالي. وتطلّع لأن تتخلص مجتماعاتنا من هذا الخلط المتعمد فى غالب الأمر بين ما هو جمالي وما هو قيمي، والتوقف فوراً عن البحث للفن عن وظيفة غير جمالية، كون ذلك بمثابة قتل متعمد للإبداع الذي هو المحاولة الأكبر للإنسان فى معرفة العالم من خلال ذاته.
وتساءل الروائي عبدالعزيز الصقعبي: هل معيار الإبداع فنّيٌ أم أخلاقي؟ ويجيب: من وجهة نظري لا يمكن الفصل بين الفن والأخلاق في تقييم الإبداع، ولا يصلح أن توضع معايير فنية فقط ليتميز الإبداع، ولا أخلاقية فقط ليقبله الآخرون.
وشبّه المبدع بالطبيب الجراح الذي يقوم بعملية أي خلل فيها يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كوننا نقرأ نصوصاً مغلقة ونحاول أن نتماهى معها فلا نجد ما يحرك مشاعرنا، ما يجعلنا لا نتفاعل معها، وإن أعجبنا الشكل، إلا أن الإعجاب لا يتجاوز ذلك، لافتاً إلى مصادفة نصوص مباشرة تفقد علاقتها بالإبداع بسوء القالب المقدمة به، لعدم وجود سمة جمالية ترفع المضمون ليصل لمرحلة الإبداع، مستعيداً جدلية الفن للفن والفن للحياة، وعدها جدلية لا تنتهي مطلقاً، في ظل ما يطرح كل فريق من أمثلة يراها الجانب الآخر سيئة ليثبتوا أنهم هم على حق. وعزا ابتكار عمل يعجب به الجميع، ويضيف لهم شيئاً يحقق توازن المعيار الفني والأخلاقي، لقدرة المبدع.