-A +A
عبدالمحسن يوسف
محظوظ هو من أتاحت له الظروف متابعة «إذاعة لندن»، زمن حسن الكرمي، رشاد رمضان، محمد مصطفى رمضان، محمود المسلمي، حسام شبلاق، أيوب صديق، ماجد سرحان، مديحة رشيد المدفعي، هدى الرشيد (مذيعة سعودية)، علي البعداني (مذيع سعودي)، حيث هذه الأصوات ذات الرنين المميز لامست وجدانا وشكلت ذائقة وصاغت أفقا.. مذ كنت تلميذا في الصف السادس الابتدائي وأنا أتابع هذه الإذاعة متابعة يومية دقيقة، لقد كانت سلوتي وملاذي.. أتابع أخبار العالم وبرامجها السياسية والثقافية الجادة واللقاءات والأغاني.. في ليل «جزيرة فرسان» الهادئ الرصين وتحت سماء صافية كالمرايا كنت ألوذ بهذا العالم الذي كنت أراه في ذلك الوقت ساحرا، ومن فرط شغفي حاولت جاهدا تقليد مذيعيها عبر الإذاعة المدرسية، بل رحت أسجل المعلومات والنصوص وما يروق لي من أخبار في «دفتر» صغير مستفيدا من «ندوة المستمعين»، و«قول على قول»، و«السياسة بين السائل والمجيب»....إلخ... وعندما طبعت مواد «قول على قول» للأستاذ حسن الكرمي، وكذلك «السياسة بين السائل والمجيب» في كتب بادرت إلى شرائها وإعادة قراءتها مستعيدا ذكريات وتفاصيل ومباهج ذلك الزمن الغض (أصفه بالغض، لأني أعتبره زمني أنا، زمني الخاص الذي ليس كمثله زمن)... لقد كانت مديحة رشيد المدفعي (مذيعة عراقية) حين تقرأ نشرة الأخبار كأنما تقرأ قصيدة مغايرة، وكان ماجد سرحان (مذيع فلسطيني) يهب علينا كعاصفة أنيقة مغسولة بالمطر.. أما هدى الرشيد فكانت تهطل علينا بإيقاع خاص له نكهة تقترب من تخوم الهمس فيما هي تتلو علينا أنباء هذه المعمورة الممتلئة بالخراب والجثث وكأنها تفعل هذا لترحمنا قليلا من وطأة تلك المآسي التي تفسد الروح... هذا الحدث الذي كان بارزا يوم أمس، ألا وهو إغلاق «إذاعة لندن» -هكذا كنا نسميها كما كان يسميها «شيباننا» الرائعون- أقول هذا الحدث أيقظ في أعماقي حنينا يصل إلى مستوى «النوستالجيا»... صحيح هناك من سيقول: إنها إذاعة معادية تدس السم في العسل.. نعم، ليكن هذا حقيقة.. لكنها في الوقت ذاته سرّبت إلينا لغة فخمة وحسّا عاليا، وأضاءت آفاقا ثقافية لم نكن لنلمسها زمن الانغلاق والآفاق الموصدة، وفتحت نوافذ عريضة تطل على الضفاف الأخرى المترعة بالشعر والأدب والغناء والفنون والجمال الذي يرسخ ويبقى.

بقي أن أقول: كان رئيس القسم العربي لـ BBC الروائي الكبير الطيب صالح.