لم يقتصر المستعرب الفرنسي البروفيسور بيير لارشيه؛ المتخصص في اللسانيات والأستاذ في جامعة «إيكس إن بروفانس»، على ترجمة المعلقات السبع والشعر الجاهلي، بل اشتغل على عشرات الدّراسات والكتب واستنطق أعمال اللغويين في أعمال قدم من خلالها نظرة شاملة عن مفهوم اللغة العربية وآدابها ونقلها إلى لغة فولتير.
«عكاظ» التقت بيير لارشيه، الذي كشف الكثير مما يبحث عنه القارئ العربي؛ سواء في طريقة تعامله مع «العربية» وآدابها أو مشاريعه الجديدة وآرائه عن الترجمة.
بيير لارشيه، الذي يرى أن اللغة، أيّاً كانت، لا تُعبِّر فقط أو تقترح بل توجه، وتتجاوز المعوقات لتبلغ الهدف. ويرى -أيضاً- أن الترجمة هي جسر بين الثقافات المختلفة.. فإلى نص الحوار:
• هل يمكن للترجمات أن تكبر أو تشيخ؟
•• كل شيء يتقادم ويشيخ، النصوص الأدبية والترجمات التي تنبثق عنها أيضاً، لكن الكلاسيكيات لا تموت أبداً؛ بمعنى أنها تخضع دائماً لقراءات جديدة، خاصة إذا تعلق الأمر بلغة أجنبية، لترجمات جديدة تمنحها فهماً وتفسيراً جديداً.
في مجال الترجمة، تكون «الخيانة جميلة»، لأنها تظل جميلة وستبقى سهلة القراءة حتى ولو وُسمت بالخيانة: وهو الشأن بالنسبة لترجمة أنطوان غالان (Galland) لـ«ألف ليلة وليلة». حيث يعد غالان المبتكر بالمعني الأركيولوجي «لألف ليلة وليلة»، الذي يعود تاريخه إلى بداية القرن الثامن عشر، ولا يزال نص ألف ليلة وليلة يخضع للبحث والقراءة لترجمة أفضل. وهو الحال نفسه بالنسبة للترجمات، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، مثل ترجمات الشاعر والمستشرق فريدريش روكيرت (Frie drich Rückert)، التي كانت ترجماته من لغات شرقية عدة، بما في ذلك العربية، وهي جميلة ووفية للنص الأصلي إجمالاً، وتنتمي في الوقت نفسه إلى الأدب الألماني، مثلما يشير إلى ذلك يوهان فوك في كتابه المرجعي عن الدراسات العربية في أوروبا.
• لكن هل تعتقد أن البحث عن ترجمة «معاصرة» وحرفية للنصوص التي ترجمت سابقاً هي ترياق لشيخوخة تلك الترجمات؟
•• بصفتي لغوياً ومترجماً، فإنني أميل إلى التفكير في ذلك، حيث أفضل أثناء الترجمة أن أكون لصيقاً نوعاً ما وبأكبر قدر ممكن للنص الأصلي. لكن، في الوقت نفسه، علينا أن ندرك أن الحَرفية المفرطة يمكن أن تؤدي إلى الإبهام والتداخل، وفي هذه الحالة يكون العلاج أسوأ من الشر؛ لذلك نستمر في البحث والحفر؛ للفهم الأفضل للنص الأصلي.
• هل يمكن إثراء النص المترجم بترجمة على أيدٍ متعددة؟
•• كل هذا يتوقف على ما تعنيه من عبارة «ترجمة متعددة» متزامنة أو عبر حقب متعددة. لدينا مثال لترجمة المعلقات من طرف أربعة مترجمين: ترجمة بلانت (Blunt)، التي يعود تاريخها إلى عام 1903: تؤكد الليدي آن بلانت، وهي حفيدة بايرون، على أنها ترجمت حرفياً ما ردده زوجها الشاعر ويلفريد سكاوين بلانت من أبيات.
وإذا سلمنا بترجمة Arberry، مؤلف الترجمة المرجعية للمعلقات بالإنجليزية، فإن النتيجة لم تكن مقنعة ولم تتم إعادة إصدار الترجمة مرة أخرى إلا بعد زمن طويل، أي تحديداً في (2012)، وبواسطة ناشر «تحت الطلب»، مما يعني أن إعادة الإصدار مرت بلا حدث ودون أي أثر.
أما إذا كنا نقصد «بترجمة بأيدٍ متعددة» عبر حقب متعددة، فيمكننا القول إن أي ترجمة للمعلقات هي «بأيدٍ متعددة»؛ بمعنى أن كل ترجمة، تستعين بسابقاتها، أو تستلهم منها بعض الشيء، لكي تبرز الترجمة أكثر فأكثر وتتميز.
• هل يمكن إدراج ترجمتك للمعلقات مثلاً ضمن هذا السياق؟ وهل اعتمدت على سابقيك ممن ترجموا المعلقات؟
•• بالنسبة لي، قمت بإدراج ترجمتي الخاصة في ما أسميه تقليداً لترجمة المعلقات، مع الرجوع إلى الترجمات الموجودة من الأقدم إلى الأحدث بلغات غير الفرنسية التي أستطيع قراءتها؛ اللاتينية، الألمانية، الإنجليزية، الإيطالية، والإسبانية، حيث نجد آثاراً لهذه الترجمات، كما يمكننا أن نجد بالفعل آثاراً لترجماتي في الترجمات اللاحقة. وأنا أعتبر هذا إثراء أيضاً للترجمة.
• اعتمدت على التعليق الهامشي في الترجمات.. هل يمكننا معرفة ما إذا كان التعليق شبه النصي هو بمثابة فسحة يتم من خلالها حل التوتر بين النص ومترجمه؟
•• يمكنني الإجابة بنعم. حتى لو لم أمارس التعليقات شبه النصية، بالمعنى الحرفي للجملة اليونانية grec para أو (على الهامش)، إلا أنني أسبق ترجمتي بمقدمة حيث أقدم باختصار الشاعر وقصيدته من حيث (التركيب والموضوع) والترجمات الموجودة لقصيدته بلغات مختلفة.
وبالمثل، أتابع ترجمتي بتعليقات توضيحية وفيرة نسبياً، ولغوياً وأسلوبياً بشكل أساس، ولكن أيضاً تاريخياً وجغرافياً، إلخ. وأدرج المقدمة والشروح ضمن ما يسمى الآن «بالنص الموازي» في النظرية الأدبية. أؤكد على كلمة «يتبع».
لأنني لا أريد أن أقطع قراءة الترجمة، التي من جهتي أتمنى أن تكون دائماً بصوتٍ عالٍ (الشعر كُتب ليردد بصوت عالٍ)، من خلال الحواشي.
من ناحية أخرى، أعتقد أن قارئ الترجمة يطرح كل الأسئلة التي تخطر بباله، وبالنسبة لبعضها، فقد طرحتها أنا على نفسي قبله، وسيجد إجاباتها في الهوامش.
• تقصد هناك قراءتان متتابعتان؟
•• نعم، هناك قراءتان متتاليتان؛ إحداهما نصية والأخرى «شبه نصية».
• هل يمكن للتعليق والهامش أن يفصح لنا عن حجم رهانات التلقي المعقدة والصعبة للمترجم أو المؤَلف، وهل تسمح الهوامش بإبراز نهج المترجم؟
•• يدعو بعض المترجمين إلى ثورة لغوية لا يمكن أن تتحقق دون جرأة معينة، ولا يمكن أن تقتصر على نقل فكر المؤلف، بل تعمل أيضاً على مستوى اللغة، وبنيتها العميقة والسطحية، والصوتية والصرفية والنحوية.
لا أؤمن بـ«الأمسية الواعدة» للترجمة؛ لأنني، وبصفتي مختصاً لغوياً، أعرف أن اللغات أنظمة تتطور بالتأكيد بمرور الوقت، ولكن لا يمكن إحداث ثورة فيها.
بالمقابل، فإنه في كل مكان، دائماً، تستخدم اللغة الشعرية موارد لغوية لا تستخدمها اللغة العادية، وهذه الموارد هي التي يجب أن يستعين بها المترجم، على سبيل المثال، باللغة الفرنسية، صياغة جملة أكثر تركيبة، وأكثر إحكاماً، وأكثر إضماراً من تلك الموجودة في الفرنسية المتداولة.
• بماذا تفسر اهتمام الغرب بالنصوص العربية وبالأدب الجاهلي بشكل خاص؟•• سؤالكِ وجيه. لا بد أن أذكر، بأن هذا الاهتمام قديم، فأول طبعة وترجمة باللغة اللاتينية التي كانت اللغة الأكاديمية في ذلك الوقت، هي لمعلقة طرفة بن العبد، التي يعود تاريخ صدورها إلى عام 1742. وتلتها بعد ذلك ترجمة ونشر معلقة امرئ القيس في عام 1748. ولكن هذه الترجمة ظهرت بعد وفاة صاحبها، الدبلوماسي الهولندي والمستشرق الألماني الأصل ليفينوس وارنر (Levinus Warner)، الذي توفي في إسطنبول عام 1665 والذي كان وراء مجموعة المخطوطات الشرقية لجامعة لايد.
ولقد ترجمت هذه النسخة اللاتينية إلى الفرنسية، فهي في مجملها دقيقة ووفية للنص الأصلي بشكل ملحوظ، كما أن المكتبة الشرقية لإيربولو (Herbelot)، التي نشرت بعد عام 1697 من قبل أنطوان غالاند (Antoine Galland)، المخترع، بالمعنى الأركيولوجي للمصطلح، لألف ليلة وليلة، تحوي دراسة جيدة عن المعلقات.
قد أذهب للقول إن هذا الاهتمام من باب المحاكاة والتقليد. فالمستشرقون في ذلك الوقت (الذين لم يسموا بالمستشرقين في ذلك الوقت: فالمصطلح لم يظهر إلا في نهاية القرن الثامن عشر)، استنتجوا أن هذا الشعر كان جزءاً من منهج الأدباء في العالم الإسلامي، تماماً كما كان الشعراء اليونانيون واللاتينيون جزءاً من منهجهم.
• هل لهذا الاستنتاج سبب في مقارنة الشعر الإغريقي بالشعر العربي الجاهلي؟•• نعم هم يقارنون باستمرار شعراء ما قبل الإسلام تارة ببينداري (Pindare) وتارة بأناكريون (Anacréon)، اللذين يمثلان القطبين، على التوالي، الجدي والخفيف، للأدب الحماسي الإغريقي، والسبب أن القصيدة الجاهلية متعددة المواضيع هي مزيج ثابت من الجدية والخفة. لدينا هنا نزعة استشراقية ليس فقط «إنسانية»، بل أيضاً تعاطفية، حتى لا نقول عنها تواطؤية. لقد استطاع هذا الاستشراق أن يستمر، تارة في ازدهار وتارة في انحطاط، حتى اليوم: فأنا ممن ورث هذا التقليد.
• هل تعتقد أنه في حالة التعامل مع لغة مستعصية كاللغة الكلاسيكية في العصر الجاهلي، فإن الترجمة الفرنسية ستسمح بقراءة أكثر سلاسة ووضوحاً؟•• ليست اللغة هي المستعصية علينا، بل النمط التعبيري. لأنها، في المقام الأول، لغة شعرية، دائماً أكثر كثافة من اللغة العادية (في اللغة الألمانية يطلق على الشعر اسم ديشتنج (Dichtung)، ويعني حرفيا «التكثيف»). وفي المقام الثاني، بسبب المسافة بين المرسل والمستقبل. تجدر الإشارة إلى أن هذه المسافة اللغوية كانت موجودة بالفعل في وقت جُمع هذا الشعر، في القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي. وإلا كيف نُؤَوّل وجود تعليقات، من بيت للآخر، أو داخل كل بيت، كلمة، كلمة، ويختتم التعليق على البيت بملخص للمعنى صيغ بلغة أسهل فهماً. والمسافة أكبر بطبيعة الحال عندما يتعلق الأمر بمترجم فرنسي من القرن الواحد والعشرين، حيث لا ننتقل من لغة إلى أخرى، بل من منطقة حضارية ومن حقبة تاريخية إلى أخرى! يجب على المترجم أن يتجنب في آن واحد السقوط في إعادة الصياغة والغموض، باختصار، عليه الحفاظ على شيء من ذلك «الوضوح الغامض».
• القصيدة أحادية البيت والقافية، ترتيبها مختلف. وهذا لا يتطابق مع تقاليدك الشعرية. كيف حللت هذا الاختلاف؟•• نعم، القصيدة أحادية الوزن. من الناحية المقياسية، تُشكّلُ علينا -نحن المترجمين- في ميزانها. كتابياً، والأبيات الشعرية العربية تكون على شكل جزءين على الخط نفسه، تفصل بينهما مساحة. لذلك تظهر القصيدة العربية للعين على شكل عمودين متوازيين. لقد وجد الباحثون المتخصصون في اللغة العربية، مند فترة طويلة إن لم يكن دوماً، ما يسميه أندريه ميكال (André Miguel)، «مطابقات للكلاسيكيات». فنصفا البيت الشعري العربي المتجاوران أفقياً، يطابقان البيتين الشعريين المتتابعين عمودياً، الوحدة الشعرية المزدوجة الأبيات (distique). وهذا ليس الحل الوحيد، فغالباً ما يعتمد مترجمو اللغة الإنجليزية شكل الوحدة الرباعية الأبيات (quatrain). ولكن، سواء كان الشكل المزدوج أو الرباعي، فإن النتيجة واحدة، وهي أن الوحدة المترية والدلالية لكل بيت شعري عربي تحترم على هذا النحو. والقصيدة أحادية القافية: لدينا قافية واحدة من أول بيت إلى آخره في نهاية النصف الثاني للبيت. حتى أنه تقليدياً، نجد أن نصفي البيت الأول لهما قافية واحدة، وكأن هذا الخيار عبارة عن إعلان مسبق للقافية. ليس لنا نموذج كهذا في تقاليدنا الشعرية، وهذا بالرغم من أن بعض الناظمين حاولوا، على سبيل المراهنة، وعلى الرغم أيضاً أنني بإمكاني أن أذكر ترجمة بالألمانية لمعلقة لبيد تعود إلى 1828، تمت بالوحدة الشعرية المزدوجة (distique) بقافية واحدة تقريبا تنتهي بـ (آش) وأحيانا بـ (آق) -القافية تصبح هنا سجعاً-. أما إن اخترنا ترجمة شعرية، فلدينا الاختيار ما بين البيت الحر والبيت الكلاسيكي، فالأول متحرر من قيود البيت. فإذا اخترنا البيت الكلاسيكي، فعلينا اللجوء إلى البيت. أما في ما يخص البحر الطويل، فأطول بيت في شعرنا، الأليكساندراني (l’alexandrin)، يفرض نفسه بطبيعة الحال، على الرغم من أنه يبقى قصيراً بعض الشيء، إذ يفتقر لمقطعين ليصل إلى 14 مقطعاً كما هو حال البحر الطويل. مما يؤدي، كما فعل بعض الشعراء الفرنسيين، إلى اللجوء إلى أبيات بـ14 أو 16 مقطعاً. إذا اخترنا البيت الكلاسيكي، فتطرح أمامنا مسألة ثانوية، وهي القافية، لأنه معروف في التقليد الشعري الفرنسي أن الأبيات تتناغم قافياتها مثنى مثنى، بالتناوب مع القوافي المذكرة (بدون «e» الصامت) والقوافي المؤنثة (بـ«e»الصامت). فيما يخصني بما يتعلق بالمعلقات (فقد كانت لي خيارات مغايرة في سياق آخر)، اخترت الوحدة المزدوجة بـ12 مقطعاً إسكندرياً، وفي الوقت نفسه «متحررة» ودون قافية، مع الحفاظ دوماً على القوافي الداخلية، والسجع، والجناس.
• ما الصعوبات التي واجهتموها أثناء ترجمتكم لهذه النصوص، التي يكاد يتعذر فهمها اليوم من طرف القارئ العربي المعاصر؟•• بالنسبة لي، الصعوبة الرئيسية تتمثل أولاً في أن أتصور الأشياء لذاتي ثم أن أمثلها باللغة الفرنسية. سأعطي مثالاً عن الحياة الحيوانية والنباتية. عليكِ أن تحددي بدقة أي حيوان أو نبات نتحدث عنه إذا أردنا أن نفهم المقارنة بين أي من المصطلحين هو أو هي. ولكن، حتى لو نجحنا في هذه المرحلة الأولى (التي أصبحت اليوم أسهل من الأمس)، فقد تبقى الصعوبة في جزئها الثاني وهو: تمثيل الأشياء في اللغة الفرنسية ذاتها. إلا أننا، إذا كان لنا ما يلزم في اللغة الفرنسية بالنسبة لحيوان أليف مثل الحصان، فسنظل عاجزين تماماً أمام الحيوان الأليف الآخر الذي هو الجمل، القلب النابض للحياة البدوية: فنحن لا نستطيع وصف أوباره، وخطواته، وتركيبة أسنانه، وما إلى ذلك إلا بالقياس مع حيوانات أخرى.
لكن رغم ذلك، تمكنا من خلال لغة فرنسية بسيطة من استخراج مصطلحات كادت لحد ما أن توصف الأشياء كما هي في الحياة البدوية للشرق المتخم بالتفعالات والتدخلات.
• هل استطاع المترجم إلى اللغة الأجنبية فك شيفرات النصوص العربية المعقدة، باستعمال تعبير ومصطلحات تتقاسم الخصائص نفسها، والشبكة الدلالية نفسها مع اللغة الأم؟•• سأرد عليك بسؤال آخر: هل يجب على المترجم أن يكون رائداً فيما يخص التنظيم ومن حيث مفهوم السياق الذي يعطي المعنى، ومن حيث مفهوم الوضعية التي تقتضي ترتيب العناصر الخارجية (المعارف غير اللغوية)؟
طبعا المترجم ينصاع تلقائياً لفكرة دور المتلقي الذي يتفاعل مع المرسل إليه، فالمترجم يسعى إلى فك تشفير الرسالة بفضل معرفته للسياق اللغوي والمكاني للنص. ومن هنا يمكنه توصيل الفكرة والرسالة ضمن المفهوم والسياق الذي ورد فيه النص في اللغة الأم.
• سؤال ضروري هنا وملح.. هل يمكنك أن تفسر لنا كيف أصبح ما تسميه جمهرة التعليم والعصرنة يشكلان تهديداً على اللغات والثقافات الكلاسيكية؟•• من حيث أصل الكلمة، الكلاسيكي يعني الشيء الذي ينتمي إلى الطبقة الأولى من المواطنين (روما)، وبعبارة أخرى إلى الطبقة الأرستقراطية. وبمعنى أوسع «من الطبقة الأولى» و -لأنه من الطبقة الأولى- «الذي يدرس في الأقسام». فاللغات والثقافات «الكلاسيكية» كانت تُصنع دائماً من قبل ومن أجل النخب المتعلمة والمثقفة. عندما أتيح التعليم للأغلبية إن لم نقل للجميع، أولاً في الغرب ثم بعدها في باقي العالم، بفضل التعليم الإجباري والمجاني، حدث مع ما نسميه «جمهرة» التعليم، تغيير تدريجي في النموذج التعليمي. الشيء الذي كان ممكناً لبعض الأشخاص، صار مستعصياً على الجميع، وأعني بالصعوبة التحكم في اللغة العريقة وفي الأدب الذي لا يقل عنها عراقة المكتوب بتلك اللغة. فاللغات والآداب الكلاسيكية هي اليوم مهجورة في كل مكان، زيادة على أنها لم تعد تمثل المرجعية بالنسبة لنخب اليوم، هذه الأخيرة التي لم يعد بينها وبين متعلمي الزمن الماضي أي وجه شبه. ما العمل؟ دون تردد، ما نفعله مع المعالم التاريخية هو: المحافظة عليها، ولكن بفتحها للزوار وبمحاولة جعل الزيارة جذابة قدر الإمكان.
«عكاظ» التقت بيير لارشيه، الذي كشف الكثير مما يبحث عنه القارئ العربي؛ سواء في طريقة تعامله مع «العربية» وآدابها أو مشاريعه الجديدة وآرائه عن الترجمة.
بيير لارشيه، الذي يرى أن اللغة، أيّاً كانت، لا تُعبِّر فقط أو تقترح بل توجه، وتتجاوز المعوقات لتبلغ الهدف. ويرى -أيضاً- أن الترجمة هي جسر بين الثقافات المختلفة.. فإلى نص الحوار:
• هل يمكن للترجمات أن تكبر أو تشيخ؟
•• كل شيء يتقادم ويشيخ، النصوص الأدبية والترجمات التي تنبثق عنها أيضاً، لكن الكلاسيكيات لا تموت أبداً؛ بمعنى أنها تخضع دائماً لقراءات جديدة، خاصة إذا تعلق الأمر بلغة أجنبية، لترجمات جديدة تمنحها فهماً وتفسيراً جديداً.
في مجال الترجمة، تكون «الخيانة جميلة»، لأنها تظل جميلة وستبقى سهلة القراءة حتى ولو وُسمت بالخيانة: وهو الشأن بالنسبة لترجمة أنطوان غالان (Galland) لـ«ألف ليلة وليلة». حيث يعد غالان المبتكر بالمعني الأركيولوجي «لألف ليلة وليلة»، الذي يعود تاريخه إلى بداية القرن الثامن عشر، ولا يزال نص ألف ليلة وليلة يخضع للبحث والقراءة لترجمة أفضل. وهو الحال نفسه بالنسبة للترجمات، التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، مثل ترجمات الشاعر والمستشرق فريدريش روكيرت (Frie drich Rückert)، التي كانت ترجماته من لغات شرقية عدة، بما في ذلك العربية، وهي جميلة ووفية للنص الأصلي إجمالاً، وتنتمي في الوقت نفسه إلى الأدب الألماني، مثلما يشير إلى ذلك يوهان فوك في كتابه المرجعي عن الدراسات العربية في أوروبا.
• لكن هل تعتقد أن البحث عن ترجمة «معاصرة» وحرفية للنصوص التي ترجمت سابقاً هي ترياق لشيخوخة تلك الترجمات؟
•• بصفتي لغوياً ومترجماً، فإنني أميل إلى التفكير في ذلك، حيث أفضل أثناء الترجمة أن أكون لصيقاً نوعاً ما وبأكبر قدر ممكن للنص الأصلي. لكن، في الوقت نفسه، علينا أن ندرك أن الحَرفية المفرطة يمكن أن تؤدي إلى الإبهام والتداخل، وفي هذه الحالة يكون العلاج أسوأ من الشر؛ لذلك نستمر في البحث والحفر؛ للفهم الأفضل للنص الأصلي.
• هل يمكن إثراء النص المترجم بترجمة على أيدٍ متعددة؟
•• كل هذا يتوقف على ما تعنيه من عبارة «ترجمة متعددة» متزامنة أو عبر حقب متعددة. لدينا مثال لترجمة المعلقات من طرف أربعة مترجمين: ترجمة بلانت (Blunt)، التي يعود تاريخها إلى عام 1903: تؤكد الليدي آن بلانت، وهي حفيدة بايرون، على أنها ترجمت حرفياً ما ردده زوجها الشاعر ويلفريد سكاوين بلانت من أبيات.
وإذا سلمنا بترجمة Arberry، مؤلف الترجمة المرجعية للمعلقات بالإنجليزية، فإن النتيجة لم تكن مقنعة ولم تتم إعادة إصدار الترجمة مرة أخرى إلا بعد زمن طويل، أي تحديداً في (2012)، وبواسطة ناشر «تحت الطلب»، مما يعني أن إعادة الإصدار مرت بلا حدث ودون أي أثر.
أما إذا كنا نقصد «بترجمة بأيدٍ متعددة» عبر حقب متعددة، فيمكننا القول إن أي ترجمة للمعلقات هي «بأيدٍ متعددة»؛ بمعنى أن كل ترجمة، تستعين بسابقاتها، أو تستلهم منها بعض الشيء، لكي تبرز الترجمة أكثر فأكثر وتتميز.
• هل يمكن إدراج ترجمتك للمعلقات مثلاً ضمن هذا السياق؟ وهل اعتمدت على سابقيك ممن ترجموا المعلقات؟
•• بالنسبة لي، قمت بإدراج ترجمتي الخاصة في ما أسميه تقليداً لترجمة المعلقات، مع الرجوع إلى الترجمات الموجودة من الأقدم إلى الأحدث بلغات غير الفرنسية التي أستطيع قراءتها؛ اللاتينية، الألمانية، الإنجليزية، الإيطالية، والإسبانية، حيث نجد آثاراً لهذه الترجمات، كما يمكننا أن نجد بالفعل آثاراً لترجماتي في الترجمات اللاحقة. وأنا أعتبر هذا إثراء أيضاً للترجمة.
• اعتمدت على التعليق الهامشي في الترجمات.. هل يمكننا معرفة ما إذا كان التعليق شبه النصي هو بمثابة فسحة يتم من خلالها حل التوتر بين النص ومترجمه؟
•• يمكنني الإجابة بنعم. حتى لو لم أمارس التعليقات شبه النصية، بالمعنى الحرفي للجملة اليونانية grec para أو (على الهامش)، إلا أنني أسبق ترجمتي بمقدمة حيث أقدم باختصار الشاعر وقصيدته من حيث (التركيب والموضوع) والترجمات الموجودة لقصيدته بلغات مختلفة.
وبالمثل، أتابع ترجمتي بتعليقات توضيحية وفيرة نسبياً، ولغوياً وأسلوبياً بشكل أساس، ولكن أيضاً تاريخياً وجغرافياً، إلخ. وأدرج المقدمة والشروح ضمن ما يسمى الآن «بالنص الموازي» في النظرية الأدبية. أؤكد على كلمة «يتبع».
لأنني لا أريد أن أقطع قراءة الترجمة، التي من جهتي أتمنى أن تكون دائماً بصوتٍ عالٍ (الشعر كُتب ليردد بصوت عالٍ)، من خلال الحواشي.
من ناحية أخرى، أعتقد أن قارئ الترجمة يطرح كل الأسئلة التي تخطر بباله، وبالنسبة لبعضها، فقد طرحتها أنا على نفسي قبله، وسيجد إجاباتها في الهوامش.
• تقصد هناك قراءتان متتابعتان؟
•• نعم، هناك قراءتان متتاليتان؛ إحداهما نصية والأخرى «شبه نصية».
• هل يمكن للتعليق والهامش أن يفصح لنا عن حجم رهانات التلقي المعقدة والصعبة للمترجم أو المؤَلف، وهل تسمح الهوامش بإبراز نهج المترجم؟
•• يدعو بعض المترجمين إلى ثورة لغوية لا يمكن أن تتحقق دون جرأة معينة، ولا يمكن أن تقتصر على نقل فكر المؤلف، بل تعمل أيضاً على مستوى اللغة، وبنيتها العميقة والسطحية، والصوتية والصرفية والنحوية.
لا أؤمن بـ«الأمسية الواعدة» للترجمة؛ لأنني، وبصفتي مختصاً لغوياً، أعرف أن اللغات أنظمة تتطور بالتأكيد بمرور الوقت، ولكن لا يمكن إحداث ثورة فيها.
بالمقابل، فإنه في كل مكان، دائماً، تستخدم اللغة الشعرية موارد لغوية لا تستخدمها اللغة العادية، وهذه الموارد هي التي يجب أن يستعين بها المترجم، على سبيل المثال، باللغة الفرنسية، صياغة جملة أكثر تركيبة، وأكثر إحكاماً، وأكثر إضماراً من تلك الموجودة في الفرنسية المتداولة.
• بماذا تفسر اهتمام الغرب بالنصوص العربية وبالأدب الجاهلي بشكل خاص؟•• سؤالكِ وجيه. لا بد أن أذكر، بأن هذا الاهتمام قديم، فأول طبعة وترجمة باللغة اللاتينية التي كانت اللغة الأكاديمية في ذلك الوقت، هي لمعلقة طرفة بن العبد، التي يعود تاريخ صدورها إلى عام 1742. وتلتها بعد ذلك ترجمة ونشر معلقة امرئ القيس في عام 1748. ولكن هذه الترجمة ظهرت بعد وفاة صاحبها، الدبلوماسي الهولندي والمستشرق الألماني الأصل ليفينوس وارنر (Levinus Warner)، الذي توفي في إسطنبول عام 1665 والذي كان وراء مجموعة المخطوطات الشرقية لجامعة لايد.
ولقد ترجمت هذه النسخة اللاتينية إلى الفرنسية، فهي في مجملها دقيقة ووفية للنص الأصلي بشكل ملحوظ، كما أن المكتبة الشرقية لإيربولو (Herbelot)، التي نشرت بعد عام 1697 من قبل أنطوان غالاند (Antoine Galland)، المخترع، بالمعنى الأركيولوجي للمصطلح، لألف ليلة وليلة، تحوي دراسة جيدة عن المعلقات.
قد أذهب للقول إن هذا الاهتمام من باب المحاكاة والتقليد. فالمستشرقون في ذلك الوقت (الذين لم يسموا بالمستشرقين في ذلك الوقت: فالمصطلح لم يظهر إلا في نهاية القرن الثامن عشر)، استنتجوا أن هذا الشعر كان جزءاً من منهج الأدباء في العالم الإسلامي، تماماً كما كان الشعراء اليونانيون واللاتينيون جزءاً من منهجهم.
• هل لهذا الاستنتاج سبب في مقارنة الشعر الإغريقي بالشعر العربي الجاهلي؟•• نعم هم يقارنون باستمرار شعراء ما قبل الإسلام تارة ببينداري (Pindare) وتارة بأناكريون (Anacréon)، اللذين يمثلان القطبين، على التوالي، الجدي والخفيف، للأدب الحماسي الإغريقي، والسبب أن القصيدة الجاهلية متعددة المواضيع هي مزيج ثابت من الجدية والخفة. لدينا هنا نزعة استشراقية ليس فقط «إنسانية»، بل أيضاً تعاطفية، حتى لا نقول عنها تواطؤية. لقد استطاع هذا الاستشراق أن يستمر، تارة في ازدهار وتارة في انحطاط، حتى اليوم: فأنا ممن ورث هذا التقليد.
• هل تعتقد أنه في حالة التعامل مع لغة مستعصية كاللغة الكلاسيكية في العصر الجاهلي، فإن الترجمة الفرنسية ستسمح بقراءة أكثر سلاسة ووضوحاً؟•• ليست اللغة هي المستعصية علينا، بل النمط التعبيري. لأنها، في المقام الأول، لغة شعرية، دائماً أكثر كثافة من اللغة العادية (في اللغة الألمانية يطلق على الشعر اسم ديشتنج (Dichtung)، ويعني حرفيا «التكثيف»). وفي المقام الثاني، بسبب المسافة بين المرسل والمستقبل. تجدر الإشارة إلى أن هذه المسافة اللغوية كانت موجودة بالفعل في وقت جُمع هذا الشعر، في القرن الثاني الهجري الموافق للقرن الثامن الميلادي. وإلا كيف نُؤَوّل وجود تعليقات، من بيت للآخر، أو داخل كل بيت، كلمة، كلمة، ويختتم التعليق على البيت بملخص للمعنى صيغ بلغة أسهل فهماً. والمسافة أكبر بطبيعة الحال عندما يتعلق الأمر بمترجم فرنسي من القرن الواحد والعشرين، حيث لا ننتقل من لغة إلى أخرى، بل من منطقة حضارية ومن حقبة تاريخية إلى أخرى! يجب على المترجم أن يتجنب في آن واحد السقوط في إعادة الصياغة والغموض، باختصار، عليه الحفاظ على شيء من ذلك «الوضوح الغامض».
• القصيدة أحادية البيت والقافية، ترتيبها مختلف. وهذا لا يتطابق مع تقاليدك الشعرية. كيف حللت هذا الاختلاف؟•• نعم، القصيدة أحادية الوزن. من الناحية المقياسية، تُشكّلُ علينا -نحن المترجمين- في ميزانها. كتابياً، والأبيات الشعرية العربية تكون على شكل جزءين على الخط نفسه، تفصل بينهما مساحة. لذلك تظهر القصيدة العربية للعين على شكل عمودين متوازيين. لقد وجد الباحثون المتخصصون في اللغة العربية، مند فترة طويلة إن لم يكن دوماً، ما يسميه أندريه ميكال (André Miguel)، «مطابقات للكلاسيكيات». فنصفا البيت الشعري العربي المتجاوران أفقياً، يطابقان البيتين الشعريين المتتابعين عمودياً، الوحدة الشعرية المزدوجة الأبيات (distique). وهذا ليس الحل الوحيد، فغالباً ما يعتمد مترجمو اللغة الإنجليزية شكل الوحدة الرباعية الأبيات (quatrain). ولكن، سواء كان الشكل المزدوج أو الرباعي، فإن النتيجة واحدة، وهي أن الوحدة المترية والدلالية لكل بيت شعري عربي تحترم على هذا النحو. والقصيدة أحادية القافية: لدينا قافية واحدة من أول بيت إلى آخره في نهاية النصف الثاني للبيت. حتى أنه تقليدياً، نجد أن نصفي البيت الأول لهما قافية واحدة، وكأن هذا الخيار عبارة عن إعلان مسبق للقافية. ليس لنا نموذج كهذا في تقاليدنا الشعرية، وهذا بالرغم من أن بعض الناظمين حاولوا، على سبيل المراهنة، وعلى الرغم أيضاً أنني بإمكاني أن أذكر ترجمة بالألمانية لمعلقة لبيد تعود إلى 1828، تمت بالوحدة الشعرية المزدوجة (distique) بقافية واحدة تقريبا تنتهي بـ (آش) وأحيانا بـ (آق) -القافية تصبح هنا سجعاً-. أما إن اخترنا ترجمة شعرية، فلدينا الاختيار ما بين البيت الحر والبيت الكلاسيكي، فالأول متحرر من قيود البيت. فإذا اخترنا البيت الكلاسيكي، فعلينا اللجوء إلى البيت. أما في ما يخص البحر الطويل، فأطول بيت في شعرنا، الأليكساندراني (l’alexandrin)، يفرض نفسه بطبيعة الحال، على الرغم من أنه يبقى قصيراً بعض الشيء، إذ يفتقر لمقطعين ليصل إلى 14 مقطعاً كما هو حال البحر الطويل. مما يؤدي، كما فعل بعض الشعراء الفرنسيين، إلى اللجوء إلى أبيات بـ14 أو 16 مقطعاً. إذا اخترنا البيت الكلاسيكي، فتطرح أمامنا مسألة ثانوية، وهي القافية، لأنه معروف في التقليد الشعري الفرنسي أن الأبيات تتناغم قافياتها مثنى مثنى، بالتناوب مع القوافي المذكرة (بدون «e» الصامت) والقوافي المؤنثة (بـ«e»الصامت). فيما يخصني بما يتعلق بالمعلقات (فقد كانت لي خيارات مغايرة في سياق آخر)، اخترت الوحدة المزدوجة بـ12 مقطعاً إسكندرياً، وفي الوقت نفسه «متحررة» ودون قافية، مع الحفاظ دوماً على القوافي الداخلية، والسجع، والجناس.
• ما الصعوبات التي واجهتموها أثناء ترجمتكم لهذه النصوص، التي يكاد يتعذر فهمها اليوم من طرف القارئ العربي المعاصر؟•• بالنسبة لي، الصعوبة الرئيسية تتمثل أولاً في أن أتصور الأشياء لذاتي ثم أن أمثلها باللغة الفرنسية. سأعطي مثالاً عن الحياة الحيوانية والنباتية. عليكِ أن تحددي بدقة أي حيوان أو نبات نتحدث عنه إذا أردنا أن نفهم المقارنة بين أي من المصطلحين هو أو هي. ولكن، حتى لو نجحنا في هذه المرحلة الأولى (التي أصبحت اليوم أسهل من الأمس)، فقد تبقى الصعوبة في جزئها الثاني وهو: تمثيل الأشياء في اللغة الفرنسية ذاتها. إلا أننا، إذا كان لنا ما يلزم في اللغة الفرنسية بالنسبة لحيوان أليف مثل الحصان، فسنظل عاجزين تماماً أمام الحيوان الأليف الآخر الذي هو الجمل، القلب النابض للحياة البدوية: فنحن لا نستطيع وصف أوباره، وخطواته، وتركيبة أسنانه، وما إلى ذلك إلا بالقياس مع حيوانات أخرى.
لكن رغم ذلك، تمكنا من خلال لغة فرنسية بسيطة من استخراج مصطلحات كادت لحد ما أن توصف الأشياء كما هي في الحياة البدوية للشرق المتخم بالتفعالات والتدخلات.
• هل استطاع المترجم إلى اللغة الأجنبية فك شيفرات النصوص العربية المعقدة، باستعمال تعبير ومصطلحات تتقاسم الخصائص نفسها، والشبكة الدلالية نفسها مع اللغة الأم؟•• سأرد عليك بسؤال آخر: هل يجب على المترجم أن يكون رائداً فيما يخص التنظيم ومن حيث مفهوم السياق الذي يعطي المعنى، ومن حيث مفهوم الوضعية التي تقتضي ترتيب العناصر الخارجية (المعارف غير اللغوية)؟
طبعا المترجم ينصاع تلقائياً لفكرة دور المتلقي الذي يتفاعل مع المرسل إليه، فالمترجم يسعى إلى فك تشفير الرسالة بفضل معرفته للسياق اللغوي والمكاني للنص. ومن هنا يمكنه توصيل الفكرة والرسالة ضمن المفهوم والسياق الذي ورد فيه النص في اللغة الأم.
• سؤال ضروري هنا وملح.. هل يمكنك أن تفسر لنا كيف أصبح ما تسميه جمهرة التعليم والعصرنة يشكلان تهديداً على اللغات والثقافات الكلاسيكية؟•• من حيث أصل الكلمة، الكلاسيكي يعني الشيء الذي ينتمي إلى الطبقة الأولى من المواطنين (روما)، وبعبارة أخرى إلى الطبقة الأرستقراطية. وبمعنى أوسع «من الطبقة الأولى» و -لأنه من الطبقة الأولى- «الذي يدرس في الأقسام». فاللغات والثقافات «الكلاسيكية» كانت تُصنع دائماً من قبل ومن أجل النخب المتعلمة والمثقفة. عندما أتيح التعليم للأغلبية إن لم نقل للجميع، أولاً في الغرب ثم بعدها في باقي العالم، بفضل التعليم الإجباري والمجاني، حدث مع ما نسميه «جمهرة» التعليم، تغيير تدريجي في النموذج التعليمي. الشيء الذي كان ممكناً لبعض الأشخاص، صار مستعصياً على الجميع، وأعني بالصعوبة التحكم في اللغة العريقة وفي الأدب الذي لا يقل عنها عراقة المكتوب بتلك اللغة. فاللغات والآداب الكلاسيكية هي اليوم مهجورة في كل مكان، زيادة على أنها لم تعد تمثل المرجعية بالنسبة لنخب اليوم، هذه الأخيرة التي لم يعد بينها وبين متعلمي الزمن الماضي أي وجه شبه. ما العمل؟ دون تردد، ما نفعله مع المعالم التاريخية هو: المحافظة عليها، ولكن بفتحها للزوار وبمحاولة جعل الزيارة جذابة قدر الإمكان.