في المرة الثانية نشيعهم وندعو لهم ونترحم عليهم، ونتذكر محاسنهم ونتسابق في الكتابة عنهم؛ لتضج وسائل التواصل بعبارات الأسى والتأبين، بينما هؤلاء الأحباب والأصدقاء ماتوا قبل ذلك عندما كانوا معنا وبيننا؛ إذ لم يكلف أحد منا نفسه أن يكتب حرفًا واحدًا أو تغريدة أو مقالة بحق أولئك الأحبة المنسيين إلا حين يطويهم الموت، وقد كانوا ملء السمع والبصر حتى غادروا مواقعهم الوظيفية، بعد أن شغلوها عملًا وعطاءً ورحابة..
يساورني هذا الشعور عند فقد كل عزيز كانت له مكانة الصدر والمقام الرفيع في وسطنا، وفي مجتمعنا!
في الأيام الماضية، فجعنا بوفاة الأستاذ «عبدالله العلي الجارالله»، وهو الاسم الكبير والتاريخ الجميل في قوافل الثقافة والفنون والشعر والأدب، الذي قدم لوطنه ولمجتمعه الكثير من العطاءات المخلصة على مدى نحو 40 عامًا؛ ولأنني شرفت بالعمل معه عن قرب في مرحلة أثيرة من هذا المشوار، لاسيما ما يتعلق بمهرجان الجنادرية الذي أطلقه الحرس الوطني على مدى 35 عامًا. لهذا يجدر القول: إنَّ «أبا هاني» كان صاحب البصمات الفنية الأولى في هذا المهرجان، حين رُشح له من قِبل الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز يرحمه الله، الرئيس العام لرعاية الشباب -آنذاك- الذي كان يشغل أيضًا منصب نائب رئيس اللجنة العليا للمهرجان، أي نائبًا للأمير بدر بن عبدالعزيز، رحمهما الله.
والرئاسة العامة لرعاية الشباب هي إحدى الجهات الحكومية الرئيسة التي تشارك في تنظيم المهرجان، ممثلة بجمعية الثقافة والفنون وإدارة التراث والفنون الشعبية، حينها كان «أبو هاني» نائبًا لرئيس الجمعية ومديرًا لإدارة التراث، فكان وجوده فاعلًا ومؤثرًا في نشاطات المهرجان وفعالياته المختلفة، لاسيما أن مهرجان الجنادرية يقوم ويرتكز كثيرًا -تحديدًا في دوراته الأولى- على هذين الجانبين: الفنون الشعبية والتراث بكل مكوناته المادية، وغير المادية من فنون وفلكلورات وحِرف وغيرها.
تبدو رؤية «عبدالله الجارالله» وعشقه لوطنه وتراثه، من روحه التي تبعث الفن والجمال، تلك الروح الحاضرة في كل ما يقوم به أو يبادر إلى تقديمه، بل إنني عندما أتأمل ما وصلت إليه الجوانب الفنية بالمهرجان في دوراته المتأخرة، أدرك كم كان «أبو هاني» يمتلك نظرة استشراف مستقبلية لما سيصل إليه هذا المكتسب الحضاري الكبير، فقد كُلَّف رئيسًا لأول لجنة فنية في تاريخ الجنادرية عام 1406هـ/1986م، فاقترح على المسؤولين -آنذاك- تنظيم عدد من الفعاليات الاحتفالية التي تقدم في اليوم الأول للمهرجان، من بينها المسيرة الفنية الشعبية التي تمثل مختلف مناطق المملكة، ورفع هذا الاقتراح للملك عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس الحرس الوطني -آنذاك- رحمه الله، وقدم أبو هاني له العرض وشرح الفكرة، التي وجدت الموافقة والدعم، لتمرَّ هذه المسيرة أمام راعي حفل الافتتاح الملك فهد بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ في مضمار سباق الهجن ومقابل المنصة الملكية، متسمة بالتنوع بين مشاركاتٍ على سيارات مكشوفة تغطى بديكورات تراثية منوعة، تعبّر عن جميع مناطق المملكة، وبين مشاركاتٍ راجلة لفرق شعبية بمشاركة الهجن والخيل، ويصبح هذا الشكل الاحتفالي تقليدًا سنويًا لأربع دورات متتالية، قبل أن يحل مكانها الأوبريت بدءًا من المهرجان السادس.
استمر «عبدالله الجارالله» يقدم في كل عام مشاريع فنية جديدة حتى جاء المهرجان الرابع عام 1408هـ، عندما قدم أول أوبريت في تاريخ مهرجانات الجنادرية، وهو أوبريت (مملكتنا دام عزك) كلمات وألحان الشاعر والملحن حامد الحامد - مكتشف الفنان راشد الماجد -، وهذا العمل لم يُعدُّ في الأصل للجنادرية، بل كان مُعدًا لزيارة كان سيقوم بها الملك فهد بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ للمنطقة الشرقية، وكلف حامد الحامد - لكونه أحد أبناء المنطقة الشرقية ـ بالعمل، فكتبه ولحنه، وأدَّاه الفنان راشد الماجد؛ ولأنَّ الزيارة قد أُجلت انتهز «عبدالله الجارالله» هذه الفرصة، وقدم العمل في افتتاح المهرجان مصحوبًا بلوحات ورقصات شعبية تمثل مختلف مناطق المملكة، مع أنه لم يتمكن من الوصول للفنان الواعد -آنذاك- راشد الماجد ليشارك في الحفل، فقد كان وقتئذٍ خارج المملكة ما تعذر معه الوصول إليه؛ لكنه كان حاضرًا بصوته فقط.
وفي العام ذاته نظَّم «الجارالله» الحفل الختامي للمهرجان لأول مرة، بمشاركة الفنان الكبير محمد عبده الذي اقتصرت مشاركته على الأغاني الوطنية، حيث اختتم الحفل برائعته الشهيرة والجديدة في ذلك الوقت (فوق هام السحب)، وشارك معه في الحفل الفنان عبدالله رشاد، وبمبادرة واقتراح من «أبي هاني» يرحمه الله، تمت دعوة نادي الاتفاق ليكرم من قبل راعي الحفل الأمير بدر بن عبدالعزيز نائب رئيس الحرس الوطني رئيس اللجنة العليا للمهرجان، لحصوله على كأس البطولة العربية لكرة القدم، ولاقت تلك المبادرة أصداءً شعبية واسعة.
في العام الذي يليه فاجأتْ الجنادريةُ جمهورها بأول عمل من إنتاجها، فكان مولد النشيد الوطني الشهير (عزّ الوطن) كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن ولحن وأداء الفنان الكبير طلال مداح، وتولى «أبو هاني» الإشراف على حفل الافتتاح وتنظيم مشاركة الفرق الشعبية، ولحرصه على تكامل الرؤية البصرية، خصص مكانًا للفرقة الموسيقية ضمن مكونات المسرح لترافق الفنان طلال مداح، ما أعطى العمل روحًا وتفاعلًا كبيرًا عند الحضور وعند المشاهدين عبر التلفزيون، وهو ما كان يرمي إليه «أبو هاني»، مع أن النشيد كان يبث مسجلًا بنظام (البلاي باك)..
توالت أعمال اللجنة الفنية التي كان يقودها «الجارالله» بكل اقتدار وتطورت في مختلف المناشط الفنية، حيث نُظَّم في العام ذاته حفل غنائي في ختام فعاليات المهرجان بحضور ورعاية الأمير بدر بن عبدالعزيز، يرحمه الله، وكان نجمه الأول الفنان الكبير طلال مداح، وبمشاركة هي الأولى للفنان عبدالمجيد عبدالله في المهرجان. وفي تلك الليلة كان المطر يهطل بغزارة، وهو ما تسبب بسقوط «أبي هاني» على خشية المسرح (المكشوف) أثناء آخر بروفة قبل الحفل بساعة، لتكسر ساقه أثناء الحفل.
التحول الكبير الذي ظهر من خلاله «أبو هاني» مخرجًا مسرحيًا متميزًا كان عام 1410هـ في حفل افتتاح المهرجان السادس الذي قدم فيه الأوبريت الشهير «مولد أمة» وهو أول أوبريت ينتجه الحرس الوطني للجنادرية من كلمات الأمير سعود بن عبدالله، وأداء العملاقين طلال مداح ومحمد عبده، وهو العمل الذي كان نقطة التحول الأولى في مسار الأعمال الوطنية في المهرجان، وقد قُدّم في المناسبة ذاتها النشيد الوطني الشهير «الله البادي» كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن. في هذا الأوبريت عمل الراحلان عبدالله الجارالله ومحمد شفيق على تصميم رقصات تعبيرية في كل لوحة، تنسجم مع النص ومع الإيقاع واللون الفلكلوري الذي ركب عليه اللحن، وهو كذلك أول أوبريت تفتتح به ساحة العروض التي أنشئت خصيصًا لحفل الافتتاح في ذلك العام، قبل أن تغطى لاحقًا وتسمى قاعة العروض، التي احتضنت جميع أوبريتات الجنادرية.
وفي الأعوام التالية واصل أبو هاني إبراز الجنادرية فنيًا، سواءً من خلال أوبريتات حفل الافتتاح وما صاحبها من استعراضات، أو من خلال البرامج التي كانت تعد بشكل يومي وتقدم مختلف الألوان من كافة مناطق المملكة، وفي المهرجان التاسع عام 1414هـ تجلى الجارالله مع رفيق دربه وصديقه المقرب الفنان سراج عمر ـ يرحمهما الله ـ في أوبريت «التوحيد»، من كلمات الأمير خالد الفيصل، الذي اقترح عليه أبو هاني توسيع دائرة الفنانين المشاركين، لتشمل -إضافة إلى طلال مداح ومحمد عبده- كلًا من عبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وعبدالله رشاد، وفي هذا العام تم إدخال الألعاب النارية وعروض الليزر، وتم ـ ولأول مرة ـ بناء مسرح في قاعة العروض، قام أبو هاني بتصميمه، ونفذته شركة فرنسية، ليصل الإبهار في الإخراج المسرحي ذلك العام إلى مستوى متقدم.
واستمر الجارالله في السنوات اللاحقة يقدم عطاءه بشكل متميز، وتكرس جهده في تنظيم برامج الفنون الشعبية وعروضها اليومية، كما تبنى -بالمشاركة مع الفنان سراج عمر- مشروع توثيق الفلكلورات والرقصات الشعبية السعودية، بالتعاون مع معهد العالم العربي ودار ثقافات العالم في باريس، في الوقت الذي تم تكليف المخرج الأستاذ فطيس بقنة بالتصميم والإخراج المسرحي لأوبريتات الدورات التالية.
قاد «أبو هاني» بكل اقتدار وبكل الحب دفة العمل الفني للجنادرية سنوات طويلة، لم يجرح أحدًا أو يزعج أحدًا.. نبيلًا في عمله مقدّرًا ومحبوبًا من الجميع؛ مسؤولين ومشاركين، خاصةً أعضاء الفرق الشعبية الذين ربطت بينه وبينهم علاقة لها طابعها الخاص، وتجسد جزء كبير منها عبر المنتخب السعودي الذي كان يشكله «الجارالله» من مختلف مناطق المملكة للمشاركة في الأسابيع الثقافية السعودية خارج المملكة، فقد كانت الفرقة الفنية السعودية أو منتخب الفنون الشعبية -الذي يؤدي جميع الرقصات- حاضرًا بقوة محققًا رسالة ثقافية وحضارية رفيعة. ويحسب لـ«أبي هاني» جهده الكبير ودوره الرئيس في إطار الفكرة العظيمة التي أطلقها وتبناها منتصف الثمانينات الميلادية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أمير منطقة الرياض حينها- حفظه الله ورعاه، المتمثلة في «معرض الرياض بين الأمس واليوم» الذي تحول إلى «معرض المملكة بين الأمس واليوم»، وكان أبو هاني مسؤولًا عن جناح التراث الشعبي والفنون الشعبية، وكان المعرض رسالةً حضارية وثقافية في غاية الأهمية، وتنقل بين عدة دول شقيقة وصديقة، من بينها مصر وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا. وللعزيز الراحل «أبي هاني» وقفات معي شخصيًا، بل إنَّ أياديه البيضاء لا تنسى يرحمه الله، دعمًا وتوجيهًا، فهو ربما وجد في شخصي ما يمكن تبنيه والدفع به للساحة الفنية والإعلامية، حيث كلفني بتقديم الحفلات والنشاطات الفنية أمام آلاف الجماهير يوميًا طوال الدورات الأولى للمهرجان؛ ما أكسبني المزيد من الثقة وأتاح لي الفرص تباعًا للوصول إلى مكانة كانت تتصاعد في كل عام، سواءً داخل الجنادرية أو في الوسط الإعلامي والفني بشكل عام.
كما أنَّ هذه الشخصية الاستثنائية كانت لها مواقف إنسانية مع كل من عَمِل معها، فالإخوة الأعزاء يوسف الدريس ومحمد الميمان وسعود العواد وعلي الخضيري وخالد الفهيد عملوا تحت إدارته، ويتذكرون جليًا العديد من المواقف، ومنها - على سبيل المثال - أنَّ مكافأته المالية التي كانت تصرف له نهاية كل مهرجان يقوم بتوزيعها على البسطاء والمعوزين، سواء من أعضاء اللجنة الفنية أو من الفرق الشعبية.
ولا يمكن أن أتجاوز في هذا الصدد مشاركة «أبي هاني» تجاوبًا مع دعوتي له بالإشراف على الحفل الفني أثناء زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله- لمحافظة بلقرن عام 1419هـ، وكان وقتها وليًا للعهد، ومشاركته في حفل محافظة بلقرن بالمفتاحة برعاية الأمير خالد الفيصل عام 1417هـ، وقد ظهر الحفلان بمظهر متميز مختلفٍ عن جميع الاحتفالات التي قدمتها محافظات منطقة عسير في هاتين المناسبتين، وهو ما كان سببًا مباشرًا في الثناء الكبير الذي تلقاه «أبا هاني» من الأمير خالد الفيصل.
ولأن الإبداع في شخصية عبدالله الجارالله لا يتجزأ، فقد امتلك كذلك ناصية الكلمة المجنحة، شاعراً وكاتب أغنية على مستوى رفيع من العذوبة والمقدرة والتمكن، وله أعمال غنائية جميلة لا تغادر الذاكرة ومنها على سبيل المثال مع طلال مداح «يا ساهر الليل هيا» لحن سامي إحسان، و«أهلًا بكم أحبابنا» لحن سراج عمر وأداء محمد عبده، و«جاي في ميعادك» لحن محمد شفيق وأداء عبدالمجيد عبدالله، و«توّ الليل يا ساري» لحن وأداء علي عبدالكريم، وغيرها الكثير من الأعمال الجميلة والمميزة مع مطربين ومطربات كثر، وبظني لولا ارتباط عبدالله الجارالله بأعماله الرسمية في جمعية الثقافة والفنون، وفي إدارة التراث برعاية الشباب وما يتفرع عنهما من أعمال ومهمات، لكان اسمه في صدارة كتاب الأغنية كمًّا وكيفًا، لاسيما وهو يتمتع بحس فني رفيع وأذن مرهفة وذاكرة تحفظ الألوان القديمة والمخزون السعودي الثري من الجمل الموسيقية والمقامات والأوزان، ويحضرني في هذا الجانب لقاء جمعني قبل شهرين مع الملحن الدكتور عبدالرب إدريس، الذي كلف من وزارة الثقافة بالعمل على تأسيس فرقة موسيقية سعودية ومعهد متخصص، كما أنه مكلف كذلك -كما عرفت- ومهتم بجمع الفلكلورات السعودية والألوان التي تزخر بها المملكة، وقد طلب مني الترتيب مع الأستاذ عبدالله الجارالله -تحديدًا- للاستعانة به في هذا المشروع الكبير، وتواصلنا مع ابنه الشاعر الجميل والراقي سامي الجارالله، الذي طلب منا تأجيل الزيارة حتى تتحسن الحالة الصحية لوالده، لكن القدر كان أسرع، ورحل العزيز النبيل أبو هاني عن دنيانا، بعد مشوار حافل ومسيرة كبيرة في خدمة وطنه ومجتمعه بكل إخلاص. رحمك الله أستاذنا الكبير الكريم الأديب عبدالله الجارالله وأجزل عليك عفوه ورضوانه. كنت تستحق وقفة تقدير تليق بك وبما قدمت، لكننا مع الأسف الشديد قصرنا في حقك، لتموت أمامنا مرتين!!
يساورني هذا الشعور عند فقد كل عزيز كانت له مكانة الصدر والمقام الرفيع في وسطنا، وفي مجتمعنا!
في الأيام الماضية، فجعنا بوفاة الأستاذ «عبدالله العلي الجارالله»، وهو الاسم الكبير والتاريخ الجميل في قوافل الثقافة والفنون والشعر والأدب، الذي قدم لوطنه ولمجتمعه الكثير من العطاءات المخلصة على مدى نحو 40 عامًا؛ ولأنني شرفت بالعمل معه عن قرب في مرحلة أثيرة من هذا المشوار، لاسيما ما يتعلق بمهرجان الجنادرية الذي أطلقه الحرس الوطني على مدى 35 عامًا. لهذا يجدر القول: إنَّ «أبا هاني» كان صاحب البصمات الفنية الأولى في هذا المهرجان، حين رُشح له من قِبل الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز يرحمه الله، الرئيس العام لرعاية الشباب -آنذاك- الذي كان يشغل أيضًا منصب نائب رئيس اللجنة العليا للمهرجان، أي نائبًا للأمير بدر بن عبدالعزيز، رحمهما الله.
والرئاسة العامة لرعاية الشباب هي إحدى الجهات الحكومية الرئيسة التي تشارك في تنظيم المهرجان، ممثلة بجمعية الثقافة والفنون وإدارة التراث والفنون الشعبية، حينها كان «أبو هاني» نائبًا لرئيس الجمعية ومديرًا لإدارة التراث، فكان وجوده فاعلًا ومؤثرًا في نشاطات المهرجان وفعالياته المختلفة، لاسيما أن مهرجان الجنادرية يقوم ويرتكز كثيرًا -تحديدًا في دوراته الأولى- على هذين الجانبين: الفنون الشعبية والتراث بكل مكوناته المادية، وغير المادية من فنون وفلكلورات وحِرف وغيرها.
تبدو رؤية «عبدالله الجارالله» وعشقه لوطنه وتراثه، من روحه التي تبعث الفن والجمال، تلك الروح الحاضرة في كل ما يقوم به أو يبادر إلى تقديمه، بل إنني عندما أتأمل ما وصلت إليه الجوانب الفنية بالمهرجان في دوراته المتأخرة، أدرك كم كان «أبو هاني» يمتلك نظرة استشراف مستقبلية لما سيصل إليه هذا المكتسب الحضاري الكبير، فقد كُلَّف رئيسًا لأول لجنة فنية في تاريخ الجنادرية عام 1406هـ/1986م، فاقترح على المسؤولين -آنذاك- تنظيم عدد من الفعاليات الاحتفالية التي تقدم في اليوم الأول للمهرجان، من بينها المسيرة الفنية الشعبية التي تمثل مختلف مناطق المملكة، ورفع هذا الاقتراح للملك عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس الحرس الوطني -آنذاك- رحمه الله، وقدم أبو هاني له العرض وشرح الفكرة، التي وجدت الموافقة والدعم، لتمرَّ هذه المسيرة أمام راعي حفل الافتتاح الملك فهد بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ في مضمار سباق الهجن ومقابل المنصة الملكية، متسمة بالتنوع بين مشاركاتٍ على سيارات مكشوفة تغطى بديكورات تراثية منوعة، تعبّر عن جميع مناطق المملكة، وبين مشاركاتٍ راجلة لفرق شعبية بمشاركة الهجن والخيل، ويصبح هذا الشكل الاحتفالي تقليدًا سنويًا لأربع دورات متتالية، قبل أن يحل مكانها الأوبريت بدءًا من المهرجان السادس.
استمر «عبدالله الجارالله» يقدم في كل عام مشاريع فنية جديدة حتى جاء المهرجان الرابع عام 1408هـ، عندما قدم أول أوبريت في تاريخ مهرجانات الجنادرية، وهو أوبريت (مملكتنا دام عزك) كلمات وألحان الشاعر والملحن حامد الحامد - مكتشف الفنان راشد الماجد -، وهذا العمل لم يُعدُّ في الأصل للجنادرية، بل كان مُعدًا لزيارة كان سيقوم بها الملك فهد بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ للمنطقة الشرقية، وكلف حامد الحامد - لكونه أحد أبناء المنطقة الشرقية ـ بالعمل، فكتبه ولحنه، وأدَّاه الفنان راشد الماجد؛ ولأنَّ الزيارة قد أُجلت انتهز «عبدالله الجارالله» هذه الفرصة، وقدم العمل في افتتاح المهرجان مصحوبًا بلوحات ورقصات شعبية تمثل مختلف مناطق المملكة، مع أنه لم يتمكن من الوصول للفنان الواعد -آنذاك- راشد الماجد ليشارك في الحفل، فقد كان وقتئذٍ خارج المملكة ما تعذر معه الوصول إليه؛ لكنه كان حاضرًا بصوته فقط.
وفي العام ذاته نظَّم «الجارالله» الحفل الختامي للمهرجان لأول مرة، بمشاركة الفنان الكبير محمد عبده الذي اقتصرت مشاركته على الأغاني الوطنية، حيث اختتم الحفل برائعته الشهيرة والجديدة في ذلك الوقت (فوق هام السحب)، وشارك معه في الحفل الفنان عبدالله رشاد، وبمبادرة واقتراح من «أبي هاني» يرحمه الله، تمت دعوة نادي الاتفاق ليكرم من قبل راعي الحفل الأمير بدر بن عبدالعزيز نائب رئيس الحرس الوطني رئيس اللجنة العليا للمهرجان، لحصوله على كأس البطولة العربية لكرة القدم، ولاقت تلك المبادرة أصداءً شعبية واسعة.
في العام الذي يليه فاجأتْ الجنادريةُ جمهورها بأول عمل من إنتاجها، فكان مولد النشيد الوطني الشهير (عزّ الوطن) كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن ولحن وأداء الفنان الكبير طلال مداح، وتولى «أبو هاني» الإشراف على حفل الافتتاح وتنظيم مشاركة الفرق الشعبية، ولحرصه على تكامل الرؤية البصرية، خصص مكانًا للفرقة الموسيقية ضمن مكونات المسرح لترافق الفنان طلال مداح، ما أعطى العمل روحًا وتفاعلًا كبيرًا عند الحضور وعند المشاهدين عبر التلفزيون، وهو ما كان يرمي إليه «أبو هاني»، مع أن النشيد كان يبث مسجلًا بنظام (البلاي باك)..
توالت أعمال اللجنة الفنية التي كان يقودها «الجارالله» بكل اقتدار وتطورت في مختلف المناشط الفنية، حيث نُظَّم في العام ذاته حفل غنائي في ختام فعاليات المهرجان بحضور ورعاية الأمير بدر بن عبدالعزيز، يرحمه الله، وكان نجمه الأول الفنان الكبير طلال مداح، وبمشاركة هي الأولى للفنان عبدالمجيد عبدالله في المهرجان. وفي تلك الليلة كان المطر يهطل بغزارة، وهو ما تسبب بسقوط «أبي هاني» على خشية المسرح (المكشوف) أثناء آخر بروفة قبل الحفل بساعة، لتكسر ساقه أثناء الحفل.
التحول الكبير الذي ظهر من خلاله «أبو هاني» مخرجًا مسرحيًا متميزًا كان عام 1410هـ في حفل افتتاح المهرجان السادس الذي قدم فيه الأوبريت الشهير «مولد أمة» وهو أول أوبريت ينتجه الحرس الوطني للجنادرية من كلمات الأمير سعود بن عبدالله، وأداء العملاقين طلال مداح ومحمد عبده، وهو العمل الذي كان نقطة التحول الأولى في مسار الأعمال الوطنية في المهرجان، وقد قُدّم في المناسبة ذاتها النشيد الوطني الشهير «الله البادي» كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن. في هذا الأوبريت عمل الراحلان عبدالله الجارالله ومحمد شفيق على تصميم رقصات تعبيرية في كل لوحة، تنسجم مع النص ومع الإيقاع واللون الفلكلوري الذي ركب عليه اللحن، وهو كذلك أول أوبريت تفتتح به ساحة العروض التي أنشئت خصيصًا لحفل الافتتاح في ذلك العام، قبل أن تغطى لاحقًا وتسمى قاعة العروض، التي احتضنت جميع أوبريتات الجنادرية.
وفي الأعوام التالية واصل أبو هاني إبراز الجنادرية فنيًا، سواءً من خلال أوبريتات حفل الافتتاح وما صاحبها من استعراضات، أو من خلال البرامج التي كانت تعد بشكل يومي وتقدم مختلف الألوان من كافة مناطق المملكة، وفي المهرجان التاسع عام 1414هـ تجلى الجارالله مع رفيق دربه وصديقه المقرب الفنان سراج عمر ـ يرحمهما الله ـ في أوبريت «التوحيد»، من كلمات الأمير خالد الفيصل، الذي اقترح عليه أبو هاني توسيع دائرة الفنانين المشاركين، لتشمل -إضافة إلى طلال مداح ومحمد عبده- كلًا من عبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وعبدالله رشاد، وفي هذا العام تم إدخال الألعاب النارية وعروض الليزر، وتم ـ ولأول مرة ـ بناء مسرح في قاعة العروض، قام أبو هاني بتصميمه، ونفذته شركة فرنسية، ليصل الإبهار في الإخراج المسرحي ذلك العام إلى مستوى متقدم.
واستمر الجارالله في السنوات اللاحقة يقدم عطاءه بشكل متميز، وتكرس جهده في تنظيم برامج الفنون الشعبية وعروضها اليومية، كما تبنى -بالمشاركة مع الفنان سراج عمر- مشروع توثيق الفلكلورات والرقصات الشعبية السعودية، بالتعاون مع معهد العالم العربي ودار ثقافات العالم في باريس، في الوقت الذي تم تكليف المخرج الأستاذ فطيس بقنة بالتصميم والإخراج المسرحي لأوبريتات الدورات التالية.
قاد «أبو هاني» بكل اقتدار وبكل الحب دفة العمل الفني للجنادرية سنوات طويلة، لم يجرح أحدًا أو يزعج أحدًا.. نبيلًا في عمله مقدّرًا ومحبوبًا من الجميع؛ مسؤولين ومشاركين، خاصةً أعضاء الفرق الشعبية الذين ربطت بينه وبينهم علاقة لها طابعها الخاص، وتجسد جزء كبير منها عبر المنتخب السعودي الذي كان يشكله «الجارالله» من مختلف مناطق المملكة للمشاركة في الأسابيع الثقافية السعودية خارج المملكة، فقد كانت الفرقة الفنية السعودية أو منتخب الفنون الشعبية -الذي يؤدي جميع الرقصات- حاضرًا بقوة محققًا رسالة ثقافية وحضارية رفيعة. ويحسب لـ«أبي هاني» جهده الكبير ودوره الرئيس في إطار الفكرة العظيمة التي أطلقها وتبناها منتصف الثمانينات الميلادية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أمير منطقة الرياض حينها- حفظه الله ورعاه، المتمثلة في «معرض الرياض بين الأمس واليوم» الذي تحول إلى «معرض المملكة بين الأمس واليوم»، وكان أبو هاني مسؤولًا عن جناح التراث الشعبي والفنون الشعبية، وكان المعرض رسالةً حضارية وثقافية في غاية الأهمية، وتنقل بين عدة دول شقيقة وصديقة، من بينها مصر وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا. وللعزيز الراحل «أبي هاني» وقفات معي شخصيًا، بل إنَّ أياديه البيضاء لا تنسى يرحمه الله، دعمًا وتوجيهًا، فهو ربما وجد في شخصي ما يمكن تبنيه والدفع به للساحة الفنية والإعلامية، حيث كلفني بتقديم الحفلات والنشاطات الفنية أمام آلاف الجماهير يوميًا طوال الدورات الأولى للمهرجان؛ ما أكسبني المزيد من الثقة وأتاح لي الفرص تباعًا للوصول إلى مكانة كانت تتصاعد في كل عام، سواءً داخل الجنادرية أو في الوسط الإعلامي والفني بشكل عام.
كما أنَّ هذه الشخصية الاستثنائية كانت لها مواقف إنسانية مع كل من عَمِل معها، فالإخوة الأعزاء يوسف الدريس ومحمد الميمان وسعود العواد وعلي الخضيري وخالد الفهيد عملوا تحت إدارته، ويتذكرون جليًا العديد من المواقف، ومنها - على سبيل المثال - أنَّ مكافأته المالية التي كانت تصرف له نهاية كل مهرجان يقوم بتوزيعها على البسطاء والمعوزين، سواء من أعضاء اللجنة الفنية أو من الفرق الشعبية.
ولا يمكن أن أتجاوز في هذا الصدد مشاركة «أبي هاني» تجاوبًا مع دعوتي له بالإشراف على الحفل الفني أثناء زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله- لمحافظة بلقرن عام 1419هـ، وكان وقتها وليًا للعهد، ومشاركته في حفل محافظة بلقرن بالمفتاحة برعاية الأمير خالد الفيصل عام 1417هـ، وقد ظهر الحفلان بمظهر متميز مختلفٍ عن جميع الاحتفالات التي قدمتها محافظات منطقة عسير في هاتين المناسبتين، وهو ما كان سببًا مباشرًا في الثناء الكبير الذي تلقاه «أبا هاني» من الأمير خالد الفيصل.
ولأن الإبداع في شخصية عبدالله الجارالله لا يتجزأ، فقد امتلك كذلك ناصية الكلمة المجنحة، شاعراً وكاتب أغنية على مستوى رفيع من العذوبة والمقدرة والتمكن، وله أعمال غنائية جميلة لا تغادر الذاكرة ومنها على سبيل المثال مع طلال مداح «يا ساهر الليل هيا» لحن سامي إحسان، و«أهلًا بكم أحبابنا» لحن سراج عمر وأداء محمد عبده، و«جاي في ميعادك» لحن محمد شفيق وأداء عبدالمجيد عبدالله، و«توّ الليل يا ساري» لحن وأداء علي عبدالكريم، وغيرها الكثير من الأعمال الجميلة والمميزة مع مطربين ومطربات كثر، وبظني لولا ارتباط عبدالله الجارالله بأعماله الرسمية في جمعية الثقافة والفنون، وفي إدارة التراث برعاية الشباب وما يتفرع عنهما من أعمال ومهمات، لكان اسمه في صدارة كتاب الأغنية كمًّا وكيفًا، لاسيما وهو يتمتع بحس فني رفيع وأذن مرهفة وذاكرة تحفظ الألوان القديمة والمخزون السعودي الثري من الجمل الموسيقية والمقامات والأوزان، ويحضرني في هذا الجانب لقاء جمعني قبل شهرين مع الملحن الدكتور عبدالرب إدريس، الذي كلف من وزارة الثقافة بالعمل على تأسيس فرقة موسيقية سعودية ومعهد متخصص، كما أنه مكلف كذلك -كما عرفت- ومهتم بجمع الفلكلورات السعودية والألوان التي تزخر بها المملكة، وقد طلب مني الترتيب مع الأستاذ عبدالله الجارالله -تحديدًا- للاستعانة به في هذا المشروع الكبير، وتواصلنا مع ابنه الشاعر الجميل والراقي سامي الجارالله، الذي طلب منا تأجيل الزيارة حتى تتحسن الحالة الصحية لوالده، لكن القدر كان أسرع، ورحل العزيز النبيل أبو هاني عن دنيانا، بعد مشوار حافل ومسيرة كبيرة في خدمة وطنه ومجتمعه بكل إخلاص. رحمك الله أستاذنا الكبير الكريم الأديب عبدالله الجارالله وأجزل عليك عفوه ورضوانه. كنت تستحق وقفة تقدير تليق بك وبما قدمت، لكننا مع الأسف الشديد قصرنا في حقك، لتموت أمامنا مرتين!!