يجمع المترجم الطبيب السوري ثائر ديب بين العِلم والأدب، وبفضل مهارته في الترجمة نال ثقة جهات عربية؛ لنقل المعارف، فهو عضو الهيئة الاستشارية لسلسلة «ترجمان» وعضو الهيئة الاستشارية لمشروع «نقل المعارف» الذي شرعت به وزارة الثقافة البحرينية بالتعاون مع اليونسكو، وعضو جمعية الترجمة في اتحاد الكتاب العرب، وعضو هيئة تحرير مجلة «الآداب العالمية» وكاتب في الصحافة الثقافية والفكرية العربية، وله كثير من الدراسات والأبحاث المنشورة في الدوريات العربية، وحرر عددًا من المواد في «الموسوعة العربية» التي تصدرها الهيئة العامة للموسوعة العربية دمشق. وأدار منذ عام 2012 تحرير فصلية «تبيّن» المحكّمة المعنية بالدراسات الفكرية والثقافية، وعمل مديرًا للترجمة في (مديرية التأليف والترجمة السورية)، ورأس تحرير مجلة «جسور».. وهنا نناقش جانبًا من الواقع الثقافي وإشكالية الترجمة، فإلى نص الحوار:
• تمتد ترجماتك أعوامًا، وتشمل كتبًا أجنبية أساسية، هل نحن بصدد مشروع ترجمي، وليس مجرد ترجمات متفرقة؟
•• ترجمت خلال مسيرتي إلى الآن نحو 60 كتابًا ومئات المقالات. حين أتأمّل ذلك كلّه أجد أنَّ عددًا قليلًا فحسب هو الذي اختير لي ولم أختره بنفسي. فإذا ما تعارض بعض هذا القليل مع قناعاتي كنتُ أنبّه إلى ذلك في تقديم الترجمة على نحو واضح وصريح. ويبدو لي أنَّ ما يجمع الكتلة الساحقة من ترجماتي يتعدّى ما «يروق» لي أن أقرأه وما «أحبّ» للقارئ العربي أن يطّلع عليه؛ أي يتعدّى ميلي الفردي وتفضيلاتي الشخصية، إلى ما أرى أنّ الثقافة العربية والبحث العلمي العربي يحتاجان إليه من نظريات ومناهج كبرى وأعمال فردية أساسية، وقبل ذلك كلّه ومعه وفيه، ما يحتاجانه من فكر نقدي يشيع العلم ولا يركن إلى ما هو قائم ومستقر، بل يشجع على التطور والتغيير. هذا هو الإطار الذي تندرج فيه ترجمتي أعمالًا مثل «تقديم الذات في الحياة اليومية» لإرفنغ غوفمان، و«في النظرية: طبقات، أمم، «آداب» لإعجاز أحمد، و«التاريخ عند نهاية التاريخ العالمي ومقالات أخرى» لراناجيت غها، و«بؤس البنيوية: الأدب والنظرية البنيوية» و«نزع مادية كارل ماركس: الأدب والنظرية الماركسية» لليونارد جاكسون، و«النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت» لآلان هاو، و«الجماعات المُتَخَيَّلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها»، لبندكت أندرسون، و«علامات أُخِذَت على أنها أعاجيب: سوسيولوجيا الأشكال الأدبية» لفرانكو موريتي، و«الترجمة والإمبراطورية» لدوغلاس روبنسون، و«موقع الثقافة» لهومي ك. بابا، و«تأملات في المنفى» لإدوارد سعيد، و«نظرية الأدب» و«أوهام ما بعد الحداثة» و«فكرة الثقافة» لتيري إيغلتون، وسواها. لا بدّ أنَّ هذه العناوين وأصحابها تشير إلى ما يتعدّى الترجمات المتفرقة صوب مشروع أو خطة ما. يبقى في عملي ثمة جانبان آخران وبعض المتفرقات. ويشترك هذان الجانبان وتلك المتفرقات مع ما سبق في الروحيّة على الرغم من الاختلاف في الموضوع. يتعلق الجانب الأول بدراسات فكرية وأعمال أدبية تتناول الأديان والمذاهب تناولًا علميًا وإبداعيًا محترمًا (كما في مشاركتي ترجمة المجلدين الأول والثاني من «موسوعة تاريخ الأديان» التي حررها فراس السوّاح، وترجمتي كتاب «إله التوراة: سيرة» لجاك مايلز، و«الحياة اليومية زمن العهد الجديد» لجيمس. و. إرماتنغر، و«ثلاثة وعشرون عامًا: دراسة في السيرة النبوية المحمدية» لعلي الدشتي، و«ثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر» لأسامة مقدسي، و«أصول الصفويين: تشيّع وتصوّف وغلوّ» لميشيل مزاوي، و«التصوف البوذي والتحليل النفسي» لسوزوكي، و«فرويد وبوذا» لإريك فروم، ورواية «إنجيل الابن» لنورمان ميلر). ويتعلّق الجانب الثاني بعلم النفس، لا سيما التحليل النفسي الذي استهواني ولا يزال (علاوةً على ما سبق ذكره في هذا المجال، ثمة «سيكولوجيا العلاقات الجنسية» لتيودور رايك، و«الحريم الفرويدي» لبول روزن، و«رضّة الولادة» لأوتو رانك، و«العلاج النفسي بين الشرق والغرب»، لآلن واطس). وبين المتفرقات أعتز بما ترجمته للأطفال وما ترجمته من أعمال أدبية، وبعديد الكتب الأخرى.
• متى بدأ مشروعك؟
•• صدرت ترجمتي الأولى في عام 1991 عن سلسلة «من المسرح العالمي» الكويتية الشهيرة، كنت قد ترجمت تلك المسرحية وأرسلتها إلى السلسلة في عام 1987، ثم ما لبثت أن اعتُقلت لأسباب سياسية بعد أيام. وفي المعتقل ترجمتُ عددًا من الأعمال («نشوء الرواية» لإيان واط، و«سيكولوجيا العلاقات الجنسية» لتيودور رايك، وسواهما). وتمكنت من تهريبها ثم نشرها بعد خروجي. يمكن القول، إذن، إنَّ مسيرتي الترجمية بدأت في عام 1987 ولا تزال متواصلة إلى الآن.
• لمن تدين بالفضل في توجيهك لهذه الوجهة؟
•• أنا طبيب في الأصل، وكاتب ومترجم متفرّغ الآن، وقبل الطبيب والمترجم، كنت وما أزال وسأبقى قارئًا. كلّ ما، وكلّ من، وجّهني وجهة القراءة، أدين له بالفضل في توجيهي وجهة الترجمة والكتابة. ولك هنا أن تذكر الأسرة ومكتبتها، الأصدقاء، العمل السياسي والثقافي، إلخ. غير أنّني أشرتُ غير مرّة إلى فضل «الكرسي الألماني» عليّ. هذا الكرسي هو إحدى وسائل التعذيب الوحشية التي تترك أطرافك مشلولة لأشهر ولا تزول آثارها تمامًا بعد ذلك. ربما كان هذا الكرسي خير معلّم للترجمة. فعلى اعتبار أنّه ألمانيّ ويستخدم في سياق عربيّ، نحن، إذن، حيال فعل ترجمي بامتياز. ما أريد قوله هو أن بمقدورك أن تحوّل السجن والتعذيب إلى فعل مقاومة. وأظنني حوّلته إلى ذلك فوجّهني بدوره تلك الوجهة. لقد قرأت هناك كثيرًا، وخرجت ومعي أربع مخطوطات. ولم أترك للجدران أن تتغلّب على روحي. أمّا بعد الألمان وكراسيهم، فثمّة أشخاص فعلوا الكثير كي أتثبّت في خياري مغادرة الطبّ وامتهان الترجمة، أبرز هؤلاء الأستاذ انطون مقدسي، روح مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية، والأستاذ محمد كامل الخطيب، أحد خلفاء مقدسي والشخص الذي وقف وراء تحويل المديرية إلى هيئة عامة للكتاب، والدكتور جابر عصفور، عقل «المشروع القومي للترجمة» في مصر، والدكتور عزمي بشارة، مطلق «مشروع ترجمان» في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والدكتور الطاهر لبيب، رأس مشروعي «المنظمة العربية للترجمة» و«نقل المعارف»، وآخرون كُثر تتفاوت أفضالهم وتتباين.
• ماذا تعني لك الترجمة؟ وكيف ترد على من يرى أنَّ الترجمة اشتغال على شغل الغير، وليست شغلًا خاصًا؟
•• الترجمة إلى العربية، اليوم على الأقلّ، أهمّ ما يحصل في الثقافة العربية، لا يقلل من ذلك قطّ كونها تشتغل على شغل الغير، ولن أدخل هنا في الجدال الذي بات مكرورًا حول ثانوية عمل المترجم، وما يمكن إيراده من ردود مفحمة عليه، لا سيما مقالة فالتر بنيامين «مهمة المترجم» التي تضع يدها على ما تهبه الترجمة للأصل المترجَم من حيوات أخرى مختلفة تمامًا. ولا أريد أيضًا أن أدخل في نقاش حول اقتران الترجمة بكل محاولة للنهضة وكونها المدخل والوسيلة والتمهيد لكلّ تأليف جدير بهذا الاسم. دع عنك ما كشفته دراسات الترجمة من أنَّ الترجمة سيرورة جارية في اللغة الواحدة ذاتها، بل وفي النصّ المؤلَّف الواحد ذاته. لم تعد الترجمة اليوم مجرد مسألة تقنية يمارسها شخص يضع أمامه بعض المعاجم، بل باتت نقطة التقاء ثقافية ومعرفية كبرى.
• تنشر ترجماتك جهات ومؤسسات مرموقة، إلى أيّ حدّ أنت ممتثل لهذه الجهات؟ وكيف تستطيع أن تفرض رؤيتك وخياراتك مترجمًا؟
•• ثمة أمور عدّة لا بد من إيرادها في الإجابة عن هذا السؤال: أولها، أنَّ اختيارات المترجم الفرد ورؤيته، حتى خارج تعامله مع أي مؤسسة، ليست اعتباطية ولا رهن المصادفة، إذ يتعلّق «الاختيار» هنا بمجمل تكوين المترجم الفرد الثقافي والنفسي، ووضعه الاجتماعي، وثقافته، لا بمجرد «حريته». وثانيها، أنَّ هنالك بالفعل، ومن خلال المؤسسة خصوصًا، تفضيلات الثقافة السائدة ومصالحها وتحيّزاتها وأيديولوجياتها، فضلًا عن العلاقة بين ثقافتين على الأقلّ، المُترجَم منها والمترجَم إليها، وما يحكم هذه العلاقة من موازين قوى لغوية واقتصادية وسياسية بل وعسكرية. وعادةً ما يتكشّف ذلك كلّه على نحو خاص في عمليات التكليف بالترجمة التي توكلها جهات النشر المختلفة إلى المترجمين، إذ تسود بلا منازع ترجمة الروايات الخفيفة والكتب السياسية المرتبطة بالظواهر الآنية وأشياء أدنى بكثير؛ أي ترجمة الكتب الأكثر رواجًا (best sellers) لا ترجمة الكتب التي تقضي الدراسة العلمية المنهجية بأنّ الثقافة والمجتمع يحتاجانها أشدّ الاحتياج. لكنّ الكلام على ثقافة سائدة ومصالحها يشير بالتضاد وبالضرورة إلى ثقافةٍ مقاومةٍ لم يَخْلُ منها مجتمعٌ يومًا. وإذا ما كانت الترجمة مرتبطة بالقوة والسلطة؛ فإنها أيضًا قناة مهمّة للمقاومة والتحرر. وأحسب أنّ ترجماتي، في غالبيتها الساحقة، تندرج في هذا الإطار الأخير. ومع أنّ المقام لا يتّسع لتناولٍ مفصَّل للكيفية التي أمكن بها التوفيق بين قناعتي وسوق النشر، والمصاعب الكأداء التي اعترت ذلك، فإنّي لن أمرّ على هذا سريعًا من دون أن أقول إنَّ الصبر ووعي المرء قضيته، في تضافرهما مع حسن أدائه وتضامنه مع الذين يشبهونه، كفيلان بفتح ذلك الحيّز الخاص بالترجمة المقاوِمة النقدية في تلك السوق. وثالثها، أنَّ الترجمات المهمّة وذات الأثر غالبًا ما كانت مرتبطة في تواريخ الثقافات، ومنها تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، بمشاريع كبرى، مثل الاستعمار والنهضة والاستقلال والتنمية إلخ، وتاليًا بمؤسسات تنهض بمثل هذه المشاريع. ولقد أمكن الجمع في تاريخنا العربي مرّات بين خيارات المترجم الفرد وتفضيلاته وضرورات الثقافة ومؤسساتها، بين وعي الفرد العلمي النقدي ووعي المؤسسة والمشروع الاستراتيجي المستدام. لا ينتقص من ذلك قصر أعمار المشاريع التي لمعت ولم تلبث أن خبت. بل وتؤكّد عليه بعض النقاط المضيئة التي لا تزال كالمشروع القومي للترجمة في مصر، و«ترجمان» في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر، والمنظمة العربية للترجمة في بيروت، ووزارة الثقافة في سورية، ومشروع كلمة في أبوظبي، ومؤسسة عالم الفكر في الكويت، ومشروع «نقل المعارف» في البحرين وسواها. ها هنا، بالضبط، في الربط المتكافئ بين هذه الأمور الثلاثة، وجدت نفسي، فلم يكن ثمة مجال يُذكَر للفرض ولا للامتثال.
• ما حجم استجابة المشهد الثقافي العربي لما يترجم إلى العربية، وبماذا ترصد التفاعل؟
•• لا أزعم أنَّ لدي معطيات، ولو حتى تقريبية، لحجم الاستجابة التي يشير إليها السؤال. ولا أعلم إن كانت لدى أحد معطيات عن جمهور القرّاء، والحجم الذي تشغله الترجمات من المقروء، لكن ثمة مؤشرات تدفع لأن نقسم جمهور القرّاء (بما فيه قرّاء الترجمة) إلى قسمين: القرّاء العامون من جهة، والدارسون والباحثون من جهة أخرى. ومع أنَّ بين القرّاء العامين كثيرًا ممن يتمتعون بالثقافة الرفيعة والحس النقدي الحاد، والاختيار الصائب، إلّا أنَّ الغالبية الساحقة من جمهور القراءة العام هم من مستهلكي «الأكثر مبيعًا»، لا سيما الروايات. يشير إلى ذلك حجم المطبوع والموزَّع من هذه الأعمال. أمّا بالنسبة إلى الدّارسين والباحثين فلعلّنا نستطيع أن نرصد استجاباتهم وخياراتهم وتفضيلاتهم وتفاعلهم عمومًا مع الترجمات من خلال حجم استشهاداتهم واقتباساتهم من ترجمات معينة وإحالاتهم إليها أكثر من سواها. وهنا يسعدني أن أعبّر عن رضى كبير على المستوى الشخصي، مشفوع بامتنان كبير أيضًا لهؤلاء القرّاء الذين يجعلون لعملي طعمًا ومعنى.
• ما سبب اهتمام القارئ العربي بأسماء روائية شعبية، من اليابان، ومن البرازيل ومن بلدان عدة، على حساب أسماء مهمة وراسخة وتشكّل لحظات أساسية في الرواية العالمية؟
•• لا بدّ أنك تشير هنا إلى أمثال (باولو كويلهو) و(هاروكي موراكامي)، وربما (إيزابيل الليندي) و(عتيق رحيمي) و(أليف شفق) و(خالد حسيني) و(أمين معلوف) وأضرابهم. والجواب عن سؤالك يجب اقتفاؤه في «سوقَ التبادل الثقافيّ العالميّة» أو«سوقَ الترجمة العالميّة»، هذه السوق التي تحْكمها تبايناتُ القوّة بين اللغات والثقافات، وتسيطر فيها «الكتبُ الأكثر رواجًا» التي عادةً ما تكرِّس قيمَ الثقافة السائدة عالميًّا، فكريًّا وفنّيًّا؛ وغالبًا ما تكون رومانسيات وروايات مثيرة؛ أي من ذلك النوع من الكتابة التي تشجّع القارئ على التماهي الخيالي بها بدلًا من أن تُشجّعه على خلق مسافة نقدية تفصله عنها، الأمر الذي يسهم في خلق جمهور تُمثّل له الكتب موضوعات للتسلية السهلة الخالية من المعرفة. فإذا ما كانت من بلدان أخرى، سواء مكتوبة باللغات المسيطرة أم مترجمة إليها، غلب أن تكون مكتوبة، في شكلها ومضمونها، بما يرضي ذائقة المؤسسة السائدة عالميًا التي عادة ما تكون استشراقية الهوى تروقها الإكزوتيكا والغرائبية والتركيز المفرط على الخصوصيات: عطر الشرق، الختان، الحجاب، الدكتاتوريات التي لا تُقاوَم، الطائفية، تقريع البلدان الأصلية، الصوفية، إلخ. وهذه المؤسّسة هي مؤسسة للإدناء والإقصاء و(سوء) الاختيار عالميّة النطاق، تضمّ ناشرين ومموِّلين وجوائز ودوريّات وبرامج تسويق وإعلام ومراكز ثقافيّة وورشات تدريب ومنظّمات حكوميّة وغير حكوميّة وشللًا وعصاباتٍ ثقافيّةً ممتدّة (من كتّاب ومترجمين ونقّاد محليين ومهاجرين وأجانب) وشخصياتٍ تعمل كعقد اتصال، بسبب نفوذ ما، مادي أو معنوي، وتُعتَمَد «مَراجعَ» في اختيار مَن يمتثلون لمعايير المؤسّسة المذكورة التي تكاد تغيب عنها القيمُ الأدبيّةُ الحقّة، لا سيما قيمُ التمرّد الأدبيّ، بما يعنيه من ابتداع أشكالٍ جديدةٍ للقول وسبْرِ العالم.
• هل نال المترجم العربي حقوقه، أم لا يزال يعاني ظلم المؤسسات؟
•• على الرغم من وجود بعض المترجمين المتميزين الذين يفرضون بعض شروطهم، وعلى الرغم من وجود مؤسسات (نادرة) تحترم جهد المترجمين وتثيب جدارتهم، لا يزال المترجم مظلومًا إلى أبعد الحدود ماديًا. يزيد في هذا الأمر دخول كثيرين على خط الترجمة بأي ثمن لنتاجهم الرديء، وعدم تضامن المترجمين بعضهم مع بعض بما يضمن شيئًا على الأقل من حقوقهم.
• لماذا تبدأ مشاريع الترجمة في الوطن العربي قوية ثم سرعان ما يخفت وهجها، هل هناك شللية في داخلها تتسبب في هذا الأداء المتذبذب؟
•• يمكنني أن أشير مباشرة إلى ثلاثة عوامل تقف وراء هذا التقلب والتذبذب، أبعد من الشللية والروابط الشخصية؛ أولها: هو ارتباط أغلب هذه المشاريع بأفراد متميزين لا بمؤسسة متجددة ومستدامة، فإذا ما تنحّى الفرد المتميّز لهذا السبب أو ذاك تنحّى معه المشروع وتدهور. وثانيها: هو اعتبار الحكّام مثل هذه المشاريع نوعًا من الزينة الزائدة التي يُضَحَّى بها أول ما يُضحى عند الملمّات. وثالثها: هو ارتباط المشاريع الحالية وتمويلها بأنظمةٍ للدولة الوطنية لم يبق فيها الكثير مما هو دولة ولا الكثير مما هو وطني. يُضاف إلى ذلك أنَّ وفرة التمويل في بعض الحالات لا توظَّف لخلق بنى مستدامة ومتجددة رفيعة المعايير يُعاد إنتاجها. بعد هذا قل ما تشاء عن الشللية والمحسوبيات والبطء القاتل وسوء النوعية في بعض الأحيان، إلخ.
• بماذا تعلّق على المطالبة بضرورة اعتماد استراتيجية للترجمة وتنسيق بين الجهات والمؤسسات التي تعنى بها، للخروج من العشوائية والجهود المشتتة؟
•• هذا مطلب ضروري وملحّ، بل وبديهي. ليس من أجل الخروج من العشوائية والجهود المشتتة فحسب، بل أيضًا من أجل التخطيط والأداء والإنتاج الجدير بهذا الاسم.
• من النقاد والمترجمين من يرون أنهم عرّفوا العرب بتيارات ودراسات ما كان للعرب أن يعرفوها لولا جهودهم، ويؤكّد صبحي حديدي، مثلًا، أنه أول من عرّف العرب بدراسات ما بعد الكولونيالية، وذلك في أواسط السبعينيات الميلادية من القرن المنصرم، ومن خلال مجلة الكرمل، إلى أي حد تعكس هذا الريادة اشتغال حقيقي من خلال كتابة أصيلة من لدن الناقد والمترجم وليس مجرد نقولات (ولن نقول سرقات) عن أصل بقي غائبًا؟
•• لا بد أنّ المقصود هو تسعينيات القرن العشرين وليس سبعينياته. فمجلة «الكرمل» لم تكن موجودة في السبعينيات. ولعلّ «الدراسات ما بعد الكولونيالية» ذاتها لم تكن قد وُجِدت بعد، اللهم إلا بالقوة وليس بالفعل. ما أتذكره أنَّ مقالة صبحي حديدي في «الكرمل»، في عام 1993، عن الخطاب ما بعد الكولونيالي، وهي مقالة بالعربية مبكرة بالفعل ولست متأكدًا إن كانت الأولى، ليست له في شيء، بل هي مجرد ترجمة غير جيدة ولصق ركيك لمقاطع وفقرات كاملة لسواه، لا سيما مدخل كتاب بيل أشكروفت وآخرين «الإمبراطورية تردّ بالكتابة» الذي لم يكن قد تُرجم إلى العربية في حينه، مع إضافة قائمة مراجع في نهاية المقالة من دون أي توثيق يعين حدود الاقتباس وموضعه. وهذا أمر اعتاد حديدي على فعله في تلك الأيام، كما في مقالةٍ عن ديريك والكوت نسبها إلى نفسه في عدد أسبق من «الكرمل» وهي مجرد سطو على مقاطع كاملة لآخرين، لا سيما هومي بابا، ولصقها معًا من دون أي مراجع هذه المرّة. والحال إنَّ هذا السطو يفضي لنا، للمرة المليون، بأشياء كثيرة عن طبيعة أولئك الذين يحتاجون التأكيد على أولويتهم وأسبقيتهم أشد الاحتياج.
• في ورقة قدمتَها في ندوة عن الترجمة، تعرضت لمترجِمَين ترجما إدوارد سعيد، ومارسا جناية عليه، كلّ من زاويته، هما كمال أبو ديب الذي ترجم «الاستشراق»، وصبحي حديدي الذي ترجم «تعقيبات على الاستشراق»، هل تحدثنا عن هذه الجناية التي تطال أحد أبرز المفكرين في العالم؟ وهل من سبيل إلى إصلاحها؟
•• هي ورقة عنوانها «ضائعٌ في الترجمة: إدوارد سعيد في غابة الكلام العقيم والمعوَّج»، صبحي حديدي وكمال أبو ديب، ألبسا إدوارد سعيد حللهما الخاصة: حلل ركاكةٍ في التركيب اللغوي ومعرفةٍ زهيدة بالموضوع وما يحيط به، في حالةٍ، وحلل تشاوف زائد وأيديولوجيا المترجم الخاصة، في الحالة الأخرى.
• كنت على وشك أن تحصد جائزة مرموقة في الترجمة لولا موقف شخصي من أحد مسؤولي الجائزة، ونشرتَ رسالة مطولة حول ذلك، ماذا حدث؟
•• في الرسالة التي أرسلتها إلى الأمين العام لجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي جميع التفاصيل، ولا أريد أن أضيف سوى أنّ الأمين العام للجائزة، ومجلسها، اختاروا الصمت المطبق، بدل أن يصوّبوا ما جرى بعرض الأمر على لجنة نزيهة. أصحاب الفلوس يحسبون أنّ بمقدورهم الكلام والصمت ساعة يشاؤون لمجرد أنَّ معهم فلوسًا، ولو لم يكن لديهم أي شيء آخر. لكني لا أظن أنَّ بمقدورهم ازدراد اللقمة التي هي عملي بسهولة، فهي لقمة ضخمة مغمسة بالجهد الصادق والمتميّز بشهادة كثيرين يعلو كعبهم كثيرًا على ذلك الذي استؤمن على تسيير الجائزة ومعاونيه البائسين الذين جبنوا عن الجهر بالحقيقة وفضلوا عليها الريالات والدولارات. وسوف يكتشفون أو يُكشف لهم، بما في ذلك أمين الجائزة العام، أنهم لطّخوا سمعة جائزة مهمة، لا لشيء إلا لأنّ المشرف على تسييرها رمز للتخلّف الحضاري، ونقيض لقيم الترجمة والتفاهم الدولي والمحلي.
• ما الكتاب الذي تعكف حاليًا على ترجمته؟
•• ستصدر لي قريبًا ترجمات عدّة كنت قد أنجزتها في الفترات الماضية: «عنصريات: من الحروب الصليبية إلى القرن العشرين» لفرانسيسكو بيتنكور، «ما بعد النظرية» لتيري إيغلتون، «حياة اليونانيين القدماء اليومية» لروبرت غارلاند، «رضّة الولادة وأهميتها في التحليل النفسي» لأوتو رانك. أمّا الكتاب الذي أعكف الآن على ترجمته فهو عمل ناتالي زيمون ديفيز الرائع والفذّ عن ليون الأفريقي، «أسْفَارُ الأُلْعُبَان: مسلمٌ من القرن السادس عشر بين عالمين»، وهو علاوة على جماله والجهد الهائل المبذول فيه، أحد أهم الكتب التي افتتحت مدرسة متميّزة في التأريخ هي مدرسة «التاريخ الجزئي».
• تمتد ترجماتك أعوامًا، وتشمل كتبًا أجنبية أساسية، هل نحن بصدد مشروع ترجمي، وليس مجرد ترجمات متفرقة؟
•• ترجمت خلال مسيرتي إلى الآن نحو 60 كتابًا ومئات المقالات. حين أتأمّل ذلك كلّه أجد أنَّ عددًا قليلًا فحسب هو الذي اختير لي ولم أختره بنفسي. فإذا ما تعارض بعض هذا القليل مع قناعاتي كنتُ أنبّه إلى ذلك في تقديم الترجمة على نحو واضح وصريح. ويبدو لي أنَّ ما يجمع الكتلة الساحقة من ترجماتي يتعدّى ما «يروق» لي أن أقرأه وما «أحبّ» للقارئ العربي أن يطّلع عليه؛ أي يتعدّى ميلي الفردي وتفضيلاتي الشخصية، إلى ما أرى أنّ الثقافة العربية والبحث العلمي العربي يحتاجان إليه من نظريات ومناهج كبرى وأعمال فردية أساسية، وقبل ذلك كلّه ومعه وفيه، ما يحتاجانه من فكر نقدي يشيع العلم ولا يركن إلى ما هو قائم ومستقر، بل يشجع على التطور والتغيير. هذا هو الإطار الذي تندرج فيه ترجمتي أعمالًا مثل «تقديم الذات في الحياة اليومية» لإرفنغ غوفمان، و«في النظرية: طبقات، أمم، «آداب» لإعجاز أحمد، و«التاريخ عند نهاية التاريخ العالمي ومقالات أخرى» لراناجيت غها، و«بؤس البنيوية: الأدب والنظرية البنيوية» و«نزع مادية كارل ماركس: الأدب والنظرية الماركسية» لليونارد جاكسون، و«النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت» لآلان هاو، و«الجماعات المُتَخَيَّلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها»، لبندكت أندرسون، و«علامات أُخِذَت على أنها أعاجيب: سوسيولوجيا الأشكال الأدبية» لفرانكو موريتي، و«الترجمة والإمبراطورية» لدوغلاس روبنسون، و«موقع الثقافة» لهومي ك. بابا، و«تأملات في المنفى» لإدوارد سعيد، و«نظرية الأدب» و«أوهام ما بعد الحداثة» و«فكرة الثقافة» لتيري إيغلتون، وسواها. لا بدّ أنَّ هذه العناوين وأصحابها تشير إلى ما يتعدّى الترجمات المتفرقة صوب مشروع أو خطة ما. يبقى في عملي ثمة جانبان آخران وبعض المتفرقات. ويشترك هذان الجانبان وتلك المتفرقات مع ما سبق في الروحيّة على الرغم من الاختلاف في الموضوع. يتعلق الجانب الأول بدراسات فكرية وأعمال أدبية تتناول الأديان والمذاهب تناولًا علميًا وإبداعيًا محترمًا (كما في مشاركتي ترجمة المجلدين الأول والثاني من «موسوعة تاريخ الأديان» التي حررها فراس السوّاح، وترجمتي كتاب «إله التوراة: سيرة» لجاك مايلز، و«الحياة اليومية زمن العهد الجديد» لجيمس. و. إرماتنغر، و«ثلاثة وعشرون عامًا: دراسة في السيرة النبوية المحمدية» لعلي الدشتي، و«ثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر» لأسامة مقدسي، و«أصول الصفويين: تشيّع وتصوّف وغلوّ» لميشيل مزاوي، و«التصوف البوذي والتحليل النفسي» لسوزوكي، و«فرويد وبوذا» لإريك فروم، ورواية «إنجيل الابن» لنورمان ميلر). ويتعلّق الجانب الثاني بعلم النفس، لا سيما التحليل النفسي الذي استهواني ولا يزال (علاوةً على ما سبق ذكره في هذا المجال، ثمة «سيكولوجيا العلاقات الجنسية» لتيودور رايك، و«الحريم الفرويدي» لبول روزن، و«رضّة الولادة» لأوتو رانك، و«العلاج النفسي بين الشرق والغرب»، لآلن واطس). وبين المتفرقات أعتز بما ترجمته للأطفال وما ترجمته من أعمال أدبية، وبعديد الكتب الأخرى.
• متى بدأ مشروعك؟
•• صدرت ترجمتي الأولى في عام 1991 عن سلسلة «من المسرح العالمي» الكويتية الشهيرة، كنت قد ترجمت تلك المسرحية وأرسلتها إلى السلسلة في عام 1987، ثم ما لبثت أن اعتُقلت لأسباب سياسية بعد أيام. وفي المعتقل ترجمتُ عددًا من الأعمال («نشوء الرواية» لإيان واط، و«سيكولوجيا العلاقات الجنسية» لتيودور رايك، وسواهما). وتمكنت من تهريبها ثم نشرها بعد خروجي. يمكن القول، إذن، إنَّ مسيرتي الترجمية بدأت في عام 1987 ولا تزال متواصلة إلى الآن.
• لمن تدين بالفضل في توجيهك لهذه الوجهة؟
•• أنا طبيب في الأصل، وكاتب ومترجم متفرّغ الآن، وقبل الطبيب والمترجم، كنت وما أزال وسأبقى قارئًا. كلّ ما، وكلّ من، وجّهني وجهة القراءة، أدين له بالفضل في توجيهي وجهة الترجمة والكتابة. ولك هنا أن تذكر الأسرة ومكتبتها، الأصدقاء، العمل السياسي والثقافي، إلخ. غير أنّني أشرتُ غير مرّة إلى فضل «الكرسي الألماني» عليّ. هذا الكرسي هو إحدى وسائل التعذيب الوحشية التي تترك أطرافك مشلولة لأشهر ولا تزول آثارها تمامًا بعد ذلك. ربما كان هذا الكرسي خير معلّم للترجمة. فعلى اعتبار أنّه ألمانيّ ويستخدم في سياق عربيّ، نحن، إذن، حيال فعل ترجمي بامتياز. ما أريد قوله هو أن بمقدورك أن تحوّل السجن والتعذيب إلى فعل مقاومة. وأظنني حوّلته إلى ذلك فوجّهني بدوره تلك الوجهة. لقد قرأت هناك كثيرًا، وخرجت ومعي أربع مخطوطات. ولم أترك للجدران أن تتغلّب على روحي. أمّا بعد الألمان وكراسيهم، فثمّة أشخاص فعلوا الكثير كي أتثبّت في خياري مغادرة الطبّ وامتهان الترجمة، أبرز هؤلاء الأستاذ انطون مقدسي، روح مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة السورية، والأستاذ محمد كامل الخطيب، أحد خلفاء مقدسي والشخص الذي وقف وراء تحويل المديرية إلى هيئة عامة للكتاب، والدكتور جابر عصفور، عقل «المشروع القومي للترجمة» في مصر، والدكتور عزمي بشارة، مطلق «مشروع ترجمان» في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والدكتور الطاهر لبيب، رأس مشروعي «المنظمة العربية للترجمة» و«نقل المعارف»، وآخرون كُثر تتفاوت أفضالهم وتتباين.
• ماذا تعني لك الترجمة؟ وكيف ترد على من يرى أنَّ الترجمة اشتغال على شغل الغير، وليست شغلًا خاصًا؟
•• الترجمة إلى العربية، اليوم على الأقلّ، أهمّ ما يحصل في الثقافة العربية، لا يقلل من ذلك قطّ كونها تشتغل على شغل الغير، ولن أدخل هنا في الجدال الذي بات مكرورًا حول ثانوية عمل المترجم، وما يمكن إيراده من ردود مفحمة عليه، لا سيما مقالة فالتر بنيامين «مهمة المترجم» التي تضع يدها على ما تهبه الترجمة للأصل المترجَم من حيوات أخرى مختلفة تمامًا. ولا أريد أيضًا أن أدخل في نقاش حول اقتران الترجمة بكل محاولة للنهضة وكونها المدخل والوسيلة والتمهيد لكلّ تأليف جدير بهذا الاسم. دع عنك ما كشفته دراسات الترجمة من أنَّ الترجمة سيرورة جارية في اللغة الواحدة ذاتها، بل وفي النصّ المؤلَّف الواحد ذاته. لم تعد الترجمة اليوم مجرد مسألة تقنية يمارسها شخص يضع أمامه بعض المعاجم، بل باتت نقطة التقاء ثقافية ومعرفية كبرى.
• تنشر ترجماتك جهات ومؤسسات مرموقة، إلى أيّ حدّ أنت ممتثل لهذه الجهات؟ وكيف تستطيع أن تفرض رؤيتك وخياراتك مترجمًا؟
•• ثمة أمور عدّة لا بد من إيرادها في الإجابة عن هذا السؤال: أولها، أنَّ اختيارات المترجم الفرد ورؤيته، حتى خارج تعامله مع أي مؤسسة، ليست اعتباطية ولا رهن المصادفة، إذ يتعلّق «الاختيار» هنا بمجمل تكوين المترجم الفرد الثقافي والنفسي، ووضعه الاجتماعي، وثقافته، لا بمجرد «حريته». وثانيها، أنَّ هنالك بالفعل، ومن خلال المؤسسة خصوصًا، تفضيلات الثقافة السائدة ومصالحها وتحيّزاتها وأيديولوجياتها، فضلًا عن العلاقة بين ثقافتين على الأقلّ، المُترجَم منها والمترجَم إليها، وما يحكم هذه العلاقة من موازين قوى لغوية واقتصادية وسياسية بل وعسكرية. وعادةً ما يتكشّف ذلك كلّه على نحو خاص في عمليات التكليف بالترجمة التي توكلها جهات النشر المختلفة إلى المترجمين، إذ تسود بلا منازع ترجمة الروايات الخفيفة والكتب السياسية المرتبطة بالظواهر الآنية وأشياء أدنى بكثير؛ أي ترجمة الكتب الأكثر رواجًا (best sellers) لا ترجمة الكتب التي تقضي الدراسة العلمية المنهجية بأنّ الثقافة والمجتمع يحتاجانها أشدّ الاحتياج. لكنّ الكلام على ثقافة سائدة ومصالحها يشير بالتضاد وبالضرورة إلى ثقافةٍ مقاومةٍ لم يَخْلُ منها مجتمعٌ يومًا. وإذا ما كانت الترجمة مرتبطة بالقوة والسلطة؛ فإنها أيضًا قناة مهمّة للمقاومة والتحرر. وأحسب أنّ ترجماتي، في غالبيتها الساحقة، تندرج في هذا الإطار الأخير. ومع أنّ المقام لا يتّسع لتناولٍ مفصَّل للكيفية التي أمكن بها التوفيق بين قناعتي وسوق النشر، والمصاعب الكأداء التي اعترت ذلك، فإنّي لن أمرّ على هذا سريعًا من دون أن أقول إنَّ الصبر ووعي المرء قضيته، في تضافرهما مع حسن أدائه وتضامنه مع الذين يشبهونه، كفيلان بفتح ذلك الحيّز الخاص بالترجمة المقاوِمة النقدية في تلك السوق. وثالثها، أنَّ الترجمات المهمّة وذات الأثر غالبًا ما كانت مرتبطة في تواريخ الثقافات، ومنها تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، بمشاريع كبرى، مثل الاستعمار والنهضة والاستقلال والتنمية إلخ، وتاليًا بمؤسسات تنهض بمثل هذه المشاريع. ولقد أمكن الجمع في تاريخنا العربي مرّات بين خيارات المترجم الفرد وتفضيلاته وضرورات الثقافة ومؤسساتها، بين وعي الفرد العلمي النقدي ووعي المؤسسة والمشروع الاستراتيجي المستدام. لا ينتقص من ذلك قصر أعمار المشاريع التي لمعت ولم تلبث أن خبت. بل وتؤكّد عليه بعض النقاط المضيئة التي لا تزال كالمشروع القومي للترجمة في مصر، و«ترجمان» في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر، والمنظمة العربية للترجمة في بيروت، ووزارة الثقافة في سورية، ومشروع كلمة في أبوظبي، ومؤسسة عالم الفكر في الكويت، ومشروع «نقل المعارف» في البحرين وسواها. ها هنا، بالضبط، في الربط المتكافئ بين هذه الأمور الثلاثة، وجدت نفسي، فلم يكن ثمة مجال يُذكَر للفرض ولا للامتثال.
• ما حجم استجابة المشهد الثقافي العربي لما يترجم إلى العربية، وبماذا ترصد التفاعل؟
•• لا أزعم أنَّ لدي معطيات، ولو حتى تقريبية، لحجم الاستجابة التي يشير إليها السؤال. ولا أعلم إن كانت لدى أحد معطيات عن جمهور القرّاء، والحجم الذي تشغله الترجمات من المقروء، لكن ثمة مؤشرات تدفع لأن نقسم جمهور القرّاء (بما فيه قرّاء الترجمة) إلى قسمين: القرّاء العامون من جهة، والدارسون والباحثون من جهة أخرى. ومع أنَّ بين القرّاء العامين كثيرًا ممن يتمتعون بالثقافة الرفيعة والحس النقدي الحاد، والاختيار الصائب، إلّا أنَّ الغالبية الساحقة من جمهور القراءة العام هم من مستهلكي «الأكثر مبيعًا»، لا سيما الروايات. يشير إلى ذلك حجم المطبوع والموزَّع من هذه الأعمال. أمّا بالنسبة إلى الدّارسين والباحثين فلعلّنا نستطيع أن نرصد استجاباتهم وخياراتهم وتفضيلاتهم وتفاعلهم عمومًا مع الترجمات من خلال حجم استشهاداتهم واقتباساتهم من ترجمات معينة وإحالاتهم إليها أكثر من سواها. وهنا يسعدني أن أعبّر عن رضى كبير على المستوى الشخصي، مشفوع بامتنان كبير أيضًا لهؤلاء القرّاء الذين يجعلون لعملي طعمًا ومعنى.
• ما سبب اهتمام القارئ العربي بأسماء روائية شعبية، من اليابان، ومن البرازيل ومن بلدان عدة، على حساب أسماء مهمة وراسخة وتشكّل لحظات أساسية في الرواية العالمية؟
•• لا بدّ أنك تشير هنا إلى أمثال (باولو كويلهو) و(هاروكي موراكامي)، وربما (إيزابيل الليندي) و(عتيق رحيمي) و(أليف شفق) و(خالد حسيني) و(أمين معلوف) وأضرابهم. والجواب عن سؤالك يجب اقتفاؤه في «سوقَ التبادل الثقافيّ العالميّة» أو«سوقَ الترجمة العالميّة»، هذه السوق التي تحْكمها تبايناتُ القوّة بين اللغات والثقافات، وتسيطر فيها «الكتبُ الأكثر رواجًا» التي عادةً ما تكرِّس قيمَ الثقافة السائدة عالميًّا، فكريًّا وفنّيًّا؛ وغالبًا ما تكون رومانسيات وروايات مثيرة؛ أي من ذلك النوع من الكتابة التي تشجّع القارئ على التماهي الخيالي بها بدلًا من أن تُشجّعه على خلق مسافة نقدية تفصله عنها، الأمر الذي يسهم في خلق جمهور تُمثّل له الكتب موضوعات للتسلية السهلة الخالية من المعرفة. فإذا ما كانت من بلدان أخرى، سواء مكتوبة باللغات المسيطرة أم مترجمة إليها، غلب أن تكون مكتوبة، في شكلها ومضمونها، بما يرضي ذائقة المؤسسة السائدة عالميًا التي عادة ما تكون استشراقية الهوى تروقها الإكزوتيكا والغرائبية والتركيز المفرط على الخصوصيات: عطر الشرق، الختان، الحجاب، الدكتاتوريات التي لا تُقاوَم، الطائفية، تقريع البلدان الأصلية، الصوفية، إلخ. وهذه المؤسّسة هي مؤسسة للإدناء والإقصاء و(سوء) الاختيار عالميّة النطاق، تضمّ ناشرين ومموِّلين وجوائز ودوريّات وبرامج تسويق وإعلام ومراكز ثقافيّة وورشات تدريب ومنظّمات حكوميّة وغير حكوميّة وشللًا وعصاباتٍ ثقافيّةً ممتدّة (من كتّاب ومترجمين ونقّاد محليين ومهاجرين وأجانب) وشخصياتٍ تعمل كعقد اتصال، بسبب نفوذ ما، مادي أو معنوي، وتُعتَمَد «مَراجعَ» في اختيار مَن يمتثلون لمعايير المؤسّسة المذكورة التي تكاد تغيب عنها القيمُ الأدبيّةُ الحقّة، لا سيما قيمُ التمرّد الأدبيّ، بما يعنيه من ابتداع أشكالٍ جديدةٍ للقول وسبْرِ العالم.
• هل نال المترجم العربي حقوقه، أم لا يزال يعاني ظلم المؤسسات؟
•• على الرغم من وجود بعض المترجمين المتميزين الذين يفرضون بعض شروطهم، وعلى الرغم من وجود مؤسسات (نادرة) تحترم جهد المترجمين وتثيب جدارتهم، لا يزال المترجم مظلومًا إلى أبعد الحدود ماديًا. يزيد في هذا الأمر دخول كثيرين على خط الترجمة بأي ثمن لنتاجهم الرديء، وعدم تضامن المترجمين بعضهم مع بعض بما يضمن شيئًا على الأقل من حقوقهم.
• لماذا تبدأ مشاريع الترجمة في الوطن العربي قوية ثم سرعان ما يخفت وهجها، هل هناك شللية في داخلها تتسبب في هذا الأداء المتذبذب؟
•• يمكنني أن أشير مباشرة إلى ثلاثة عوامل تقف وراء هذا التقلب والتذبذب، أبعد من الشللية والروابط الشخصية؛ أولها: هو ارتباط أغلب هذه المشاريع بأفراد متميزين لا بمؤسسة متجددة ومستدامة، فإذا ما تنحّى الفرد المتميّز لهذا السبب أو ذاك تنحّى معه المشروع وتدهور. وثانيها: هو اعتبار الحكّام مثل هذه المشاريع نوعًا من الزينة الزائدة التي يُضَحَّى بها أول ما يُضحى عند الملمّات. وثالثها: هو ارتباط المشاريع الحالية وتمويلها بأنظمةٍ للدولة الوطنية لم يبق فيها الكثير مما هو دولة ولا الكثير مما هو وطني. يُضاف إلى ذلك أنَّ وفرة التمويل في بعض الحالات لا توظَّف لخلق بنى مستدامة ومتجددة رفيعة المعايير يُعاد إنتاجها. بعد هذا قل ما تشاء عن الشللية والمحسوبيات والبطء القاتل وسوء النوعية في بعض الأحيان، إلخ.
• بماذا تعلّق على المطالبة بضرورة اعتماد استراتيجية للترجمة وتنسيق بين الجهات والمؤسسات التي تعنى بها، للخروج من العشوائية والجهود المشتتة؟
•• هذا مطلب ضروري وملحّ، بل وبديهي. ليس من أجل الخروج من العشوائية والجهود المشتتة فحسب، بل أيضًا من أجل التخطيط والأداء والإنتاج الجدير بهذا الاسم.
• من النقاد والمترجمين من يرون أنهم عرّفوا العرب بتيارات ودراسات ما كان للعرب أن يعرفوها لولا جهودهم، ويؤكّد صبحي حديدي، مثلًا، أنه أول من عرّف العرب بدراسات ما بعد الكولونيالية، وذلك في أواسط السبعينيات الميلادية من القرن المنصرم، ومن خلال مجلة الكرمل، إلى أي حد تعكس هذا الريادة اشتغال حقيقي من خلال كتابة أصيلة من لدن الناقد والمترجم وليس مجرد نقولات (ولن نقول سرقات) عن أصل بقي غائبًا؟
•• لا بد أنّ المقصود هو تسعينيات القرن العشرين وليس سبعينياته. فمجلة «الكرمل» لم تكن موجودة في السبعينيات. ولعلّ «الدراسات ما بعد الكولونيالية» ذاتها لم تكن قد وُجِدت بعد، اللهم إلا بالقوة وليس بالفعل. ما أتذكره أنَّ مقالة صبحي حديدي في «الكرمل»، في عام 1993، عن الخطاب ما بعد الكولونيالي، وهي مقالة بالعربية مبكرة بالفعل ولست متأكدًا إن كانت الأولى، ليست له في شيء، بل هي مجرد ترجمة غير جيدة ولصق ركيك لمقاطع وفقرات كاملة لسواه، لا سيما مدخل كتاب بيل أشكروفت وآخرين «الإمبراطورية تردّ بالكتابة» الذي لم يكن قد تُرجم إلى العربية في حينه، مع إضافة قائمة مراجع في نهاية المقالة من دون أي توثيق يعين حدود الاقتباس وموضعه. وهذا أمر اعتاد حديدي على فعله في تلك الأيام، كما في مقالةٍ عن ديريك والكوت نسبها إلى نفسه في عدد أسبق من «الكرمل» وهي مجرد سطو على مقاطع كاملة لآخرين، لا سيما هومي بابا، ولصقها معًا من دون أي مراجع هذه المرّة. والحال إنَّ هذا السطو يفضي لنا، للمرة المليون، بأشياء كثيرة عن طبيعة أولئك الذين يحتاجون التأكيد على أولويتهم وأسبقيتهم أشد الاحتياج.
• في ورقة قدمتَها في ندوة عن الترجمة، تعرضت لمترجِمَين ترجما إدوارد سعيد، ومارسا جناية عليه، كلّ من زاويته، هما كمال أبو ديب الذي ترجم «الاستشراق»، وصبحي حديدي الذي ترجم «تعقيبات على الاستشراق»، هل تحدثنا عن هذه الجناية التي تطال أحد أبرز المفكرين في العالم؟ وهل من سبيل إلى إصلاحها؟
•• هي ورقة عنوانها «ضائعٌ في الترجمة: إدوارد سعيد في غابة الكلام العقيم والمعوَّج»، صبحي حديدي وكمال أبو ديب، ألبسا إدوارد سعيد حللهما الخاصة: حلل ركاكةٍ في التركيب اللغوي ومعرفةٍ زهيدة بالموضوع وما يحيط به، في حالةٍ، وحلل تشاوف زائد وأيديولوجيا المترجم الخاصة، في الحالة الأخرى.
• كنت على وشك أن تحصد جائزة مرموقة في الترجمة لولا موقف شخصي من أحد مسؤولي الجائزة، ونشرتَ رسالة مطولة حول ذلك، ماذا حدث؟
•• في الرسالة التي أرسلتها إلى الأمين العام لجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي جميع التفاصيل، ولا أريد أن أضيف سوى أنّ الأمين العام للجائزة، ومجلسها، اختاروا الصمت المطبق، بدل أن يصوّبوا ما جرى بعرض الأمر على لجنة نزيهة. أصحاب الفلوس يحسبون أنّ بمقدورهم الكلام والصمت ساعة يشاؤون لمجرد أنَّ معهم فلوسًا، ولو لم يكن لديهم أي شيء آخر. لكني لا أظن أنَّ بمقدورهم ازدراد اللقمة التي هي عملي بسهولة، فهي لقمة ضخمة مغمسة بالجهد الصادق والمتميّز بشهادة كثيرين يعلو كعبهم كثيرًا على ذلك الذي استؤمن على تسيير الجائزة ومعاونيه البائسين الذين جبنوا عن الجهر بالحقيقة وفضلوا عليها الريالات والدولارات. وسوف يكتشفون أو يُكشف لهم، بما في ذلك أمين الجائزة العام، أنهم لطّخوا سمعة جائزة مهمة، لا لشيء إلا لأنّ المشرف على تسييرها رمز للتخلّف الحضاري، ونقيض لقيم الترجمة والتفاهم الدولي والمحلي.
• ما الكتاب الذي تعكف حاليًا على ترجمته؟
•• ستصدر لي قريبًا ترجمات عدّة كنت قد أنجزتها في الفترات الماضية: «عنصريات: من الحروب الصليبية إلى القرن العشرين» لفرانسيسكو بيتنكور، «ما بعد النظرية» لتيري إيغلتون، «حياة اليونانيين القدماء اليومية» لروبرت غارلاند، «رضّة الولادة وأهميتها في التحليل النفسي» لأوتو رانك. أمّا الكتاب الذي أعكف الآن على ترجمته فهو عمل ناتالي زيمون ديفيز الرائع والفذّ عن ليون الأفريقي، «أسْفَارُ الأُلْعُبَان: مسلمٌ من القرن السادس عشر بين عالمين»، وهو علاوة على جماله والجهد الهائل المبذول فيه، أحد أهم الكتب التي افتتحت مدرسة متميّزة في التأريخ هي مدرسة «التاريخ الجزئي».