ذكر الدكتور محمد عناني في كتاب من كتبه أن الترجمة «عِلمٌ خلافي» وهذا القول ربما يريح البعض فيستأنس بذلك ويبرر وجود كل ترجمة رديئة متهافتة راجت إما اختياراً بسبب الاستعجال في تلبية الطلب السريع على الأعمال المُترجمة أو اضطراراً بسبب تواضع خبرة المترجم وعدم إعداده إعداداً اكاديمياً جيداً. أياً كان السبب فنحن أمام ظاهرة تستحق الدراسة والتمحيص تتمثل في كثرة ما يُطرح من الأعمال المترجمة من جهة وتواضع جودة الترجمة من جهة أخرى، وكأن الأمر مقايضة ولا سبيل إلى الجمع بين تجويد الترجمة وزيادة عدد الأعمال المترجمة.
ولعلي أبسط الطرح في هذا الموضوع قليلاً فأقول إن الترجمة وجودتها مسألة تثار بين فينة وأخرى، خصوصاً أن القارئ الآن يستطيع أن يبث شكواه من رداءة الترجمة بيسر وسهولة عبر أقنية المعلومات من شبكات التواصل ونحوها. إن الملاحظ أن هناك جهداً واضحاً لتجويد الأعمال المترجمة من العربية إلى لغات أخرى -منها الإنجليزية- ربما بسبب سطوة دور النشر ونفوذها الكبير في مسائل النشر والترجمة ومتطلبات السوق، فالعمل المترجم في النهاية «سلعة» يخضع تسويقها لاعتبارات الجودة في النقل. ولكن نرى على الطرف الآخر أن هناك تساهلاً كبيراً في ترجمة الأعمال الأجنبية إلى اللغة العربية، وهذا يدعونا إلى مناقشة ذلك واقتراح الحلول مع التركيز على الترجمة الأدبية وهي أقدم شكل من أشكال الترجمة عرفته البشرية وأكثرها شيوعاً وانتشاراً.
لعلي أعود بالذاكرة إلى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم عندما قذفت المطابع في الغرب بترجمة لرواية «مدن الملح» لعبدالرحمن منيف مترجمةً على يد بيتر ثيرو الذي بذل في ترجمتها جهداً كبيراً وواجه صعوبات جمة، ولذا كان يهرع إلى نايف الروضان طلباً لرأيه حول بعض المواضع في الكتاب التي أشكلت عليه عند ترجمتها. ما إن طُرح هذا العمل للقارئ هناك حتى هبّت الصحف في نشر «عروض نقدية» تناولت الرواية بما لها وما عليها. الموقف النقدي من هذا العمل ظلّ مبهماً، فهناك الأديب الكبير غراهام غرين الذي وصف الرواية بأنها «عمل عظيم محفز للخيال». لكن الكاتب الأمريكي الشهير جون أبدايك له رأي آخر حيث وصف الرواية في مقال مقذع نُشر في 17 اكتوبر عام 1988 في صحيفة النيويوركر ذائعة الصيت بالعمل المتواضع لـ«حكّاء» يسرد قصصاً لمجموعة من الأشخاص يتحلقون حول نار يضطرم أوارها.
إن استقبال العمل المترجم موضوع ملتبس إذ إنّ أي ترجمة لا تخلو من هفوات هنا وهناك، ولكن الشائع أن يُلقى باللوم ابتداءً على المترجم الذي فشل في ترجمته. هناك دائماً احتمال أن يكون العمل متقناً في لغته الأصلية ولكن المترجم أفسده وهذه الظاهرة موجودة في أعمال أدبية كثيرة، واكتشاف ذلك ليس بالأمر الصعب فيكفي القارئ العادي أن يقرأ صفحة واحدة ليكتشف أن هناك نقلاً حرفياً ضاعت بين سطوره القيمة الأدبية للنص. وهناك احتمال آخر أن يكون العمل متواضعاً في لغته الأصلية والترجمة نقلته كما هو ولكن -ربما- يقع اللوم على المترجم، إذ قد يتسرب لدى القارئ وهم أن العمل الأصلي أفضل وربما ضاعت جودته أثناء الترجمة. وهذا يأخذنا إلى تحديد وظيفة الترجمة وهي نقل المعنى المقصود من لغة إلى أخرى مغايرة، وليس من وظائفها تقبيح العمل الأدبي الجميل أو تحسين القبيح. وأكثر ما يقع الإشكال اليوم في ترجمة الأدب وذلك لعدة أسباب؛ منها أن الأدب مشبع بالمجاز والكناية والتورية وغير ذلك من الصور البلاغية التي تختلف من لغة إلى أخرى. والسبب الثاني أن العمل الأدبي يُكتب بلغة فارهة ونقله للغة أخرى يتطلب جهداً مضاعفاً وخبرة ودراية وطول مراس. السبب الثالث أن للأدب فروعاً وترجمتها تختلف باختلاف الجنس الأدبي فترجمة الرواية أسهل بكثير من ترجمة الشعر الذي يخضع لقيود الوزن والقافية ويمتاز بموسيقى تستعصي على النقل. ومع التسليم بأن هناك تراجعاً مخيفاً في جودة ما يترجم من أعمال إلا أننا نستطيع أن نضع أيدينا على مواضع الخلل ومواطن الضعف نوجز بعضها في ما يأتي:
الخلل الأول في عملية الترجمة نابع من الجهل باللغتين: المنقول عنها والمنقول إليها. خذ على سبيل المثال مقولة «روميو» في مدح «جولييت» في مسرحية شكسبير الذائعة الصيت «روميو وجولييت» عندما أطلت عليه جولييت من شرفة منزلها فقال عبارته الشهيرة:
Her eye discourses; I will answer it (عيناها تتكلم وسوف أجيبها)
وهي عبارة سهلة التركيب سلسة ربما باستثناء مفردة discourses التي لم تعد تأتي في الإنجليزية كفعل -كما استخدمها شكسبير هنا- بل كاسم بمعنى «خطاب» كأن نقول الخطاب الصحفي media discourse أو الخطاب السياسي political discourse. أيضاً لا يوجد خلل في الترجمة على مستوى المجاز، إذ إنّ القارئ العربي لن يجد غضاضة في أن للعيون لغة وأنها تتحدث كما قال شوقي:
وَكَلَّمنَ بِالأَلحاظِ مَرضى كَليلَةٍ
فَكانَت صِحاحًا في القُلوبِ مَواضِيا
السبب الثاني من أسباب تردي الترجمة التعلق المرضي بتلابيب المعنى الحرفي للعبارة والاستسلام لوهم شاع وانتشر وهو أن المعاني ثاوية في جوف الكلمات. إن المعنى المعجمي للكلمة لا يخفي حقيقة ناصعة وهي أن للمعاني ظِلالاً لا يُدرك كنهها إلا بتأمل عميق للسياق وعدم التوقف عند معنى المفردة الواحدة. عندما ترجم بول بولس رواية «الخبز الحافي» لشكري إلى اللغة الإنجليزية تساءل العارفون عن سر استخدام بولس لمفردة for bread alone أي «للخبز وحده» وذلك أن المعنى المقابل لمفردة «حاف» barefooted لا يرد في الإنجليزية إلا بالمعنى الحرفي، أي لشخص حافي القدمين.
سبب ثالث أراه جديراً بالنقاش يتعلق بالسمات المجازية للنصوص واختلاف تلك السمات من لغة لأخرى، فما نراه صورة بليغة في لغة قد يفتقد العنصر الجمالي في لغة أخرى. وهذه تمثل صعوبة للمترجم الذي يحاول نقل هذا النص «المجازي» من لغة إلى أخرى. خذ على سبيل المثال الجملة الأولى التي وردت في رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز حيث نرى أن كلمة ضوء Light جاءت هكذا بحرف كبير وكذلك كلمة ظلام Darkness وهي كلمات ذات حمولات دينية تتجاوز «الضياء والنور» إلى معنى آخر يدل على «الخير» و«الشر».
سبب ثالث مهم لأسباب صعوبات الترجمة متعلق بالبعد الثقافي للغة، وذلك أن اللغة -أي لغة- ممزوجة بالثقافة امتزاج اللحم بالعظام، وكما أن هناك أنماطاً ثقافية تختص ببيئة معينة فهناك أيضاً مفردات ومعانٍ لا تنمو إلا في بيئتها الأولى، ونقلها من هذه البيئة لا يستقيم في أغلب الأحوال أي كمن يغرس وردةً في صحراء قاحلة. هذا يحيلنا إلى مبحث مهم في علم الترجمة وهو زيف التطابق وفيه أنه لا توجد كلمتان في لغتين مختلفتين تحملان المعنى الدقيق ذاته (المتطابق). عندما تُرجمت رائعة ارنست همنغواي إلى اللغة العربية وضع لها منير البعلبكي عنواناً ذا جرس رومانسي حالم: الشيخ والبحر. والحقيقة أن مفردة the old man لا تتطابق مع مفردة «الشيخ» العربية القحة التي تنوء بحمولات ثقافية منها «المكانة» و«التقدير» و«التبجيل» ولكنها في الإنجليزية تنصرف إلى معنى واحد وهو أن الرجل متقدم في السن ولكنه قادر على ركوب البحر ومصارعة المخاطر.
وفي الختام، لابد من الإشارة إلى تجربة ناجحة تمثل نهجاً فريداً في ترجمة النصوص العربية التي -في اعتقادي- تحل الكثير من مشكلات الترجمة الأدبية. هذه التجربة الفريدة قامت بها الأستاذة الجامعية المرموقة سلمى الخضراء الجيوسي في الكتاب الذي حررته قبل ثلاثة عقود وأسمته «أنطولوجيا الأدب في شبه الجزيرة العربية» نقلت فيه نصوصاً كثيرة لأدباء سعوديين وخليجيين إلى اللغة الإنجليزية؛ ابتداءً اختارت الجيوسي النصوص الأدبية بعناية فائقة حسب معايير جمالية محددة، وهذه الخطوة مهمة لسبب وهو أنه ليس كل نص من النصوص يجب أن يترجم. بعد ذلك قامت بالدفع بهذه النصوص المختارة إلى مترجمين بارعين يجيدون اللغتين العربية والإنجليزية لترجمتها إلى الإنجليزية. بعد الانتهاء من ذلك وضعت النص المترجم أمام أديب يكتب باللغة الإنجليزية، ويجيدها إجادة تامة لصياغة النص صياغةً أدبية. يراعي هذا النهج أولاً القيمة الفنية للنص في لغته من جهة، ومن جهة أخرى يبرز الخصائص الإبداعية للنص في لغته الجديدة. هذا لا يعني أن هذه الطريقة بلا شوائب بل قد يجد فيها البعض نوعاً من العدول عن نهج المطابقة الذي نظّر له أساطين الترجمة وعلومها وعدّوه معلماً من معالم الترجمة الجيدة فالمترجم ناقل للنص وليس خالقا له.
* الأستاذ المشارك في قسم اللغة الإنجليزية والترجمة - جامعة الملك سعود - الرياض.
ولعلي أبسط الطرح في هذا الموضوع قليلاً فأقول إن الترجمة وجودتها مسألة تثار بين فينة وأخرى، خصوصاً أن القارئ الآن يستطيع أن يبث شكواه من رداءة الترجمة بيسر وسهولة عبر أقنية المعلومات من شبكات التواصل ونحوها. إن الملاحظ أن هناك جهداً واضحاً لتجويد الأعمال المترجمة من العربية إلى لغات أخرى -منها الإنجليزية- ربما بسبب سطوة دور النشر ونفوذها الكبير في مسائل النشر والترجمة ومتطلبات السوق، فالعمل المترجم في النهاية «سلعة» يخضع تسويقها لاعتبارات الجودة في النقل. ولكن نرى على الطرف الآخر أن هناك تساهلاً كبيراً في ترجمة الأعمال الأجنبية إلى اللغة العربية، وهذا يدعونا إلى مناقشة ذلك واقتراح الحلول مع التركيز على الترجمة الأدبية وهي أقدم شكل من أشكال الترجمة عرفته البشرية وأكثرها شيوعاً وانتشاراً.
لعلي أعود بالذاكرة إلى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم عندما قذفت المطابع في الغرب بترجمة لرواية «مدن الملح» لعبدالرحمن منيف مترجمةً على يد بيتر ثيرو الذي بذل في ترجمتها جهداً كبيراً وواجه صعوبات جمة، ولذا كان يهرع إلى نايف الروضان طلباً لرأيه حول بعض المواضع في الكتاب التي أشكلت عليه عند ترجمتها. ما إن طُرح هذا العمل للقارئ هناك حتى هبّت الصحف في نشر «عروض نقدية» تناولت الرواية بما لها وما عليها. الموقف النقدي من هذا العمل ظلّ مبهماً، فهناك الأديب الكبير غراهام غرين الذي وصف الرواية بأنها «عمل عظيم محفز للخيال». لكن الكاتب الأمريكي الشهير جون أبدايك له رأي آخر حيث وصف الرواية في مقال مقذع نُشر في 17 اكتوبر عام 1988 في صحيفة النيويوركر ذائعة الصيت بالعمل المتواضع لـ«حكّاء» يسرد قصصاً لمجموعة من الأشخاص يتحلقون حول نار يضطرم أوارها.
إن استقبال العمل المترجم موضوع ملتبس إذ إنّ أي ترجمة لا تخلو من هفوات هنا وهناك، ولكن الشائع أن يُلقى باللوم ابتداءً على المترجم الذي فشل في ترجمته. هناك دائماً احتمال أن يكون العمل متقناً في لغته الأصلية ولكن المترجم أفسده وهذه الظاهرة موجودة في أعمال أدبية كثيرة، واكتشاف ذلك ليس بالأمر الصعب فيكفي القارئ العادي أن يقرأ صفحة واحدة ليكتشف أن هناك نقلاً حرفياً ضاعت بين سطوره القيمة الأدبية للنص. وهناك احتمال آخر أن يكون العمل متواضعاً في لغته الأصلية والترجمة نقلته كما هو ولكن -ربما- يقع اللوم على المترجم، إذ قد يتسرب لدى القارئ وهم أن العمل الأصلي أفضل وربما ضاعت جودته أثناء الترجمة. وهذا يأخذنا إلى تحديد وظيفة الترجمة وهي نقل المعنى المقصود من لغة إلى أخرى مغايرة، وليس من وظائفها تقبيح العمل الأدبي الجميل أو تحسين القبيح. وأكثر ما يقع الإشكال اليوم في ترجمة الأدب وذلك لعدة أسباب؛ منها أن الأدب مشبع بالمجاز والكناية والتورية وغير ذلك من الصور البلاغية التي تختلف من لغة إلى أخرى. والسبب الثاني أن العمل الأدبي يُكتب بلغة فارهة ونقله للغة أخرى يتطلب جهداً مضاعفاً وخبرة ودراية وطول مراس. السبب الثالث أن للأدب فروعاً وترجمتها تختلف باختلاف الجنس الأدبي فترجمة الرواية أسهل بكثير من ترجمة الشعر الذي يخضع لقيود الوزن والقافية ويمتاز بموسيقى تستعصي على النقل. ومع التسليم بأن هناك تراجعاً مخيفاً في جودة ما يترجم من أعمال إلا أننا نستطيع أن نضع أيدينا على مواضع الخلل ومواطن الضعف نوجز بعضها في ما يأتي:
الخلل الأول في عملية الترجمة نابع من الجهل باللغتين: المنقول عنها والمنقول إليها. خذ على سبيل المثال مقولة «روميو» في مدح «جولييت» في مسرحية شكسبير الذائعة الصيت «روميو وجولييت» عندما أطلت عليه جولييت من شرفة منزلها فقال عبارته الشهيرة:
Her eye discourses; I will answer it (عيناها تتكلم وسوف أجيبها)
وهي عبارة سهلة التركيب سلسة ربما باستثناء مفردة discourses التي لم تعد تأتي في الإنجليزية كفعل -كما استخدمها شكسبير هنا- بل كاسم بمعنى «خطاب» كأن نقول الخطاب الصحفي media discourse أو الخطاب السياسي political discourse. أيضاً لا يوجد خلل في الترجمة على مستوى المجاز، إذ إنّ القارئ العربي لن يجد غضاضة في أن للعيون لغة وأنها تتحدث كما قال شوقي:
وَكَلَّمنَ بِالأَلحاظِ مَرضى كَليلَةٍ
فَكانَت صِحاحًا في القُلوبِ مَواضِيا
السبب الثاني من أسباب تردي الترجمة التعلق المرضي بتلابيب المعنى الحرفي للعبارة والاستسلام لوهم شاع وانتشر وهو أن المعاني ثاوية في جوف الكلمات. إن المعنى المعجمي للكلمة لا يخفي حقيقة ناصعة وهي أن للمعاني ظِلالاً لا يُدرك كنهها إلا بتأمل عميق للسياق وعدم التوقف عند معنى المفردة الواحدة. عندما ترجم بول بولس رواية «الخبز الحافي» لشكري إلى اللغة الإنجليزية تساءل العارفون عن سر استخدام بولس لمفردة for bread alone أي «للخبز وحده» وذلك أن المعنى المقابل لمفردة «حاف» barefooted لا يرد في الإنجليزية إلا بالمعنى الحرفي، أي لشخص حافي القدمين.
سبب ثالث أراه جديراً بالنقاش يتعلق بالسمات المجازية للنصوص واختلاف تلك السمات من لغة لأخرى، فما نراه صورة بليغة في لغة قد يفتقد العنصر الجمالي في لغة أخرى. وهذه تمثل صعوبة للمترجم الذي يحاول نقل هذا النص «المجازي» من لغة إلى أخرى. خذ على سبيل المثال الجملة الأولى التي وردت في رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز حيث نرى أن كلمة ضوء Light جاءت هكذا بحرف كبير وكذلك كلمة ظلام Darkness وهي كلمات ذات حمولات دينية تتجاوز «الضياء والنور» إلى معنى آخر يدل على «الخير» و«الشر».
سبب ثالث مهم لأسباب صعوبات الترجمة متعلق بالبعد الثقافي للغة، وذلك أن اللغة -أي لغة- ممزوجة بالثقافة امتزاج اللحم بالعظام، وكما أن هناك أنماطاً ثقافية تختص ببيئة معينة فهناك أيضاً مفردات ومعانٍ لا تنمو إلا في بيئتها الأولى، ونقلها من هذه البيئة لا يستقيم في أغلب الأحوال أي كمن يغرس وردةً في صحراء قاحلة. هذا يحيلنا إلى مبحث مهم في علم الترجمة وهو زيف التطابق وفيه أنه لا توجد كلمتان في لغتين مختلفتين تحملان المعنى الدقيق ذاته (المتطابق). عندما تُرجمت رائعة ارنست همنغواي إلى اللغة العربية وضع لها منير البعلبكي عنواناً ذا جرس رومانسي حالم: الشيخ والبحر. والحقيقة أن مفردة the old man لا تتطابق مع مفردة «الشيخ» العربية القحة التي تنوء بحمولات ثقافية منها «المكانة» و«التقدير» و«التبجيل» ولكنها في الإنجليزية تنصرف إلى معنى واحد وهو أن الرجل متقدم في السن ولكنه قادر على ركوب البحر ومصارعة المخاطر.
وفي الختام، لابد من الإشارة إلى تجربة ناجحة تمثل نهجاً فريداً في ترجمة النصوص العربية التي -في اعتقادي- تحل الكثير من مشكلات الترجمة الأدبية. هذه التجربة الفريدة قامت بها الأستاذة الجامعية المرموقة سلمى الخضراء الجيوسي في الكتاب الذي حررته قبل ثلاثة عقود وأسمته «أنطولوجيا الأدب في شبه الجزيرة العربية» نقلت فيه نصوصاً كثيرة لأدباء سعوديين وخليجيين إلى اللغة الإنجليزية؛ ابتداءً اختارت الجيوسي النصوص الأدبية بعناية فائقة حسب معايير جمالية محددة، وهذه الخطوة مهمة لسبب وهو أنه ليس كل نص من النصوص يجب أن يترجم. بعد ذلك قامت بالدفع بهذه النصوص المختارة إلى مترجمين بارعين يجيدون اللغتين العربية والإنجليزية لترجمتها إلى الإنجليزية. بعد الانتهاء من ذلك وضعت النص المترجم أمام أديب يكتب باللغة الإنجليزية، ويجيدها إجادة تامة لصياغة النص صياغةً أدبية. يراعي هذا النهج أولاً القيمة الفنية للنص في لغته من جهة، ومن جهة أخرى يبرز الخصائص الإبداعية للنص في لغته الجديدة. هذا لا يعني أن هذه الطريقة بلا شوائب بل قد يجد فيها البعض نوعاً من العدول عن نهج المطابقة الذي نظّر له أساطين الترجمة وعلومها وعدّوه معلماً من معالم الترجمة الجيدة فالمترجم ناقل للنص وليس خالقا له.
* الأستاذ المشارك في قسم اللغة الإنجليزية والترجمة - جامعة الملك سعود - الرياض.