عندما استضفتُ المثقف والناقد العربي صبحي حديدي في حوار ثقافيّ شامل لـ «عكاظ» كان ذلك في مناسبة #يوم_الأب_العالمي 19 يونيو 2022، وبينما نحن في خضمّ اللقاء الصحفيّ استأذننا ضيفنا الكريم ليرد على حفيدته الصغيرة «ليلى» بعد أن أرسلت له فيديو منها يخص مشاعرها وحبها لها كأبٍ حميم قبل أن يكون جداً تكبر به الأيام.
في هذا الحوار، يكشف الناقد حديدي كل شيء: تفاصيل خاصة من حياة الراحل الكبير محمود درويش رحمه الله، علاقة إخوان أو أشقاء محمود درويش به، مصداقية جائزة البوكر، نوبل الجائزة ومن استحقها ونالها مثل نجيب محفوظ، ومن استحقها ولم ينلها لأسباب سياسية كأدونيس..
إنه حوار مختلف مع مثقف كبير له الكثير من الآراء والمواقف التي نتفق مع بعضها ونختلف مع بعضها الآخر، ولكن لن نصل إلى أي أفق دون الحوار.. هنا نص المقابلة الرحبة مع (صبحي حديدي):
• حضرت مبكراً في المشهد الثقافي العربي ناقداً، لكنك اقتصرت على إصدارات قلة ومشاريع معينة وترجمات محدودة واكتفيت بالعمل الثقافي.. لماذا؟
•• في الحقيقة أنا لم أكتفِ بالعمل الثقافي أنا جمعت مبكراً بين العمل النقدي والعمل السياسي، وحين أقول العمل أقصد العمل التنظيمي والكتابة السياسية، وبالتالي هذا الانخراط المزدوج كان يبادل التأثير، فالنص السياسي يتأثر بالمناخ الثقافي والعكس أيضاً صحيح بالنسبة للميدان فقط، أما بالنسبة إلى الإصدارات فالحقيقة أنا منذ البدء كان عندي يقين شخصي التزمت به طويلاً ثم تبيّن لي أنه كان خاطئاً، هذا اليقين كان هو الرهان على الدراسة المنفردة في إقامة علاقة نقدية وجدلية ومعمقة مع القارئ أكثر من الكتاب بمعنى كنت أركز على الدراسات المستقلة، سواء كانت دراسة مشهد أو دراسة ظاهرة أو دراسة شعر أو دراسة رواية، يعني كتلة معينة من الظواهر الثقافية الإبداعية من خلال الدراسة المنفردة خلال ما كنت أنشر في دوريات عدة، كنت أعتقد أن هذه الوسيلة تقيم علاقة نقدية مع القارئ بمعنى أن يكون معي أو أن يخالفني، وكان ما يشجعني حقيقة على المضي في هذا الخيار أنه كل ما زرت بلداً عربياً أشعر بأن لهذه الدراسات صدى، وهذا هو المعنى الذي كنت أطمح إليه، لكن تبين لي بعد ذلك بأن كثيراً مما كان ينشر في دوريات مهمة وأساسية مثل الكرمل يكاد يندثر ولم يعد ممكناً أن تزور مواقع تلك الدراسات أو القراءات، فبالتالي إذا كانت لها من جدوى ويمكن أن توضع ضمن تركيبة مفيدة عامة تحمل شخصية ما بالتالي هذه الحقيقة كان يمكن هنا خطأ نسبي، فبالتالي عدت وجمعت بعضها ثم أكملت دراسات أخرى على سبيل المثال كتاب كامل هذا لم أنشر منه قبل حرفاً واحداً هو إدوارد سعيد الناقد.
• وما مبرر هذا الكتاب؟
•• اسم الكتاب هو «إدوارد سعيد الناقد آداب التابع وثقافة الإمبريالية»، وأنا يقيني أن إدوارد سعيد معروف بالعالم العربي كشخصية فلسطينية مناضلة، وشخصية ناقدة للاستشراق، وهو أحد الناس المؤسسين للخطاب ما بعد الاستعماري وكل هذه المسائل، لكن شخصيته كناقد وهي الأهم في الغرب وفي الولايات المتحدة وهي كانت بداياته الألمع قبل ما يفكر بالاستشراق أو يكتب كتاب «تغطية الإسلام» إلى ذلك؛ هذه الشخصية غير موجودة في العالم العربي، فبالتالي أنا كرّست له كتاباً كاملاً.. وهذا بخلاف عادتي في المراهنة على الدراسات المنفردة.. وبالتالي صار عندي منذ خمس سنوات. وأيضاً ربما بإقناع أقرب إلى الضغط الودي من أصدقاء أقنعوني بأنه لا بد من الكتاب في نهاية المطاف، أياً كانت المظان حول الكتاب وهي مظان لا تزال موجودة عندي.
وبالتالي صدرت هذه الأعمال وصار نوع من التزاوج الصحي إذا صح التعبير، وأنا أفترض أنه صحي بين الإصدارات ذات الطابع النقدي والثقافي وبين الانتماء إلى المشهد السياسي العربي والدولي، وأنا أزعم أنني أحد أكثر المنخرطين في دراسة الولايات المتحدة كظواهر سياسية وظواهر سيسيولوجية وظواهر ثقافية إلى آخره، وبالتالي هذا الجمع ما بين الميدانين أعتقد أنه على مشقته قد يكون في الواقع مفيداً.
أنا أعترف أيضاً أن في ذمتي ديناً كبيراً في هذا الاتجاه هو لإدوارد سعيد أنا أذكر بأنني حين قررت أن أكتب مقالة سياسية للمرة الأولى، فسألته أنت تكتب مقالات سياسية ومقالات نقدية، هل ترى تناقضاً ما بين الاتجاهين والنشاطين؟ فقال لي واستخدم تعبيراً عامياً فلسطينياً شامياً: الناقد الذي لا يكتب مقالاً سياسياً كبّرْ عليه يعني اعتبره في حكم الميت، بعيد الشر.
• بين الشعر والرواية، ما هو السياق الإبداعي العربي الأكثر حضوراً؟
•• إذا كنت تسألني عن الفترة الراهنة، الرواية هي المسيطرة لكن هذا ليس ظاهرة إيجابية على أي مستوى من وجهة نظري دائماً.. أنا أتفادى الإطلاق ولكن ثمة ظواهر لن تستطيع أن تكون فيها معللاً ومعمماً قدر الإمكان.. الحقيقة هناك هيمنة للرواية على الشعر على عكس الخرافة التي تقول إن الشعر ديوان العرب حتى بمعنى علم الاجتماع؛ لكن الرواية المهيمنة لأسباب قد تكون عميقة وقد تكون سطحية وقد تكون تجارية.. فلنبدأ من أن الرواية أكثر رواجاً وأن الإصدارات الروائية أكثر انتشاراً؛ لأنها أيضاً تقارب تماس القارئ مع فكرة المسلسل وفكرة الفيلم السينمائي وفكرة الحكاية والحكي إجمالاً.
زد أن الرواية يمكن تكون فعلاً من وراء المغزى التجاري لجوائز مثل البوكر على سبيل المثال التي أعتقد أنا مع احترامي لكل من فاز بها أو حكَّم فيها يعني هي أفسدت الذائقة العربية التي نستطيع أن نقول عنها متقدمة فما بالك إذا كانت راقية.. البوكر أفسدتها بمعنى صار القارئ ينظر إلى حدث أن هذه الرواية فازت بالجائزة وبالتالي هذه هي الرواية بما تعنيه من معطيات جمالية شكلاً ومضموناً و... و... إلى آخره هي الرواية المثلى؛ وبالتالي صار يقرأ أي رواية أخرى حتى الكلاسيكية على قياس الفائز بالبوكر -وهذا مرة ثانية- مع احترامي للفائزين بالبوكر والفائزات الذين يستحقون التكريم وليس بالضرورة الجائزة..
الآن ثمة عنصر ثالث أعتبره عنصراً عميقاً هو الرواية أقرب إلى مخاطبة التاريخ اليومي بمعنى أنت نادراً ما تقرأ قصيدة تغطي الكوفيد مثلاً أو تغطي انقلاباً عسكرياً في بلد ما أو تغطي ثورات الربيع العربي.. تجد قصائد طبعاً؛ لكن الشاعر لا يلهث خلف الآني، الشاعر يحتاج إلى اختمار، ويحتاج إلى تبصر عميق، ويحتاج إلى جماليات تخص الظاهرة الآنية – حتى يستطيع أن يغطيها الشعر، أو حتى يفلح في تغطيتها.
الرواية من طبيعتها أصلاً أنها تلهث خلف تاريخ ما، وتعكس التاريخ وتمثل التاريخ، وهذا النوع الروائي العربي هو الأكثر شيوعاً.
وهناك مسألة إجرائية شديدة الأهمية أيضاً، هي أن بعض الناشرين يفضل -أو بات يفضل- أن ينشر رواية بدل أن ينشر ديواناً شعرياً لأن الرواية أكثر مبيعاً والرواية أكثر رواجاً والرواية أسهل حتى طباعياً وتوزيعاً من الدواوين الشعرية.. اليوم أنا سمعت رقماً إحصائياً أدهشني، بل أحزنني يعني إن أحد الناشرين التونسيين قال لي: إن الناشرين الآن بأماكن عديدة بالعالم العربي وربما يقصد تونس أيضاً أنهم لم يعودوا يطبعون أكثر من مائتي نسخة من المجموعة الشعرية..
• لدي مداخلتان على هذه الإجابة؛ المداخلة الأولى تقول إن جائزة البوكر أفسدت الذوق العربي أو بهذا المعنى، البوكر يُنظر لها على أنها جائزة مرموقة؟
•• أنا لم أقل أفسدت الذوق العربي، بل قلت أفسدت ذائقة قراءة الرواية.. الذوق العربي يمكن له علاقة بالموسيقى وله علاقة بالشعر.. بالتأكيد.
• طيب أفسدت ذائقة الرواية، لكنها جائزة مرموقة ومعروفة ولها لجنة تحكيم مرموقة؟
•• لا ليس دائماً صراحة، مع احترامي.
• بنسختها العربية أو بنسختها العالمية؟
•• الحقيقة الحكاية لا علاقة لها بالتحكيم قد تكون لجنة التحكيم ممتازة، وقد تكون القائمة القصيرة ممتازة، إلا أن السبب الذي جعل البوكر البريطانية تسحب اسمها من الجائزة العربية حتى صار اسمها الجائزة العالمية للرواية العربية هو النظام الداخلي للبوكر، النظام العربي - النظام الداخلي للبوكر العربي في الحقيقة قد يكون من أردأ الأنظمة الداخلية لتحكيم الجوائز في العالم.. لا أضع حكماً مطلقاً لكني مطّلع على أنظمة داخلية كثيرة بالعالم العربي.. وبالتالي أنت عندك نظام داخلي يتيح لاثنين من المحكمين -وقد حدث ذات مرة أن ثلاثة من أعضاء التحكيم بسبب تفضيلهم روائية أو روائي أعطوا علامة صفر من عشرة لأحد كبار الكتَّاب في الرواية، بالتالي أنت إذا أعطيت ثلاثة أصفار لا يمكن حتى إذا حاز عشرة على عشرة من اثنين آخرين (عشرين) فقد حرم الجائزة.
طبيعة النظام الداخلي للبوكر لا يتيح تثمين النص بما هو عليه من خصائص جمالية وأدبية وإنما يتيح فرصة التآمر على النصوص، أو فرصة الانحياز غير الجمالي للنصوص، وفرصة تفضيل نص على آخر بسبب مزاج لجنة التحكيم، وغيره، ليس دائماً طبعاً، أنا لا أريد أن أظلم أحداً.
• السؤال الثاني من المداخلة نفسها الآن قصيدة النثر تقول فيه نصوص نباهي بها العالم، أليس كذلك؟ لكن الذائقة العربية لقصيدة النثر أو التجاوب مع قصيدة النثر متدنٍ، كيف نرفعه؟
•• يا سيدي ليست الحكاية كيف نرفعه بل إن مزيداً من نماذج شعر قصيدة النثر التي نباهي بها -وسأخبرك لماذا نباهي بها الأمم- إذا توفرت، وبالتالي صار الطغيان الأكبر أو إذا أردت النسبة الأكبر من قصيدة النثر المتوفرة أمام ذائقة الشعر العربية جيدة أو ممتازة، لا بد لذائقة القارئ أن تتعدل وتتحسن؛ وبالتالي ترتقي مع قصيدة النثر، أما إذا كانت النماذج الأردأ هي الطاغية فالقارئ سيصاب بالعزوف ولا يُلام. ولا أستطيع أن ألوم القارئ إذا عزف عن قراءة هذا الشعر أو ذاك.
• الكرمل كمشروع وكمنجز قدمت للثقافة العربية كثيراً من الفائزين بنوبل، هل ترى إنه ما زالت الحاجة أن تعود الكرمل للذاكرة العربية بشكل آخر؟
•• أعتقد الحالة الثقافية العربية الراهنة تقتضي وجود كرملات وليس مجلة كرمل واحدة، وطبعاً لولا شخصية رئيس تحريرها محمود درويش الانفتاحية والحداثية واستعداده العالي لقبول الآخر لما نجحت.. ثمة مجلات لديها تمويل أفضل ومدعومة من جهات أعلى تعثرت. سأعطيك مثالين؛ المثال الأول: نحن في الكرمل قدمنا الشاعر «ديريك ولكوت» وهو أعظم الشعراء الذين كانوا يكتبون الشعر بالإنجليزية رغم أنه لم يكن إنجليزياً أي ليس بريطانياً ولا أمريكياً بل هو من جزر الكاريبي، نحن قدمناه. وكان محمود درويش شديد الحماس له حد التأثر لدرجة أنه رحمه الله قال لي مرة ممازحاً: «أنت عرّفتني على شاعر صرت أخاف أكتب شعراً بعده، أحسن ما أسرقه دون أن أدري».. هذا دليل رقي نفسه أيضاً، هو كشاعر مهموم بحاله.
النموذج الثاني أنا مرة جئت لدرويش وقلت له اسمع يا محمود فيه الآن مدارس نقدية طاغية في الغرب وشديدة الأهمية وليست شديدة الأهمية لأنها طاغية بل لأنها فعّالة جداً، ونحن في العالم العربي نحتاج إلى نظريات ما بعد الاستعمار والتي كان رائدها إدوارد سعيد لكن تولاها كتَّاب ونقاد وأكاديميون من المستعمرات السابقة، مستعمرات فرنسا وبريطانيا.. قال لي هيا ابدأ، فأنا أنجزت دراسة في حينها وتشرفت أن أكون أول من قدّم دراسة هذه النظريات بالعربية، لدرجة أنني عندما عرضت المادة على محمود وقرأها، هو طبعاً غير إنه شعر بالانجذاب الشديد لهذه النظريات قال لي: الغريب إن هذه النظريات عندما القارئ العربي يقرأ المادة أول شيء راح يوقف عنده - من باب الدعابة - ومن أسماء هؤلاء النقاد واحدة اسمها قمقم سنجاري، واحد اسمه هومي بابا وثالث عبدالرحمن جان محمد – في تلك المرحلة لم يكن أحد قد سمع باسم هومي بابا سنة 1976- يعني أحدثك في مرحلة مبكرة جداً؛ فبالتالي كان عند محمود إحساس إننا يجب أن نقدم ذلك لكن القارئ العربي سوف يشعر بالعجب أن هناك أسماء غير إدوارد سعيد، بقية كل الأسماء غريبة. لكن بعد أن نشرت المادة لحسن الحظ طبعاً الدكتور المرحوم جابر عصفور اتصل بمحمود قال له أنا تفاجأت بالمادة أنا راح أعمل دراسة أنا أريد أن نطور ونشجع الطلاب يشتغلون عليها.. ومنذ ذلك الحين الحقيقة نظريات ما بعد الاستعمار انتشرت وبدأ الناس يترجمون ويقرأون الآن كتب كثيرة عنها – هذا الدور الريادي كان للكرمل. بمعزل عن جانب ثالث أيضاً لعب فيه دوراً كبيراً سليم بركات حقيقة – سليم بركات كان في نيقوسيا ومحمود درويش في باريس بعد مرحلة بيروت سليم بركات كان ذا حس عالٍ بالتقاط الأصوات الشعرية التجريبية وبالتالي الكرمل نشرت أسماء شعراء كانوا ينشرون غالباً لأول مرة لكن فيما بعد تبيّن أو لم يطل الوقت حتى صاروا من كبار الأسماء الشعرية بالعالم العربي. هذا دور احتضان الأصوات الجديدة بروحية القبول -قبول الآخر- أحياناً كان فيه قصائد يا أخي والله ترهق بجمالها يعني، هي بنهاية المطاف صيغة تجريبية وتجريدية لا أحد يقبلها، ومشيت، وبالتالي لعبت الكرمل هذا الدور (دور العتبة) حتى يعبر الاسم إلى مواقع أخرى.
• كنت مركزاً على الدراسات المستقلة والقراءات ولكنك غيّرت قناعاتك وأصدرت مشروع إدوارد سعيد الناقد، هناك شخصية قريبة لك وأنت أكثر وعياً وأكثر قرباً منها وهي محمود درويش الشاعر، الناس تنتظر من صبحي الحديدي كتابةً يكمل مشروعه في قراءة غنائية محمود درويش؟
•• هذا سؤال يحزنني فعلاً أن أجاوب عليه لأن له علاقة بوجداني الشخصي.. أنا لدي كتاب عن محمود درويش يأتي ولا يأتي كما يُقال، أنا أكتب فيه منذ عام 2001 وهذا الكتاب يتغير.. سامحني يعني كل ثلاثة أشهر يقلب ويدور إلى آخره، وبالتالي عندي قناعة بسيطة حول هذا الكتاب محزنة لكني عنيت فيها إنه لن أُصدر كتابين عن محمود درويش بل كتاباً واحداً، وبالتالي طالما سأصدر كتاباً واحداً لن أصدره حتى أُشبِع ما في نفسي من ضرورات إضاءة تجربة محمود درويش، وإذا ما أضأت ما أصدره حتى أقتنع، لقد كتبت كثيراً عن محمود -الحمد لله- وهو كشخصية، بالنسبة إليَّ محمود درويش حقل قراءة أكثر منه شاعراً.
لدي يقين أنني شخصياً لن أُصدر هذا الكتاب إلا أن أكون والله أعلم قد أقنعت نفسي إني أنصفت الرجل. وأروي لكم حكاية شخصية لا أرويها هنا إلا لأنه هو (أي درويش) رواها في حوار سابق، ذات يوم أنا كنت في عمّان من أجل مهرجان جرش واتعشيت أنا وياه بالبيت هو طبخ، غالباً لما نروح على الأردن أنت تعرف خصوصية صداقتنا، وبعد ما اتعشينا وأنا على الباب راجع إلى الفندق أعطاني مغلفاً أصفر وقال «خذ هذا الديوان جديد لا تعذب حالك فيه بعمان، بس ترجع على باريس اقرأه وأنا جاي على باريس بعد أسبوعين نحكي فيه».. ديوان جديد مخطوط، فأنا كنت جايب معي كتاب محمود درويش جاهزاً للطباعة.. حتى على أيامه كان على فلوبي مش على سي دي، وموجود بالفندق ولم أخبره أنني أحضرت الكتاب للطباعة خلاص، وأخبرت الناشر ماهر كيالي وهو ينتظر على جمر، قلت له «أنا جاي على عمان وجايبلك الكتاب معايا، لكن بس لا تخبر حدا لأني يمكن أغير رأيي في آخر لحظة»، رجعت على الفندق وفتحت المغلف – (ما فيِّ استنى على باريس) – فإذا به مجموعة «سرير الغريبة» التي هي من الألف إلى الياء قصيدة حب، ومحمود درويش أول مرة في حياته يكرس مجموعة كاملة لقصيدة حب، فضلاً عن ذلك أول مرة يجرب شكل السوناتا الذي لا يمكن أن يكون فيه شاعر كبير ومختمر إلا ويقع تحت إغواء كتابة السوناتا ذات يوم.. هذا معروف في تاريخ الإنسانية.
فلما قرأته قلت من غير المعقول يصدر كتابي عن محمود درويش دون هذا؟ رجعت الفلوبي على الحقيبة، المهم ما حكيت له.. طبعاً ليس سرّاً أنني طالعت مخطوطات محمود درويش من سنة 1991 وكل المسودات عندي في بيتي... وقد وعدت إذا أنشئ متحف محترم لمحمود درويش فسأهديهم إياها كلها.
جاء درويش إلى باريس قال لي: «شو الموضوع، شو صار في الملف»؟ قلت له: «اسمع أنا بحكي لك سر.. هيك، هيك، هيك.. قال لي: تعال يا أخي اتفق أنا وياك، أنت ما تمنعني أكتب شعر. قلت له: طبعاً.. حاشا لله. قال رحمه الله: أنا أتوقف عن إصدار أي كتاب جديد وأنت تطلع الكتاب (وهذا عليه شهود أصدقاء) قلت له: لا هذا ظلم، بس خلاص أنت يا أخي «مش كل يوم بتطلع كتاب قصيدة حب».
الكتاب سيصدر ذات يوم إن شاء الله إذا أمد الله في عمري. هو الرجل صار في عالم آخر الله يرحمه، ما عاد يكتب شعراً جديداً؛ لكن أنا أيضاً أتعلم كل يوم جديداً يفيدني في إنصاف محمود درويش، وأنا أيضاً أتطور وأنضج بما يتيح لي إني أتأنى قليلاً قبل أن أصدره، والكتاب الآن يعني تجاوز ألف وأربعمائة صفحة، والله صرت محتاراً قليلاً: ماذا أعمل فيه، أصدره جزءاً أو جزأين أو ماذا أعمل فيه بالضبط؟
• المحطات الأخيرة في الكلام -كلامك عن محمود درويش كلام القريب العميق- هل نقول أن هناك مئات شعراء الإدغام في العربية ولكن محمود درويش هو الشاعر الوحيد الذي كان يتطور؟
•• لا، هذا حرام، هذا عن جد ظلم وغُبن كبير. لا، كل يعني غالبية الشعراء العرب في حالة تطور شاءوا أم أبوا، بأي معنى شاءوا أم أبوا إذا يلتفت على زميله الشاعر أو يقرأ قصيدة زميله لا بد أن يغار هذا ما حكى عنه هارولد بلوم بصدد هاجس التأثير.. الشاعر لازم يتأثر إجباري لكن دعني أخبرك عن خصوصية محمود درويش.
كان لديه قلق ليس قلق التأثير على طريقة هارولد بلوم، إنما هاجس تطوير أدواته وهاجس إذا أردت معاندة القارئ -إذا صح هذا التعبير- يعني يجيء القارئ أمسية شعرية أو ينتظر ديواناً جديداً لمحمود درويش، وهو مُشبع بأحمد الزعتر وبيروت وسجل أنا عربي، وأحن إلى خبز أمي... ثم يتفاجأ بأن عند درويش شيء جديد، القارئ لأول مرة ينفر منه قليلاً، أو يشعر بالاغتراب لكنه يعود يُقبل عليه، وهذه معادلة محمود الجميلة، القارئ يُقبل على جديد محمود درويش ويتفاعل معه، بهذا المعنى كان عنده هاجس القلق والتطوير إلى حد كبير.
زد على ذلك، لست أدري إن كان قد ظُلم بمسألة لأي درجة كان يتعلم من الآخرين، يتعلم حرفياً ولا أقول يتأثر، لدينا أصدقاء شعراء قصيدة نثر أنا مراراً أثبت لهم نصياً أن محمود درويش يتعلم من قصيدة النثر.. وطال الزمان أو قصر سوف نرى. قبل ما يتوفى نشر «أثر الفراشة» فأنت إذا ما قرأت هذه المجموعة، أو حتى «في حضرة الغياب»، لا يمكن أن تقول إن هذا رجل لا يكتب قصيدة نثر، أو لا يقارب النثر شعرياً.
وثمة أناس يعدّون إصرار محمود درويش على التطور أقرب إلى السُّبة، قال لي أحد كبار الشعراء العرب: يا أخي صاحبك كأنه عداء المسافات الطويلة يعني، قلت له كيف؟ قال لي: «يا أخي ما بدنا نلحق فيه؟».. يعتبرون هذا نوعاً من الإحراج لهم، «ليش تتطور كتير يا أخي، أتطور على مهل زينا يعني مثلاً»، فهمت..
• المقدمة التي كتبها إلياس خوري في ديوان درويش الأخير «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي».. هل ترى له مبررات؟
•• إلياس لم يكتب مقدمة، إلياس كتب نوعاً من التفسير كيف عثروا على القصيدة بالدرج، وإشكالاتها، وهل هي كاملة أم لا، والحقيقة للإنصاف المرحوم رياض الريس صاحب دار الريس وهو في العالم الآخر، لكني أنصفه على كل حال إلياس خوري ما يزال حياً ويعرف، رفض ينشرها مع الكتاب، قال له: سامحني محمود درويش مرة واحدة سمح أنّ أحداً يكتب له كلمة غلاف، أو يتدخل بديوانه.. وأنا سأطبع لك كلمتك في كُرّاس سأضعه داخل الغلاف النايلون من الكتاب، وهكذا صدر. رفض رياض الريس أن يدرج المقدمة ضمن الكتاب، لأن الحقيقة لأسباب تتجاوز عادة رياض الريس، الذي كان هو أيضاً منضبطاً ويلتزم بتقاليد النشر، كما إن الريس استفتى بعض أصدقاء درويش.. أنا منهم. كما كلمني إلياس خوري من عمان، قبل ذلك قال لي: «نروح نفتح أدراج محمود درويش تعالوا.. قلت له: لا آتي، أنا ما أفتح درج محمود درويش وأنا أربأ فيك كصديق لمحمود درويش أن تفتح درجه. فتحوا الدرج ولقوا القصيدة، قلت لإلياس هذه مسودة حرام عليكم محمود درويش له فيلم صورته سيمون بيتون – وهو يكتب - قالت له «أصور شو عم تكتب»، قال لا، وغطاها بيده كأنها عورة، فالمسودة بالنسبة له عورة.. وصورته حية بالفيديو يمد يده، قائلاً لا»..
إنني أعتبر مسودات كبار الشعراء عورات حتى ينتهوا منها. إذا فرغ منها يصلحها؛ لذلك مثلاً بعد ما نُشرت قصيدة «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» طلع عدد الأصوات من المخلصين أو «الغيورين» على محمود درويش أو «غيرانين» طلعوا له أخطاء تفعيلة، صحيح.. وطلعوا أخطاء نحو، صحيح.. القصيدة كانت في حالة مسودة، واتصل بي رياض الريس وقلت له: أنا خارج هذا المشروع نهائياً إلياس حكى معي كصديق، وحكى معي شقيق محمود درويش أحمد، وقلت أنا لا أشارك، أنتم تسطون على محمود درويش هكذا. طبعاً بعض الناس اعتبروا أن إلياس خوري أراد نشر القصيدة من زاوية الشهرة، وهذا غير صحيح فإلياس ليس مجهولاً، بل مشهور، وكان صديقاً لمحمود ويحبه، هذا الذي أنا أسميته وقلته لإلياس إن هذا «من الحب ما قتل»، ما يحق لك، هذه المسودات تُحفظ في متحف وتُمنح للباحثين فقط يقرأونها داخل المكتبة حتى «ما بيعمل فوتوكوبي عنها»، فيه مسودات لشعراء وكتاب بالقانون ممنوع إنها تُنشر، اذهب إلى مركز أبحاث اقرأها هناك، هذا ثمن محبة الناس له.
• هل هناك مشكلة بين الأخوين درويش محمود وأحمد؟
•• أحمد صار في دنيا آخرة الله يرحمه. لذلك سامحني، فيه مشكلة أنا أحكي لك المشكلة اللي أنا حكيتها لأحمد وأحكي لك عن أحمد لأن عليها شهود مش وحدي أنا وإياه، لكن الرجل صار في عالم آخر، الله يرحمه.
أحمد مر أحد الأصدقاء ممن يعرفون أنني قريب من محمود قال لي «يا زلمة، مذيع لبناني عمل برنامج عن محمود درويش وطلع من جيبه قلم قال هذا القلم هدية من محمود درويش، ورفعه يعرضه على التلفزيون».. كان الله يرحمه محمود عنده هواية أقلام الحبر هو يشتري وتُهدى له كثيراً وما يكتب غير بالحبر كان عنده مجموعة جميلة جداً.. فهذا الرجل سألني غيرةً على محمود قال لي «الزلمة كان يكرهه»، قلت له «مش بس يكرهه أنا ما أعتقد إنه بحياته شافه فكيف بيعطيه القلم»؟ سألت قالوا لي إن هذا هدية من أحمد درويش إلى هذا الأخ المذيع.. بعدين حكوا لي قالوا لي بعد ما توفى محمود أخوه جاب المفتاح وفتح البيت، طيب ماشي خذها يا أخي هي لأخوك هذا إرث أخيك. لكن فيه وزير ثقافة بدولة عربية قال لي هذا القميص هدية من محمود درويش قلت له بالليل ولا بالنهار يا ابن الحلال، قال لا أخوه أعطاني إياه، هنا أنا قلت لأحمد عيب عليك عن جد يعني الله يرحمه، شكيته لأمه، أمه تعرفني وعلاقتي بمحمود، شكيته قالت لي «شو عمل أحمد»، قلتها يا حاجة أنتِ «حق عليكِ ألقي عليه يمين»..
هناك موضوع غيرة أيضاً عليه شهود حيث بعد وفاة محمود عقد إخواننا بالمغرب جلسة في معرض الكتاب خصصت لتكريم محمود درويش، حضرها سعدي يوسف وأحمد درويش والعبد الفقير إليه تعالى وآخرون، طبعاً يا سيدي كل واحد تحدث عن محمود، حين جاء دور أحمد ماذا روى للجمهور قال: كان محمود درويش في طفولته يكتب الشعر، وكنت أنا أكتب القصة القصيرة، وكان رحمه الله يغار مني دائماً، واسمحوا لي بأن أقرأ عليكم نموذجاً من قصصي القصيرة. سعدي يوسف جن ذاك الحين، لم يتحمل عقله قال له: «شو أنت يا أحمد، إحنا نكرم محمود ولا نكرمك أنت».
• إدوار سعيد الناقد، هذا الجزء الغائب غير المعروف منه أحياناً، وإن كان يرى فيما يخفى عليه البُعد الأيديولوجي في مشروع ما بعد الاستعمار انطلاقاً من إدوارد سعيد، هل ترى أن هنالك مجالاً للقارئ العربي أن يطلع على هذا البُعد؟
••إدوارد سعيد للإنصاف كقامة نقدية هو أعلى بكثير وأسبق من حكاية تقديم نظريات ما بعد الاستعمار، لكن نظريات ما بعد الاستعمار صار لها صفة إغوائية عالية وجاذبية عالية فانشدَّت إليها الناس والنقاد والباحثون لأنها أيضاً تخاطب العالم النامي إلى آخره.
• في عالمنا العالم العربي نوهم أنفسنا بنوبل، هل هي بعيدة عن العرب؟
•• الذين استحقوا نوبل من الشعراء على الأقل وربما بعض الروائيين ليسوا على الإطلاق أعظم من نظرائهم العرب، في تقديري عشرة على الأقل من الأسماء لو بقيت على قيد الحياة يجب أن يكونوا من الأسماء العربية الراهنة تستحق نوبل، كل دورة، عشرة على الأقل. ونبقى عند المثال الذي دائماً يطرح هو أدونيس.. وأدونيس أنا بيني وبينه خلاف سياسي وتراثي، وليست لدي أي مشكلة معه كشاعر كبير، أحد كبار شعراء العرب الرواد، مش مشكلتي.. مشكلتي معه منهجياته فيما يخص التفكير حول التراث، فيما يخص الفكر، أنا أختلف معه، وأنا رجل ماركسي. ما عندي مشكلة مع التراث بمعنى الانحياز للتراث لأسباب دينية، لأسباب إقليمية أو أسباب تربوية فقط لدراساته للتراث وبالنسبة لخياراته السياسية ومواقفه مع نظام مجرم.. إلا أن أدونيس يستحق نوبل يمكن من خمس عشرة سنة، أنا أحدثك نجيب محفوظ استحقها أولاً عن جدارة، لكن الذي يطرح كل مرة ويستحق هو فعلاً أدونيس، ولأسباب كثيرة تخص شعريته. لكن نوبل مُسيَّسة، يعني تجيء بـ«بوب ديلان» تعطيه جائزة الشعر رغم أن فيه عشرين شاعراً بالعالم أهم منه.. نوبل مسيَّسة أولاً، ونوبل ظرفية ثانياً ونوبل شيء طبيعي جائزة تتأثر بما يجري في العالم، لما أقول لك ظرفية بهذا المعنى يعني، ما تعطى لأدونيس وما تعطى لعربي لأسباب أنا بحكيلك ليس إبداعية ولا جمالية لأسباب سياسية محضة، وبسبب توازنات القوى التي تكتنف الجائزة سواء كانت في بلدها الأم أو في العالم المحيط فيها. وحين أقول لأسباب سياسية ليس معناها لا يعطونها لمعارض لأن غالبية الذين حصلوا عليها في الفترة الأخيرة كانوا معارضين للخط الأمريكي ومعارضين للإمبريالية، لكن الحكاية أنت تجيء على العرب عندك حاجز الثقافة الإسلامية، حاجز القضية الفلسطينية، حاجز الإرهاب، حاجز التطرف، كل هذا موجود هذه الاعتبارات موجودة، إلا أن الذين يستحقونها أنا بحكيلك هناك عشرة على الأقل أسماء موجودة تستحق الجائزة كل سنة، كلما مرت سنة يطلع واحد ويستحقها.
• ما العمل الذي تمنيت ترجمته؟
•• الأعمال التي تمنيت ترجمتها اشتغلت عليها، وترجمتُها لكن العمل الذي أتمنى أن تعاد ترجمته لأنه مترجَم مرتين هو «يوليسيس» جيمس جويس، لكنني لا أستطيع. لأنه عمل لا أعتقد أن عشر ترجمات تفيه حقه؛ لأنه حسب يقيني أعظم رواية في العصر الحديث. بالنسبة إليَّ الرواية الأعظم قبل «يوليسيس» هي «دون كيخوتيه» لسرفاتيس وهذه أم الروايات، لكن بالعصر الحديث، بداية القرن العشرين وما نحن عليه الآن هذه أعظم رواية شكلاً ومضموناً ولغةً، ما أعتقد أن روائياً اشتغل أو يتجاسر على الاشتغال باللغة بالطريقة التي اشتغل فيها جيمس جويس؛ ولذلك عشر ترجمات لا تفيه حقه.
في هذا الحوار، يكشف الناقد حديدي كل شيء: تفاصيل خاصة من حياة الراحل الكبير محمود درويش رحمه الله، علاقة إخوان أو أشقاء محمود درويش به، مصداقية جائزة البوكر، نوبل الجائزة ومن استحقها ونالها مثل نجيب محفوظ، ومن استحقها ولم ينلها لأسباب سياسية كأدونيس..
إنه حوار مختلف مع مثقف كبير له الكثير من الآراء والمواقف التي نتفق مع بعضها ونختلف مع بعضها الآخر، ولكن لن نصل إلى أي أفق دون الحوار.. هنا نص المقابلة الرحبة مع (صبحي حديدي):
• حضرت مبكراً في المشهد الثقافي العربي ناقداً، لكنك اقتصرت على إصدارات قلة ومشاريع معينة وترجمات محدودة واكتفيت بالعمل الثقافي.. لماذا؟
•• في الحقيقة أنا لم أكتفِ بالعمل الثقافي أنا جمعت مبكراً بين العمل النقدي والعمل السياسي، وحين أقول العمل أقصد العمل التنظيمي والكتابة السياسية، وبالتالي هذا الانخراط المزدوج كان يبادل التأثير، فالنص السياسي يتأثر بالمناخ الثقافي والعكس أيضاً صحيح بالنسبة للميدان فقط، أما بالنسبة إلى الإصدارات فالحقيقة أنا منذ البدء كان عندي يقين شخصي التزمت به طويلاً ثم تبيّن لي أنه كان خاطئاً، هذا اليقين كان هو الرهان على الدراسة المنفردة في إقامة علاقة نقدية وجدلية ومعمقة مع القارئ أكثر من الكتاب بمعنى كنت أركز على الدراسات المستقلة، سواء كانت دراسة مشهد أو دراسة ظاهرة أو دراسة شعر أو دراسة رواية، يعني كتلة معينة من الظواهر الثقافية الإبداعية من خلال الدراسة المنفردة خلال ما كنت أنشر في دوريات عدة، كنت أعتقد أن هذه الوسيلة تقيم علاقة نقدية مع القارئ بمعنى أن يكون معي أو أن يخالفني، وكان ما يشجعني حقيقة على المضي في هذا الخيار أنه كل ما زرت بلداً عربياً أشعر بأن لهذه الدراسات صدى، وهذا هو المعنى الذي كنت أطمح إليه، لكن تبين لي بعد ذلك بأن كثيراً مما كان ينشر في دوريات مهمة وأساسية مثل الكرمل يكاد يندثر ولم يعد ممكناً أن تزور مواقع تلك الدراسات أو القراءات، فبالتالي إذا كانت لها من جدوى ويمكن أن توضع ضمن تركيبة مفيدة عامة تحمل شخصية ما بالتالي هذه الحقيقة كان يمكن هنا خطأ نسبي، فبالتالي عدت وجمعت بعضها ثم أكملت دراسات أخرى على سبيل المثال كتاب كامل هذا لم أنشر منه قبل حرفاً واحداً هو إدوارد سعيد الناقد.
• وما مبرر هذا الكتاب؟
•• اسم الكتاب هو «إدوارد سعيد الناقد آداب التابع وثقافة الإمبريالية»، وأنا يقيني أن إدوارد سعيد معروف بالعالم العربي كشخصية فلسطينية مناضلة، وشخصية ناقدة للاستشراق، وهو أحد الناس المؤسسين للخطاب ما بعد الاستعماري وكل هذه المسائل، لكن شخصيته كناقد وهي الأهم في الغرب وفي الولايات المتحدة وهي كانت بداياته الألمع قبل ما يفكر بالاستشراق أو يكتب كتاب «تغطية الإسلام» إلى ذلك؛ هذه الشخصية غير موجودة في العالم العربي، فبالتالي أنا كرّست له كتاباً كاملاً.. وهذا بخلاف عادتي في المراهنة على الدراسات المنفردة.. وبالتالي صار عندي منذ خمس سنوات. وأيضاً ربما بإقناع أقرب إلى الضغط الودي من أصدقاء أقنعوني بأنه لا بد من الكتاب في نهاية المطاف، أياً كانت المظان حول الكتاب وهي مظان لا تزال موجودة عندي.
وبالتالي صدرت هذه الأعمال وصار نوع من التزاوج الصحي إذا صح التعبير، وأنا أفترض أنه صحي بين الإصدارات ذات الطابع النقدي والثقافي وبين الانتماء إلى المشهد السياسي العربي والدولي، وأنا أزعم أنني أحد أكثر المنخرطين في دراسة الولايات المتحدة كظواهر سياسية وظواهر سيسيولوجية وظواهر ثقافية إلى آخره، وبالتالي هذا الجمع ما بين الميدانين أعتقد أنه على مشقته قد يكون في الواقع مفيداً.
أنا أعترف أيضاً أن في ذمتي ديناً كبيراً في هذا الاتجاه هو لإدوارد سعيد أنا أذكر بأنني حين قررت أن أكتب مقالة سياسية للمرة الأولى، فسألته أنت تكتب مقالات سياسية ومقالات نقدية، هل ترى تناقضاً ما بين الاتجاهين والنشاطين؟ فقال لي واستخدم تعبيراً عامياً فلسطينياً شامياً: الناقد الذي لا يكتب مقالاً سياسياً كبّرْ عليه يعني اعتبره في حكم الميت، بعيد الشر.
• بين الشعر والرواية، ما هو السياق الإبداعي العربي الأكثر حضوراً؟
•• إذا كنت تسألني عن الفترة الراهنة، الرواية هي المسيطرة لكن هذا ليس ظاهرة إيجابية على أي مستوى من وجهة نظري دائماً.. أنا أتفادى الإطلاق ولكن ثمة ظواهر لن تستطيع أن تكون فيها معللاً ومعمماً قدر الإمكان.. الحقيقة هناك هيمنة للرواية على الشعر على عكس الخرافة التي تقول إن الشعر ديوان العرب حتى بمعنى علم الاجتماع؛ لكن الرواية المهيمنة لأسباب قد تكون عميقة وقد تكون سطحية وقد تكون تجارية.. فلنبدأ من أن الرواية أكثر رواجاً وأن الإصدارات الروائية أكثر انتشاراً؛ لأنها أيضاً تقارب تماس القارئ مع فكرة المسلسل وفكرة الفيلم السينمائي وفكرة الحكاية والحكي إجمالاً.
زد أن الرواية يمكن تكون فعلاً من وراء المغزى التجاري لجوائز مثل البوكر على سبيل المثال التي أعتقد أنا مع احترامي لكل من فاز بها أو حكَّم فيها يعني هي أفسدت الذائقة العربية التي نستطيع أن نقول عنها متقدمة فما بالك إذا كانت راقية.. البوكر أفسدتها بمعنى صار القارئ ينظر إلى حدث أن هذه الرواية فازت بالجائزة وبالتالي هذه هي الرواية بما تعنيه من معطيات جمالية شكلاً ومضموناً و... و... إلى آخره هي الرواية المثلى؛ وبالتالي صار يقرأ أي رواية أخرى حتى الكلاسيكية على قياس الفائز بالبوكر -وهذا مرة ثانية- مع احترامي للفائزين بالبوكر والفائزات الذين يستحقون التكريم وليس بالضرورة الجائزة..
الآن ثمة عنصر ثالث أعتبره عنصراً عميقاً هو الرواية أقرب إلى مخاطبة التاريخ اليومي بمعنى أنت نادراً ما تقرأ قصيدة تغطي الكوفيد مثلاً أو تغطي انقلاباً عسكرياً في بلد ما أو تغطي ثورات الربيع العربي.. تجد قصائد طبعاً؛ لكن الشاعر لا يلهث خلف الآني، الشاعر يحتاج إلى اختمار، ويحتاج إلى تبصر عميق، ويحتاج إلى جماليات تخص الظاهرة الآنية – حتى يستطيع أن يغطيها الشعر، أو حتى يفلح في تغطيتها.
الرواية من طبيعتها أصلاً أنها تلهث خلف تاريخ ما، وتعكس التاريخ وتمثل التاريخ، وهذا النوع الروائي العربي هو الأكثر شيوعاً.
وهناك مسألة إجرائية شديدة الأهمية أيضاً، هي أن بعض الناشرين يفضل -أو بات يفضل- أن ينشر رواية بدل أن ينشر ديواناً شعرياً لأن الرواية أكثر مبيعاً والرواية أكثر رواجاً والرواية أسهل حتى طباعياً وتوزيعاً من الدواوين الشعرية.. اليوم أنا سمعت رقماً إحصائياً أدهشني، بل أحزنني يعني إن أحد الناشرين التونسيين قال لي: إن الناشرين الآن بأماكن عديدة بالعالم العربي وربما يقصد تونس أيضاً أنهم لم يعودوا يطبعون أكثر من مائتي نسخة من المجموعة الشعرية..
• لدي مداخلتان على هذه الإجابة؛ المداخلة الأولى تقول إن جائزة البوكر أفسدت الذوق العربي أو بهذا المعنى، البوكر يُنظر لها على أنها جائزة مرموقة؟
•• أنا لم أقل أفسدت الذوق العربي، بل قلت أفسدت ذائقة قراءة الرواية.. الذوق العربي يمكن له علاقة بالموسيقى وله علاقة بالشعر.. بالتأكيد.
• طيب أفسدت ذائقة الرواية، لكنها جائزة مرموقة ومعروفة ولها لجنة تحكيم مرموقة؟
•• لا ليس دائماً صراحة، مع احترامي.
• بنسختها العربية أو بنسختها العالمية؟
•• الحقيقة الحكاية لا علاقة لها بالتحكيم قد تكون لجنة التحكيم ممتازة، وقد تكون القائمة القصيرة ممتازة، إلا أن السبب الذي جعل البوكر البريطانية تسحب اسمها من الجائزة العربية حتى صار اسمها الجائزة العالمية للرواية العربية هو النظام الداخلي للبوكر، النظام العربي - النظام الداخلي للبوكر العربي في الحقيقة قد يكون من أردأ الأنظمة الداخلية لتحكيم الجوائز في العالم.. لا أضع حكماً مطلقاً لكني مطّلع على أنظمة داخلية كثيرة بالعالم العربي.. وبالتالي أنت عندك نظام داخلي يتيح لاثنين من المحكمين -وقد حدث ذات مرة أن ثلاثة من أعضاء التحكيم بسبب تفضيلهم روائية أو روائي أعطوا علامة صفر من عشرة لأحد كبار الكتَّاب في الرواية، بالتالي أنت إذا أعطيت ثلاثة أصفار لا يمكن حتى إذا حاز عشرة على عشرة من اثنين آخرين (عشرين) فقد حرم الجائزة.
طبيعة النظام الداخلي للبوكر لا يتيح تثمين النص بما هو عليه من خصائص جمالية وأدبية وإنما يتيح فرصة التآمر على النصوص، أو فرصة الانحياز غير الجمالي للنصوص، وفرصة تفضيل نص على آخر بسبب مزاج لجنة التحكيم، وغيره، ليس دائماً طبعاً، أنا لا أريد أن أظلم أحداً.
• السؤال الثاني من المداخلة نفسها الآن قصيدة النثر تقول فيه نصوص نباهي بها العالم، أليس كذلك؟ لكن الذائقة العربية لقصيدة النثر أو التجاوب مع قصيدة النثر متدنٍ، كيف نرفعه؟
•• يا سيدي ليست الحكاية كيف نرفعه بل إن مزيداً من نماذج شعر قصيدة النثر التي نباهي بها -وسأخبرك لماذا نباهي بها الأمم- إذا توفرت، وبالتالي صار الطغيان الأكبر أو إذا أردت النسبة الأكبر من قصيدة النثر المتوفرة أمام ذائقة الشعر العربية جيدة أو ممتازة، لا بد لذائقة القارئ أن تتعدل وتتحسن؛ وبالتالي ترتقي مع قصيدة النثر، أما إذا كانت النماذج الأردأ هي الطاغية فالقارئ سيصاب بالعزوف ولا يُلام. ولا أستطيع أن ألوم القارئ إذا عزف عن قراءة هذا الشعر أو ذاك.
• الكرمل كمشروع وكمنجز قدمت للثقافة العربية كثيراً من الفائزين بنوبل، هل ترى إنه ما زالت الحاجة أن تعود الكرمل للذاكرة العربية بشكل آخر؟
•• أعتقد الحالة الثقافية العربية الراهنة تقتضي وجود كرملات وليس مجلة كرمل واحدة، وطبعاً لولا شخصية رئيس تحريرها محمود درويش الانفتاحية والحداثية واستعداده العالي لقبول الآخر لما نجحت.. ثمة مجلات لديها تمويل أفضل ومدعومة من جهات أعلى تعثرت. سأعطيك مثالين؛ المثال الأول: نحن في الكرمل قدمنا الشاعر «ديريك ولكوت» وهو أعظم الشعراء الذين كانوا يكتبون الشعر بالإنجليزية رغم أنه لم يكن إنجليزياً أي ليس بريطانياً ولا أمريكياً بل هو من جزر الكاريبي، نحن قدمناه. وكان محمود درويش شديد الحماس له حد التأثر لدرجة أنه رحمه الله قال لي مرة ممازحاً: «أنت عرّفتني على شاعر صرت أخاف أكتب شعراً بعده، أحسن ما أسرقه دون أن أدري».. هذا دليل رقي نفسه أيضاً، هو كشاعر مهموم بحاله.
النموذج الثاني أنا مرة جئت لدرويش وقلت له اسمع يا محمود فيه الآن مدارس نقدية طاغية في الغرب وشديدة الأهمية وليست شديدة الأهمية لأنها طاغية بل لأنها فعّالة جداً، ونحن في العالم العربي نحتاج إلى نظريات ما بعد الاستعمار والتي كان رائدها إدوارد سعيد لكن تولاها كتَّاب ونقاد وأكاديميون من المستعمرات السابقة، مستعمرات فرنسا وبريطانيا.. قال لي هيا ابدأ، فأنا أنجزت دراسة في حينها وتشرفت أن أكون أول من قدّم دراسة هذه النظريات بالعربية، لدرجة أنني عندما عرضت المادة على محمود وقرأها، هو طبعاً غير إنه شعر بالانجذاب الشديد لهذه النظريات قال لي: الغريب إن هذه النظريات عندما القارئ العربي يقرأ المادة أول شيء راح يوقف عنده - من باب الدعابة - ومن أسماء هؤلاء النقاد واحدة اسمها قمقم سنجاري، واحد اسمه هومي بابا وثالث عبدالرحمن جان محمد – في تلك المرحلة لم يكن أحد قد سمع باسم هومي بابا سنة 1976- يعني أحدثك في مرحلة مبكرة جداً؛ فبالتالي كان عند محمود إحساس إننا يجب أن نقدم ذلك لكن القارئ العربي سوف يشعر بالعجب أن هناك أسماء غير إدوارد سعيد، بقية كل الأسماء غريبة. لكن بعد أن نشرت المادة لحسن الحظ طبعاً الدكتور المرحوم جابر عصفور اتصل بمحمود قال له أنا تفاجأت بالمادة أنا راح أعمل دراسة أنا أريد أن نطور ونشجع الطلاب يشتغلون عليها.. ومنذ ذلك الحين الحقيقة نظريات ما بعد الاستعمار انتشرت وبدأ الناس يترجمون ويقرأون الآن كتب كثيرة عنها – هذا الدور الريادي كان للكرمل. بمعزل عن جانب ثالث أيضاً لعب فيه دوراً كبيراً سليم بركات حقيقة – سليم بركات كان في نيقوسيا ومحمود درويش في باريس بعد مرحلة بيروت سليم بركات كان ذا حس عالٍ بالتقاط الأصوات الشعرية التجريبية وبالتالي الكرمل نشرت أسماء شعراء كانوا ينشرون غالباً لأول مرة لكن فيما بعد تبيّن أو لم يطل الوقت حتى صاروا من كبار الأسماء الشعرية بالعالم العربي. هذا دور احتضان الأصوات الجديدة بروحية القبول -قبول الآخر- أحياناً كان فيه قصائد يا أخي والله ترهق بجمالها يعني، هي بنهاية المطاف صيغة تجريبية وتجريدية لا أحد يقبلها، ومشيت، وبالتالي لعبت الكرمل هذا الدور (دور العتبة) حتى يعبر الاسم إلى مواقع أخرى.
• كنت مركزاً على الدراسات المستقلة والقراءات ولكنك غيّرت قناعاتك وأصدرت مشروع إدوارد سعيد الناقد، هناك شخصية قريبة لك وأنت أكثر وعياً وأكثر قرباً منها وهي محمود درويش الشاعر، الناس تنتظر من صبحي الحديدي كتابةً يكمل مشروعه في قراءة غنائية محمود درويش؟
•• هذا سؤال يحزنني فعلاً أن أجاوب عليه لأن له علاقة بوجداني الشخصي.. أنا لدي كتاب عن محمود درويش يأتي ولا يأتي كما يُقال، أنا أكتب فيه منذ عام 2001 وهذا الكتاب يتغير.. سامحني يعني كل ثلاثة أشهر يقلب ويدور إلى آخره، وبالتالي عندي قناعة بسيطة حول هذا الكتاب محزنة لكني عنيت فيها إنه لن أُصدر كتابين عن محمود درويش بل كتاباً واحداً، وبالتالي طالما سأصدر كتاباً واحداً لن أصدره حتى أُشبِع ما في نفسي من ضرورات إضاءة تجربة محمود درويش، وإذا ما أضأت ما أصدره حتى أقتنع، لقد كتبت كثيراً عن محمود -الحمد لله- وهو كشخصية، بالنسبة إليَّ محمود درويش حقل قراءة أكثر منه شاعراً.
لدي يقين أنني شخصياً لن أُصدر هذا الكتاب إلا أن أكون والله أعلم قد أقنعت نفسي إني أنصفت الرجل. وأروي لكم حكاية شخصية لا أرويها هنا إلا لأنه هو (أي درويش) رواها في حوار سابق، ذات يوم أنا كنت في عمّان من أجل مهرجان جرش واتعشيت أنا وياه بالبيت هو طبخ، غالباً لما نروح على الأردن أنت تعرف خصوصية صداقتنا، وبعد ما اتعشينا وأنا على الباب راجع إلى الفندق أعطاني مغلفاً أصفر وقال «خذ هذا الديوان جديد لا تعذب حالك فيه بعمان، بس ترجع على باريس اقرأه وأنا جاي على باريس بعد أسبوعين نحكي فيه».. ديوان جديد مخطوط، فأنا كنت جايب معي كتاب محمود درويش جاهزاً للطباعة.. حتى على أيامه كان على فلوبي مش على سي دي، وموجود بالفندق ولم أخبره أنني أحضرت الكتاب للطباعة خلاص، وأخبرت الناشر ماهر كيالي وهو ينتظر على جمر، قلت له «أنا جاي على عمان وجايبلك الكتاب معايا، لكن بس لا تخبر حدا لأني يمكن أغير رأيي في آخر لحظة»، رجعت على الفندق وفتحت المغلف – (ما فيِّ استنى على باريس) – فإذا به مجموعة «سرير الغريبة» التي هي من الألف إلى الياء قصيدة حب، ومحمود درويش أول مرة في حياته يكرس مجموعة كاملة لقصيدة حب، فضلاً عن ذلك أول مرة يجرب شكل السوناتا الذي لا يمكن أن يكون فيه شاعر كبير ومختمر إلا ويقع تحت إغواء كتابة السوناتا ذات يوم.. هذا معروف في تاريخ الإنسانية.
فلما قرأته قلت من غير المعقول يصدر كتابي عن محمود درويش دون هذا؟ رجعت الفلوبي على الحقيبة، المهم ما حكيت له.. طبعاً ليس سرّاً أنني طالعت مخطوطات محمود درويش من سنة 1991 وكل المسودات عندي في بيتي... وقد وعدت إذا أنشئ متحف محترم لمحمود درويش فسأهديهم إياها كلها.
جاء درويش إلى باريس قال لي: «شو الموضوع، شو صار في الملف»؟ قلت له: «اسمع أنا بحكي لك سر.. هيك، هيك، هيك.. قال لي: تعال يا أخي اتفق أنا وياك، أنت ما تمنعني أكتب شعر. قلت له: طبعاً.. حاشا لله. قال رحمه الله: أنا أتوقف عن إصدار أي كتاب جديد وأنت تطلع الكتاب (وهذا عليه شهود أصدقاء) قلت له: لا هذا ظلم، بس خلاص أنت يا أخي «مش كل يوم بتطلع كتاب قصيدة حب».
الكتاب سيصدر ذات يوم إن شاء الله إذا أمد الله في عمري. هو الرجل صار في عالم آخر الله يرحمه، ما عاد يكتب شعراً جديداً؛ لكن أنا أيضاً أتعلم كل يوم جديداً يفيدني في إنصاف محمود درويش، وأنا أيضاً أتطور وأنضج بما يتيح لي إني أتأنى قليلاً قبل أن أصدره، والكتاب الآن يعني تجاوز ألف وأربعمائة صفحة، والله صرت محتاراً قليلاً: ماذا أعمل فيه، أصدره جزءاً أو جزأين أو ماذا أعمل فيه بالضبط؟
• المحطات الأخيرة في الكلام -كلامك عن محمود درويش كلام القريب العميق- هل نقول أن هناك مئات شعراء الإدغام في العربية ولكن محمود درويش هو الشاعر الوحيد الذي كان يتطور؟
•• لا، هذا حرام، هذا عن جد ظلم وغُبن كبير. لا، كل يعني غالبية الشعراء العرب في حالة تطور شاءوا أم أبوا، بأي معنى شاءوا أم أبوا إذا يلتفت على زميله الشاعر أو يقرأ قصيدة زميله لا بد أن يغار هذا ما حكى عنه هارولد بلوم بصدد هاجس التأثير.. الشاعر لازم يتأثر إجباري لكن دعني أخبرك عن خصوصية محمود درويش.
كان لديه قلق ليس قلق التأثير على طريقة هارولد بلوم، إنما هاجس تطوير أدواته وهاجس إذا أردت معاندة القارئ -إذا صح هذا التعبير- يعني يجيء القارئ أمسية شعرية أو ينتظر ديواناً جديداً لمحمود درويش، وهو مُشبع بأحمد الزعتر وبيروت وسجل أنا عربي، وأحن إلى خبز أمي... ثم يتفاجأ بأن عند درويش شيء جديد، القارئ لأول مرة ينفر منه قليلاً، أو يشعر بالاغتراب لكنه يعود يُقبل عليه، وهذه معادلة محمود الجميلة، القارئ يُقبل على جديد محمود درويش ويتفاعل معه، بهذا المعنى كان عنده هاجس القلق والتطوير إلى حد كبير.
زد على ذلك، لست أدري إن كان قد ظُلم بمسألة لأي درجة كان يتعلم من الآخرين، يتعلم حرفياً ولا أقول يتأثر، لدينا أصدقاء شعراء قصيدة نثر أنا مراراً أثبت لهم نصياً أن محمود درويش يتعلم من قصيدة النثر.. وطال الزمان أو قصر سوف نرى. قبل ما يتوفى نشر «أثر الفراشة» فأنت إذا ما قرأت هذه المجموعة، أو حتى «في حضرة الغياب»، لا يمكن أن تقول إن هذا رجل لا يكتب قصيدة نثر، أو لا يقارب النثر شعرياً.
وثمة أناس يعدّون إصرار محمود درويش على التطور أقرب إلى السُّبة، قال لي أحد كبار الشعراء العرب: يا أخي صاحبك كأنه عداء المسافات الطويلة يعني، قلت له كيف؟ قال لي: «يا أخي ما بدنا نلحق فيه؟».. يعتبرون هذا نوعاً من الإحراج لهم، «ليش تتطور كتير يا أخي، أتطور على مهل زينا يعني مثلاً»، فهمت..
• المقدمة التي كتبها إلياس خوري في ديوان درويش الأخير «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي».. هل ترى له مبررات؟
•• إلياس لم يكتب مقدمة، إلياس كتب نوعاً من التفسير كيف عثروا على القصيدة بالدرج، وإشكالاتها، وهل هي كاملة أم لا، والحقيقة للإنصاف المرحوم رياض الريس صاحب دار الريس وهو في العالم الآخر، لكني أنصفه على كل حال إلياس خوري ما يزال حياً ويعرف، رفض ينشرها مع الكتاب، قال له: سامحني محمود درويش مرة واحدة سمح أنّ أحداً يكتب له كلمة غلاف، أو يتدخل بديوانه.. وأنا سأطبع لك كلمتك في كُرّاس سأضعه داخل الغلاف النايلون من الكتاب، وهكذا صدر. رفض رياض الريس أن يدرج المقدمة ضمن الكتاب، لأن الحقيقة لأسباب تتجاوز عادة رياض الريس، الذي كان هو أيضاً منضبطاً ويلتزم بتقاليد النشر، كما إن الريس استفتى بعض أصدقاء درويش.. أنا منهم. كما كلمني إلياس خوري من عمان، قبل ذلك قال لي: «نروح نفتح أدراج محمود درويش تعالوا.. قلت له: لا آتي، أنا ما أفتح درج محمود درويش وأنا أربأ فيك كصديق لمحمود درويش أن تفتح درجه. فتحوا الدرج ولقوا القصيدة، قلت لإلياس هذه مسودة حرام عليكم محمود درويش له فيلم صورته سيمون بيتون – وهو يكتب - قالت له «أصور شو عم تكتب»، قال لا، وغطاها بيده كأنها عورة، فالمسودة بالنسبة له عورة.. وصورته حية بالفيديو يمد يده، قائلاً لا»..
إنني أعتبر مسودات كبار الشعراء عورات حتى ينتهوا منها. إذا فرغ منها يصلحها؛ لذلك مثلاً بعد ما نُشرت قصيدة «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» طلع عدد الأصوات من المخلصين أو «الغيورين» على محمود درويش أو «غيرانين» طلعوا له أخطاء تفعيلة، صحيح.. وطلعوا أخطاء نحو، صحيح.. القصيدة كانت في حالة مسودة، واتصل بي رياض الريس وقلت له: أنا خارج هذا المشروع نهائياً إلياس حكى معي كصديق، وحكى معي شقيق محمود درويش أحمد، وقلت أنا لا أشارك، أنتم تسطون على محمود درويش هكذا. طبعاً بعض الناس اعتبروا أن إلياس خوري أراد نشر القصيدة من زاوية الشهرة، وهذا غير صحيح فإلياس ليس مجهولاً، بل مشهور، وكان صديقاً لمحمود ويحبه، هذا الذي أنا أسميته وقلته لإلياس إن هذا «من الحب ما قتل»، ما يحق لك، هذه المسودات تُحفظ في متحف وتُمنح للباحثين فقط يقرأونها داخل المكتبة حتى «ما بيعمل فوتوكوبي عنها»، فيه مسودات لشعراء وكتاب بالقانون ممنوع إنها تُنشر، اذهب إلى مركز أبحاث اقرأها هناك، هذا ثمن محبة الناس له.
• هل هناك مشكلة بين الأخوين درويش محمود وأحمد؟
•• أحمد صار في دنيا آخرة الله يرحمه. لذلك سامحني، فيه مشكلة أنا أحكي لك المشكلة اللي أنا حكيتها لأحمد وأحكي لك عن أحمد لأن عليها شهود مش وحدي أنا وإياه، لكن الرجل صار في عالم آخر، الله يرحمه.
أحمد مر أحد الأصدقاء ممن يعرفون أنني قريب من محمود قال لي «يا زلمة، مذيع لبناني عمل برنامج عن محمود درويش وطلع من جيبه قلم قال هذا القلم هدية من محمود درويش، ورفعه يعرضه على التلفزيون».. كان الله يرحمه محمود عنده هواية أقلام الحبر هو يشتري وتُهدى له كثيراً وما يكتب غير بالحبر كان عنده مجموعة جميلة جداً.. فهذا الرجل سألني غيرةً على محمود قال لي «الزلمة كان يكرهه»، قلت له «مش بس يكرهه أنا ما أعتقد إنه بحياته شافه فكيف بيعطيه القلم»؟ سألت قالوا لي إن هذا هدية من أحمد درويش إلى هذا الأخ المذيع.. بعدين حكوا لي قالوا لي بعد ما توفى محمود أخوه جاب المفتاح وفتح البيت، طيب ماشي خذها يا أخي هي لأخوك هذا إرث أخيك. لكن فيه وزير ثقافة بدولة عربية قال لي هذا القميص هدية من محمود درويش قلت له بالليل ولا بالنهار يا ابن الحلال، قال لا أخوه أعطاني إياه، هنا أنا قلت لأحمد عيب عليك عن جد يعني الله يرحمه، شكيته لأمه، أمه تعرفني وعلاقتي بمحمود، شكيته قالت لي «شو عمل أحمد»، قلتها يا حاجة أنتِ «حق عليكِ ألقي عليه يمين»..
هناك موضوع غيرة أيضاً عليه شهود حيث بعد وفاة محمود عقد إخواننا بالمغرب جلسة في معرض الكتاب خصصت لتكريم محمود درويش، حضرها سعدي يوسف وأحمد درويش والعبد الفقير إليه تعالى وآخرون، طبعاً يا سيدي كل واحد تحدث عن محمود، حين جاء دور أحمد ماذا روى للجمهور قال: كان محمود درويش في طفولته يكتب الشعر، وكنت أنا أكتب القصة القصيرة، وكان رحمه الله يغار مني دائماً، واسمحوا لي بأن أقرأ عليكم نموذجاً من قصصي القصيرة. سعدي يوسف جن ذاك الحين، لم يتحمل عقله قال له: «شو أنت يا أحمد، إحنا نكرم محمود ولا نكرمك أنت».
• إدوار سعيد الناقد، هذا الجزء الغائب غير المعروف منه أحياناً، وإن كان يرى فيما يخفى عليه البُعد الأيديولوجي في مشروع ما بعد الاستعمار انطلاقاً من إدوارد سعيد، هل ترى أن هنالك مجالاً للقارئ العربي أن يطلع على هذا البُعد؟
••إدوارد سعيد للإنصاف كقامة نقدية هو أعلى بكثير وأسبق من حكاية تقديم نظريات ما بعد الاستعمار، لكن نظريات ما بعد الاستعمار صار لها صفة إغوائية عالية وجاذبية عالية فانشدَّت إليها الناس والنقاد والباحثون لأنها أيضاً تخاطب العالم النامي إلى آخره.
• في عالمنا العالم العربي نوهم أنفسنا بنوبل، هل هي بعيدة عن العرب؟
•• الذين استحقوا نوبل من الشعراء على الأقل وربما بعض الروائيين ليسوا على الإطلاق أعظم من نظرائهم العرب، في تقديري عشرة على الأقل من الأسماء لو بقيت على قيد الحياة يجب أن يكونوا من الأسماء العربية الراهنة تستحق نوبل، كل دورة، عشرة على الأقل. ونبقى عند المثال الذي دائماً يطرح هو أدونيس.. وأدونيس أنا بيني وبينه خلاف سياسي وتراثي، وليست لدي أي مشكلة معه كشاعر كبير، أحد كبار شعراء العرب الرواد، مش مشكلتي.. مشكلتي معه منهجياته فيما يخص التفكير حول التراث، فيما يخص الفكر، أنا أختلف معه، وأنا رجل ماركسي. ما عندي مشكلة مع التراث بمعنى الانحياز للتراث لأسباب دينية، لأسباب إقليمية أو أسباب تربوية فقط لدراساته للتراث وبالنسبة لخياراته السياسية ومواقفه مع نظام مجرم.. إلا أن أدونيس يستحق نوبل يمكن من خمس عشرة سنة، أنا أحدثك نجيب محفوظ استحقها أولاً عن جدارة، لكن الذي يطرح كل مرة ويستحق هو فعلاً أدونيس، ولأسباب كثيرة تخص شعريته. لكن نوبل مُسيَّسة، يعني تجيء بـ«بوب ديلان» تعطيه جائزة الشعر رغم أن فيه عشرين شاعراً بالعالم أهم منه.. نوبل مسيَّسة أولاً، ونوبل ظرفية ثانياً ونوبل شيء طبيعي جائزة تتأثر بما يجري في العالم، لما أقول لك ظرفية بهذا المعنى يعني، ما تعطى لأدونيس وما تعطى لعربي لأسباب أنا بحكيلك ليس إبداعية ولا جمالية لأسباب سياسية محضة، وبسبب توازنات القوى التي تكتنف الجائزة سواء كانت في بلدها الأم أو في العالم المحيط فيها. وحين أقول لأسباب سياسية ليس معناها لا يعطونها لمعارض لأن غالبية الذين حصلوا عليها في الفترة الأخيرة كانوا معارضين للخط الأمريكي ومعارضين للإمبريالية، لكن الحكاية أنت تجيء على العرب عندك حاجز الثقافة الإسلامية، حاجز القضية الفلسطينية، حاجز الإرهاب، حاجز التطرف، كل هذا موجود هذه الاعتبارات موجودة، إلا أن الذين يستحقونها أنا بحكيلك هناك عشرة على الأقل أسماء موجودة تستحق الجائزة كل سنة، كلما مرت سنة يطلع واحد ويستحقها.
• ما العمل الذي تمنيت ترجمته؟
•• الأعمال التي تمنيت ترجمتها اشتغلت عليها، وترجمتُها لكن العمل الذي أتمنى أن تعاد ترجمته لأنه مترجَم مرتين هو «يوليسيس» جيمس جويس، لكنني لا أستطيع. لأنه عمل لا أعتقد أن عشر ترجمات تفيه حقه؛ لأنه حسب يقيني أعظم رواية في العصر الحديث. بالنسبة إليَّ الرواية الأعظم قبل «يوليسيس» هي «دون كيخوتيه» لسرفاتيس وهذه أم الروايات، لكن بالعصر الحديث، بداية القرن العشرين وما نحن عليه الآن هذه أعظم رواية شكلاً ومضموناً ولغةً، ما أعتقد أن روائياً اشتغل أو يتجاسر على الاشتغال باللغة بالطريقة التي اشتغل فيها جيمس جويس؛ ولذلك عشر ترجمات لا تفيه حقه.