الحوار مع الروائي اليمني علي المقري نافذة اكتشاف «البساطة، العمق» في آنٍ واحدٍ، وضع يده على مستودع الأسرار، فآثر الظّل، لتكون كتابته بالضوء في الضوء، اعتنى بالبسطاء، لتكسب أعماله عظمة إنسانية، أوصلتها سريعاً لمن يُثمنون الإبداع، ولد المقري في 30 أغسطس 1966، وعمل محرّراً ثقافياً لمنشورات عدّة، له أكثر من 10 كتب، منها: «طعم أسود.. رائحة سوداء» رواية، دار الساقي، بيروت 2008، «اليهودي الحالي» رواية، دار الساقي، بيروت 2009، «حُرمة» رواية، دار الساقي، بيروت 2012، «بخور عدني» رواية، دار الساقي بيروت، 2014 «بلاد القائد»، منشورات المتوسط، ميلانو 2019. وترجمت أعماله إلى الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والكردية والفارسية وغيرها، وتم اختيار روايتيه «طعم أسود رائحة سوداء» و«اليهودي الحالي» ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر العربية» في دورتي الجائزة 2009 و2010، وحازت رواية «حرمة» بترجمتها الفرنسية على جائزة التنويه الخاص من جائزة معهد العالم العربي للرواية ومؤسسة جان لوك لاغاردير في باريس 2015، واختيرت رواية «بخور عدني» في القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد 2015، كما حصل على بطاقة المواطنة الفخرية لمدينة باريس من عمدة المدينة آن هيدالجو، نال أخيراً وسام فرنسا للفنون والآداب بدرجة فارس، وهنا نص حوارنا معه:
• ما مبلغ سعادتك بمنحك وسام الفنون والآداب من دولة فرنسا؟
•• أسعدني حصولي على وسام الفنون والآداب بدرجة فارس، ليس لمنجزي الأدبي ومنه ترجمات ثلاث روايات لي إلى الفرنسية، ولكنه يأتي في مرحلة يحاول فيه بلدي اليمن تجاوز سبع سنوات من الحرب، ولهذا آمل أن يفتح هذا الخبر نافذة أمل جديدة لأصدقائي الكتاب، خصوصاً أولئك الذين يعيشون ظروف الحرب في الداخل. وآمل أيضاً، أن تتسع الجوائز والأوسمة الأدبية والفنية في العالم العربي، وأن يكافأ الكتاب المتميزون الذين يكتبون بحرّية غير مشروطة، وذلك لتجاوز خطاب التطرف الديني والسياسي الذي ساد حياتنا طويلاً.
• يخطر ببال من يلقاك لأوّل مرة أن هناك مسحة حزن ملازمة لملامحك، هل من سبب لهذه المسحة؟
•• يكمن الحزن في سلوكنا حتى إن لم ندرك ذلك، ويبدو أحياناً في أحاديثنا، بل وفي ابتساماتنا وضحكاتنا. يكفي أن نفتح بوّابة لاستكشافه فينا، نسأل أنفسنا لماذا كل هذا الحزن؟ حتى إن كنا نظن أننا لم نعشه. فتأتي الأجوبة متدفقة بذكريات الفقد والمحاولات التي تحوّلت بفعل عدم تحقق مطمحها إلى خيبات تراكمت فوق بعضها.
• ما مدى إسهام أسرتك في صناعتك؟
•• أثرت تفاصيل العيش معهم، ودونهم، على الكثير من جوانب حياتي، فأبي كان دائم الهجرة، فيما أمي وجّهتني إلى علاقة متسامحة مع الجميع، هذا التوجيه كان له الأثر الأكبر في حياتي، إذ صرت أحاول التقرّب إلى الآخرين والإنصات إليهم وتفهمهم بدلاً من الانفعال تجاههم وإصدار الأحكام السريعة ضدهم.
• يبدو أن التكريمات والجوائز لا تعنيك كثيراً؛ كونك لا تزال تعمل بهدوء وصمت، ما مدى صدقية هذا الانطباع؟
•• هناك شعرة تفصل بين التقدير الذي قد يحصل عليه الكاتب لمنجزه الأدبي، وينعكس ذلك على قراءة كتبه ومناقشتها، وبين المفرقعات الإعلامية التي لا علاقة لها بالكتب والكتابة، إذ يصبح معها الكاتب عبارة عن فقاعة إعلامية ينفخها الجميع حتى تتلاشى.
• كانت البداية من الشعر، فكيف تحوّلتَ للكتابة السردية؟
•• وجدت السرد أقرب إلى الحياة، أقرب مني، فالشعرية المكثفة في القصيدة تصبح في الرواية مبثوثة في كل جوانب النص، في إيقاعاته البنائية، في تشكيل حياة شخوصه وأصواتهم وحركاتهم وطُرق تعبيراتهم المختلفة عن حياتهم كالأكل والشرب والرقص والغِناء؛ أي أن تتحوّل الشعرية من إطار اللغة إلى فضاء الحياة.
• ماذا بقي فيك من البئر الأولى؟
•• كل ما كان معي بقي، فالشغف في تتبع الكتابة ومنجزها ومحاولة الاقتراب من عوالمها الفنية ما زال هو نفسه، وإن تحوّلت وجهته.
• كيف تنظر لفكرة الآباء وأثرهم عليك، وهل لك من آباء؟•• هناك آباء، وأمهات أيضاً، يتخفون في نصوصنا ويؤثرون علينا كثيراً، وهم باقون معنا حتى في تحوّلنا أو بعدنا عنهم، أو القول بالقطيعة معهم.
• أي أعمالك عبّر بصورة أقرب للواقع عن ثيمته؟•• لم أكن معنياً بالتعبير المباشر عن الواقع بقدر ما اهتممت بإشكالات وجودية/ إنسانية؛ فالقصص التي تبدو واقعية، هي أيضاً متخيلة فنياً، وتصبح، من جوانب ما، مادة لاختبار هذه الإشكالات كالوطن واللا وطن، تحقق الوجود الفردي وسطوة الشعارات في خواء لا يوجد فيه الإنسان وإن رُفعت الشعارات باسمه. لهذا يمكن القول إن القصص المكانية/ المتخيلة وجدت في النصوص لاختبار هذه الإشكالات.
• كيف نجوت من الأدلجة، وما آلية النجاة من التسييس؟•• يمكن للكاتب، كما يبدو لي، أن ينجو من الأدلجة والتسييس، حين يحوّلهما إلى مادة للكتابة، ولكن إذا كان سؤالك يتقصد تجربتي في سنوات تحققي الأولى، فتلك قصّة طويلة.
• ما شرط نجاح الثقافة العربية؟•• شرط نجاح أي ثقافة، كما يبدو لي، هو انفتاحها وتلاقحها مع الثقافات الإنسانية الأخرى، إلى جانب كفالة حق النقد الحر، أو التعبير الحر، وإفساح المجال أمام مختلف أصواتها وتشكلاتها.
• مم تخشى على الثقافة الإنسانية؟
•• للثقافة الإنسانية أوجه كثيرة، حتى أولئك الذين يدمرون العالم بالحروب ويلوثون البيئة هم أيضاً يعبرون عن ثقافة إنسانية، لأن مصدرها الإنسان، لقد ظننا أن العالم سيتعلم الكثير من جائحة كورونا، وها نحن نشهد نشوب حروب جديدة وتخرّج ديكتاتوريين من مؤسسات متسلطة عتيقة.
• ما شعورك وأنت تحظى بتكريم إضافي من الحكومة الفرنسية بمنحك وسام الفنون والآداب؟•• نسمع كل يوم هنا، في فرنسا، كلمات الإطراء والتشجيع؛ ولهذا اعتبرت حصولي على وسام فارس للفنون والآداب بمثابة التقدير لمنجزي الأدبي الذي ترجم منه ثلاث روايات إلى اللغة الفرنسية.
• لمن تهدي الوسام؟•• أهدي الوسام الفرنسي لشخصيات رواياتي التي اقتربت منها، لكل مهمشي اليمن من السود والنساء واليهود والجزّارين والحلاقين (المزاينة) وضحايا الكبت والقمع والديكتاتورية في العالم العربي.
• كيف داويت الحنين؟ وهل قطعت حبله السُّري؟•• حين كنت أعود إلى القرية في ريف تعز أشعر أن كيمياء جسدي تتحول تماماً، أنام وأحلم بشكل جيد مع تناول الغذاء الطبيعي الغني باللذة، تتدفق ذكريات الطفولة وتستعاد الأحلام الأولى مع أن القرية لم تعد كما كانت، إذ صارت محملة بأثقال الأيديولوجيين الذين عادوا بعد أسفار إليها ليحجبوا فتنتها المتسامحة وبهاء إنسانيتها البسيطة. لقد تحولت القرية إلى ذكرى فقد لا يعوض أبداً.
• ما مبلغ سعادتك بمنحك وسام الفنون والآداب من دولة فرنسا؟
•• أسعدني حصولي على وسام الفنون والآداب بدرجة فارس، ليس لمنجزي الأدبي ومنه ترجمات ثلاث روايات لي إلى الفرنسية، ولكنه يأتي في مرحلة يحاول فيه بلدي اليمن تجاوز سبع سنوات من الحرب، ولهذا آمل أن يفتح هذا الخبر نافذة أمل جديدة لأصدقائي الكتاب، خصوصاً أولئك الذين يعيشون ظروف الحرب في الداخل. وآمل أيضاً، أن تتسع الجوائز والأوسمة الأدبية والفنية في العالم العربي، وأن يكافأ الكتاب المتميزون الذين يكتبون بحرّية غير مشروطة، وذلك لتجاوز خطاب التطرف الديني والسياسي الذي ساد حياتنا طويلاً.
• يخطر ببال من يلقاك لأوّل مرة أن هناك مسحة حزن ملازمة لملامحك، هل من سبب لهذه المسحة؟
•• يكمن الحزن في سلوكنا حتى إن لم ندرك ذلك، ويبدو أحياناً في أحاديثنا، بل وفي ابتساماتنا وضحكاتنا. يكفي أن نفتح بوّابة لاستكشافه فينا، نسأل أنفسنا لماذا كل هذا الحزن؟ حتى إن كنا نظن أننا لم نعشه. فتأتي الأجوبة متدفقة بذكريات الفقد والمحاولات التي تحوّلت بفعل عدم تحقق مطمحها إلى خيبات تراكمت فوق بعضها.
• ما مدى إسهام أسرتك في صناعتك؟
•• أثرت تفاصيل العيش معهم، ودونهم، على الكثير من جوانب حياتي، فأبي كان دائم الهجرة، فيما أمي وجّهتني إلى علاقة متسامحة مع الجميع، هذا التوجيه كان له الأثر الأكبر في حياتي، إذ صرت أحاول التقرّب إلى الآخرين والإنصات إليهم وتفهمهم بدلاً من الانفعال تجاههم وإصدار الأحكام السريعة ضدهم.
• يبدو أن التكريمات والجوائز لا تعنيك كثيراً؛ كونك لا تزال تعمل بهدوء وصمت، ما مدى صدقية هذا الانطباع؟
•• هناك شعرة تفصل بين التقدير الذي قد يحصل عليه الكاتب لمنجزه الأدبي، وينعكس ذلك على قراءة كتبه ومناقشتها، وبين المفرقعات الإعلامية التي لا علاقة لها بالكتب والكتابة، إذ يصبح معها الكاتب عبارة عن فقاعة إعلامية ينفخها الجميع حتى تتلاشى.
• كانت البداية من الشعر، فكيف تحوّلتَ للكتابة السردية؟
•• وجدت السرد أقرب إلى الحياة، أقرب مني، فالشعرية المكثفة في القصيدة تصبح في الرواية مبثوثة في كل جوانب النص، في إيقاعاته البنائية، في تشكيل حياة شخوصه وأصواتهم وحركاتهم وطُرق تعبيراتهم المختلفة عن حياتهم كالأكل والشرب والرقص والغِناء؛ أي أن تتحوّل الشعرية من إطار اللغة إلى فضاء الحياة.
• ماذا بقي فيك من البئر الأولى؟
•• كل ما كان معي بقي، فالشغف في تتبع الكتابة ومنجزها ومحاولة الاقتراب من عوالمها الفنية ما زال هو نفسه، وإن تحوّلت وجهته.
• كيف تنظر لفكرة الآباء وأثرهم عليك، وهل لك من آباء؟•• هناك آباء، وأمهات أيضاً، يتخفون في نصوصنا ويؤثرون علينا كثيراً، وهم باقون معنا حتى في تحوّلنا أو بعدنا عنهم، أو القول بالقطيعة معهم.
• أي أعمالك عبّر بصورة أقرب للواقع عن ثيمته؟•• لم أكن معنياً بالتعبير المباشر عن الواقع بقدر ما اهتممت بإشكالات وجودية/ إنسانية؛ فالقصص التي تبدو واقعية، هي أيضاً متخيلة فنياً، وتصبح، من جوانب ما، مادة لاختبار هذه الإشكالات كالوطن واللا وطن، تحقق الوجود الفردي وسطوة الشعارات في خواء لا يوجد فيه الإنسان وإن رُفعت الشعارات باسمه. لهذا يمكن القول إن القصص المكانية/ المتخيلة وجدت في النصوص لاختبار هذه الإشكالات.
• كيف نجوت من الأدلجة، وما آلية النجاة من التسييس؟•• يمكن للكاتب، كما يبدو لي، أن ينجو من الأدلجة والتسييس، حين يحوّلهما إلى مادة للكتابة، ولكن إذا كان سؤالك يتقصد تجربتي في سنوات تحققي الأولى، فتلك قصّة طويلة.
• ما شرط نجاح الثقافة العربية؟•• شرط نجاح أي ثقافة، كما يبدو لي، هو انفتاحها وتلاقحها مع الثقافات الإنسانية الأخرى، إلى جانب كفالة حق النقد الحر، أو التعبير الحر، وإفساح المجال أمام مختلف أصواتها وتشكلاتها.
• مم تخشى على الثقافة الإنسانية؟
•• للثقافة الإنسانية أوجه كثيرة، حتى أولئك الذين يدمرون العالم بالحروب ويلوثون البيئة هم أيضاً يعبرون عن ثقافة إنسانية، لأن مصدرها الإنسان، لقد ظننا أن العالم سيتعلم الكثير من جائحة كورونا، وها نحن نشهد نشوب حروب جديدة وتخرّج ديكتاتوريين من مؤسسات متسلطة عتيقة.
• ما شعورك وأنت تحظى بتكريم إضافي من الحكومة الفرنسية بمنحك وسام الفنون والآداب؟•• نسمع كل يوم هنا، في فرنسا، كلمات الإطراء والتشجيع؛ ولهذا اعتبرت حصولي على وسام فارس للفنون والآداب بمثابة التقدير لمنجزي الأدبي الذي ترجم منه ثلاث روايات إلى اللغة الفرنسية.
• لمن تهدي الوسام؟•• أهدي الوسام الفرنسي لشخصيات رواياتي التي اقتربت منها، لكل مهمشي اليمن من السود والنساء واليهود والجزّارين والحلاقين (المزاينة) وضحايا الكبت والقمع والديكتاتورية في العالم العربي.
• كيف داويت الحنين؟ وهل قطعت حبله السُّري؟•• حين كنت أعود إلى القرية في ريف تعز أشعر أن كيمياء جسدي تتحول تماماً، أنام وأحلم بشكل جيد مع تناول الغذاء الطبيعي الغني باللذة، تتدفق ذكريات الطفولة وتستعاد الأحلام الأولى مع أن القرية لم تعد كما كانت، إذ صارت محملة بأثقال الأيديولوجيين الذين عادوا بعد أسفار إليها ليحجبوا فتنتها المتسامحة وبهاء إنسانيتها البسيطة. لقد تحولت القرية إلى ذكرى فقد لا يعوض أبداً.