يتسم عالم الروائية العربية، نجوى بركات، بالاتصال والانفصال في الوقت ذاته، تراقب عن بعد، أو من علو الفضاء العربي، وترصد مواطن ضعفه، وتتلمس مكامن الوجع، وتكتب لتسهم في التعزيز والمعالجات، تتعاطف بقوة مع الطبقات الكادحة، وتجاهد بالكلمات لتنتصر للخير والحُبّ والسلام، ولديها استعداد لمجابهة الكون للحد من الشقاء والمحافظة على الإيمان بقيم الإنسانية، حساسيتها وغيرتها على اللغة والفن والثقافة، تدفعها أحياناً لالتزام الصمت، درست المسرح والسينما، وأصدرت («المُحوّل» 1986، «حياة وآلام حمد ابن سيلانة» 1995، «باص الأوادم» 1996، «يا سلام» 1999، «لغة السر» 2004، «مستر نون» 2020)، وترجمت لألبير كامو (لعبة الأوراق والنور: الجزء الأول 2013، وذهب أزرق: الجزء الثاني، وعشب الأيام: الجزء الثالث). وهنا نص حوارنا معها:
• انقطاعك 15 عاماً عن الكتابة، يشعرني بالاحتجاج السلمي بترك الكتابة، ما صحة هذا الشعور؟
•• أنت محق في شعورك هذا. لقد أحسستُ في لحظة ما أن الكلمات ما عادت تفي معانيها وأنها باتت ملتبسة وثرثارة ومفخَّخة، فآثرتُ الصمتَ والانسحابَ والتوقّف عن الكتابة إلى حين، وقد شعرت في تلك الفترة بأن العالم بات شبيهاً بمسوّدة عملاقة اختلطت فيها المعايير وضاقت العبارة. إلا أن الفترة طالت لأنّ ما جرى لاحقا في لبنان، ثم في العالم العربي، أشعرني بشيء من اليأس والإحباط، وقد لحظتُ كما لحظ سواي أن الواقع يسبق الخيال بكثير، لا بل إنه يهزأ منه ويتحدّاه. ثمّة فترات مأساوية في التاريخ الإنساني تدفع المبدعَ لأن يتساءل عن جدوى كتابته أو فنّه أو أدبه، لا بل عن جدوى الاستمرار بشكل عام، أمام عالم يتهاوى ويعلن احتضاره بشكل تراجيدي. كتّاب أوروبا عاشوا مثل هذه اللحظة بعد الحرب العالمية الثانية، فأنتجوا أدباً وفنّاً كان العبث من عناوينه العريضة. نحن، في العالم العربي، عشنا ونعيش لحظة مماثلة إثر اندلاع ما سُمّي بالربيع العربي مع ما آلت إليه الأحوال لاحقاً في عدد من البلدان العربية. حروب أهلية، وانقسامات، وتفكك دول وتطرّف ديني وفقر وهجرة وموت محيط، هذا كلّه ممّا جعلني أنكفئ شاعرةً أن الصمتَ هو أكثر ما يناسب المرحلة. في المقابل أنا لم أتوقف عن العمل، بل أسّستُ عام 2009 «محترف كيف تكتب رواية» بعد أن قرّرت العمل على اكتشاف وتمكين كتّاب شباب من مختلف الدول العربية.
• توقفك عن الكتابة لفترة ليست بالقصيرة تطهّر من آثار عمل سابق، أم تأمل واستشراف لعمل لاحق؟
•• هو الاثنان معاً. كنت قد أصدرتُ ثلاث روايات اختتمتُ بها مشروعاً روائياً كان عنوانه العنف، أو القسوة بالأحرى، هي «باص الأوادِم»، و«يا سلام»، و«لغة السر»، ورأيتُ أن من الضروري أن أتوقف لحين، بانتظار أن يتبلور مشروعي القادم. فأنا لستُ من الذين يرون ضرورة إصدار كتاب كل عام أو ثلاثة، إذا لم يكن هذا سيضيف إلى عملي أو يتقدّم بي خطوة إلى الأمام. أنا لا أحبّذ الإكثار والإفراط في أي شيء. الرواية العربية انفجرت انفجاراً في العقود الأخيرة وهذا أمر محمود في جانب منه بالطبع. لكنّنا للأسف، ما عدنا نستطيع الاحتكام إلى دور النشر لنثق بنوعية ما يُنشر وجودته. أنا لا أتكلم عن الدور كلّها، فهناك دائما استثناءات، لكن ثمة ناشرون لا يأخذون مستوى الكتاب باعتبارهم وقابليته للطبع والنشر، بعد أن حوّلوا الأمر إلى تجارة. «ادفع ألفي دولار، وننشر لك عملك». هذا ما يسمّونه «مساهمة» أو «شراء عدد معيّن من النسخ». وبما أن عدداً كبيراً يطمع إلى «شهرة ربع الساعة» التي تحدّث عنها أندي وارهول، فالكل يريد أن يصبح كاتباً.
• ما مغذياتك القرائية الأوليّة؟ وماذا عن مؤثرات اختيارك مسار الثقافة والإبداع؟
•• لقد كنت في سنيّ مراهقتي الأولى دودة كتب كما يقال. أتوجّه إلى مكتبة المدرسة وأستعير كتباً ما ألبث أن أنهيها بسرعة لأستعير سواها. كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي؛ طه حسين، المنفلوطي، جبران، العقاد، الأدب العالمي المترجم إلى العربية، كامو، شكسبير، دوستويفسكي.. في ما بعد، أصبحت أكثر انتقائية فصرت أشتري كتباً باللغة الفرنسية ودراسات وبحوثاً وسّعت مدار الرؤية ومداها. أعتقد أن هذه السنوات وصولاً إلى سنوات الجامعة، إذ درست المسرح ومن ثم السينما، كانت أكثر مرحلة قرأت فيها. تلك قراءات مؤسِّسة لما سنصبح عليه لاحقا. في ذلك العمر نكون متفرغين للقراءة، أشبه بإسفنجة تتشرّب كل ما يقع عليها. مخيّلة واسعة، وفضول، ورغبة بالمعرفة وباكتشاف العالم... إلخ. الكتب عرّفتني إلى الحياة، أنضجتني وردّت على تساؤلاتي وشكّلت عزاءً لي حين بدأت أكتشف أن الحياة في أساسها معضلة غير قابلة للحلّ.
• ماذا تعني الكتابة للروائية نجوى بركات؟
•• بات من الصعب عليّ أكثر فأكثر الإجابة على هذا السؤال. سابقاً كنت أقول إنها معادل للحياة، وإنها أمر كفعل التنفّس والأكل والمشي. لكن، اليوم، وبعد أن توقفت عنها لوقت، وعدتُ إليها من جديد، باتت الإجابة أكثر غموضاً والتباساً. أحياناً أقول لنفسي، كما يردّد بطلي في روايتي الأخيرة «مستر نون»، إن الصوم عن العبارة أمر مفيد، وإن الكتابة لعنةٌ، نارٌ تأكل أحشاءك باستمرار، لذا لا بأس من التخلّص منها والعيش لصيقاً بالأرض، غير مبالٍ بغدك، كقطّة أو عصفور. بالنسبة إليّ، الكتابة وجع، لكنها أيضاً خلاص، نور ونار، وجمعها هذا التناقض هو ما يجعلها أمراً غير اعتيادي. حين لا أكتب، أو حين لا يسكنني همُّ كتابة مشروع ما، يرافقني إحساس بالنقص، شعور بالذنب، كأني لم أقم بواجبي، أو كأنني أهملتُ أمراً ما يبقى يطاردني همُّه، لكنني في الآن نفسه أدرك أن العالم لن يتبدّل ولن يصيبه سوء إن أنا استقلتُ من الكتابة وانسحبت وغبتُ.
• هل تقاوم نجوى بركات العنف بالكتابة؟ وما جدوى وأثر هذه المقاومة، من خلال التجربة؟
•• لقد شاءت الظروف أن أعرف حرباً أهلية ضارية وأنا في سنيّ مراهقتي الأولى، وهذا أمر لا تمحوه السنوات ويبقى مرافقاً لك حتى مماتك. كيف تنام ملاكاً وتستيقظ وحشاً قادراً على ارتكاب الفظائع؟ هذا سؤال رهيب، لكنه جوهريّ وهو ملاصق للطبيعة البشرية. تاريخ البشرية كله مبني على القتل والعنف، والحضارات كلها تمتلك وجهاً منيراً وآخر قاتماً. منذ قابيل وهابيل، والمجتمعات تعيد إنتاج العنف وتدويره لأنه ملازم للطبيعة البشرية. لكنّ القسوة التي شهدناها في القرن الماضي والحالي، تفوّقت على نفسها. العنف والقسوة أمران مختلفان، القسوة هي العنف المجانيّ، أعني العنف متخلّصاً من كل روادعه الأخلاقية، مؤتمِراً بذاته ولذاته. وهذا ما يشغلني كروائية وما حاولت التعبير عنه في أعمالي.
• ما رأيك بمن يشبّه مضمون أعمالك «يا سلام» و«باص الأوادم» و«لغة السر» بتنبؤات زرقاء اليمامة؟
•• لا أدري إن كانت تلك تنبؤات، لكني بالفعل، من أوائل من كتب عن العنف في الرواية العربية. للكاتب حدْسٌ، هذا مؤكّد، وربما هذا الحدس ما أشعرني -قبل انفجار موجة العنف في العالم العربي- أن ثمّة بركاناً يغلي تحت أقدامنا، وأنه سيقودنا حتماً إلى ما لا تحمد عقباه. لقد قرأت منذ يومين مقالة نقدية للصديق عبده وازن يتناول فيها كتاب «مصائر الرواية» للناقد الأكاديمي السعودي سعد البازعي وفيه يتناول ثيمة العنف والأقلية، وقد تعجّبتُ لكونه لم يأتِ على ذكر أيّ من أعمالي.
• اعتاد القُراء أن يكون بطل عمل الكاتبة سيدة، كيف ترين إمكانية التعبير عن الرجل من خلال تجربة مستر نون؟
•• في تجاربي الأولى، عملت أكثر من مرة على مجموعة شخصيات رئيسة تلتقي في لحظة معينة وتتحرّك في فضاء مشترك، شخصيات مذكّرة ومؤنثة، وإن كان الطاغي عليها هو الرجال؛ لأن الفضاء العام في المجتمعات العربية حيزّ ذكوري أكثر منه أنثوياً. وفي «مستر نون»، بطلي بالفعل رجل، لكننا سنكتشف لاحقاً أنه شخصية في ذهن روائية! الروائي يفترض أن يملك مخيّلة واسعة وحساسية كبيرة تمكنّه من تلبّس أي شخصية وولوج عالمها مهما كان صعباً أو سرّياً. وإلا فما معنى أن تمتلك مخيّلة؟
• من أين يبدأ مشروعك الروائي، وإلى أين تنوين الذهاب به؟
•• أعتقد أنه يبدأ من قلق ما واعتراض، وأنه ماضٍ في ذلك إلى ما لا نهاية. كما أرى الأمور، الداخل والخارج لا يتطابقان، ويسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان. في المسافة هذه، يسكن هاجسي الروائي ومشروعي.
• بماذا تتسم علاقتك بالعالم العربي، وأنت تقيمين في أوروبا، أو العالم الغربي؟ تعيشين بوجدان عربي في فضاء فرنسي.
•• أقمتُ طويلاً في فرنسا، قبل انتهاء الحرب وما بعدها، حتى تعبت. ثم عدتُ إلى لبنان وبقيت فيه 10 سنوات، إلى أن أصابني الإنهاك، فعدت هذا الصيف مرغمة إلى باريس. الأحرى أني هربت. أنا لا أنوي الموت هنا. خطوة وأعود إلى بيروت، وليكن ما يكون، لذا فالأمر ليس مجرد علاقة بالعالم العربي. أنت تحمل الأرضَ لتي ولدتَ عليها أينما ذهبت، تحملها بترابها وناسها وأشجارها؛ أعني أنك، حين تكتب بالعربية، تسكن لغتَك، أو أنّها لغتك تسكنك فيما أنت تسكن العالمَ.
• متى تمنيتِ لو لم تكوني كاتبة؟
•• كل يوم، أنا أتمنى لو أني شجرة.
• في ظل مشروع محترفك الكتابي.. هل الكتابة موهبة فطرية؟ أم إنجاز مكتسب؟
•• هي موهبة حتماً، لكنّ الموهبة تُصقل كأيّ حجر ثمين. نحن العرب لا نقرأ كثيراً، أو أن ما نقرأه غير كافٍ في عصر اختلطت معايير الجودة ومعايير الانتشار. لقد التقيتُ قراءً عرباً يفاخرون بقراءتهم كتاباً واحداً أو كاتباً دون سواه. في محترفي، أختار كتّاباً موهوبين حتماً، لكني أعمل عليهم ومعهم طويلاً، خلال عام، انتهاءً بإصدار أعمالهم في دور نشر محترمة. لقد أنجز المحترف إلى اليوم 23 رواية لكتّاب من مختلف أنحاء الوطن العربي، في أفضل دور النشر العربية، وقد نال بعضها جوائز أدبية رفيعة وأصبحت بعضُ الأسماء معروفة في المشهد الأدبي.
• كيف هي علاقتك بالجوائز؟
•• الجوائز العربية محيّرة. حين بدأت الكتابة، لم تكن موجودة، وقد انتشرت أثناء فترة توقّفي. ما يجدر قوله بهذا الشأن هو أن الكاتب العربي يحتاج عامةً إلى دعم ماديّ، هذه حقيقة، والمطلوب من الحكومات والجهات المعنية على اختلافها أن تتيح له التفرّغ لكتابته ومشاريعه، ولستُ على يقين أن الجوائز تمنحه أهمّ ما يحتاج إليه.
• ما الذي تضيفه ترجمة أعمالك إلى لغات غير العربية؟ ألا تخشين على نصك من الخيانة؟
•• الترجمة الجيدة لا تكون خيانة أبداً، لأنها ترجمة لروح النص، لا لكلماته فقط. والترجمة تضيف إذ تشكّل جسر تواصلٍ مع الآخرين، هذه هي أهميتها الفعلية. أما كل ما يدور حولها من أوهام وادّعاءات، فباطل.
• لمن تقرأين عربياً؟ وهل لفتت انتباهك أعمال سعودية؟
•• أحاول أن أتابع ما يصدر عربياً قدر الإمكان، وأعترف أنني لا أحيط للأسف بكل ما يُكتب. الأعمال السعودية تنال اهتماماً متزايداً والأسماء التي لمعت كثيرة من أمثال غازي القصيبي، محمد علوان، رجاء عالم، عبده خال، تركي الحمد، أميمة الخميس، يوسف المحيميد، بدرية البشر، وآخرين ممّن لا تتسع العجالة هنا لذكرهم.. قرأت مؤخراً رواية «شارع العطايف» لعبدالله بن بخيت وأعجبتني.
• انقطاعك 15 عاماً عن الكتابة، يشعرني بالاحتجاج السلمي بترك الكتابة، ما صحة هذا الشعور؟
•• أنت محق في شعورك هذا. لقد أحسستُ في لحظة ما أن الكلمات ما عادت تفي معانيها وأنها باتت ملتبسة وثرثارة ومفخَّخة، فآثرتُ الصمتَ والانسحابَ والتوقّف عن الكتابة إلى حين، وقد شعرت في تلك الفترة بأن العالم بات شبيهاً بمسوّدة عملاقة اختلطت فيها المعايير وضاقت العبارة. إلا أن الفترة طالت لأنّ ما جرى لاحقا في لبنان، ثم في العالم العربي، أشعرني بشيء من اليأس والإحباط، وقد لحظتُ كما لحظ سواي أن الواقع يسبق الخيال بكثير، لا بل إنه يهزأ منه ويتحدّاه. ثمّة فترات مأساوية في التاريخ الإنساني تدفع المبدعَ لأن يتساءل عن جدوى كتابته أو فنّه أو أدبه، لا بل عن جدوى الاستمرار بشكل عام، أمام عالم يتهاوى ويعلن احتضاره بشكل تراجيدي. كتّاب أوروبا عاشوا مثل هذه اللحظة بعد الحرب العالمية الثانية، فأنتجوا أدباً وفنّاً كان العبث من عناوينه العريضة. نحن، في العالم العربي، عشنا ونعيش لحظة مماثلة إثر اندلاع ما سُمّي بالربيع العربي مع ما آلت إليه الأحوال لاحقاً في عدد من البلدان العربية. حروب أهلية، وانقسامات، وتفكك دول وتطرّف ديني وفقر وهجرة وموت محيط، هذا كلّه ممّا جعلني أنكفئ شاعرةً أن الصمتَ هو أكثر ما يناسب المرحلة. في المقابل أنا لم أتوقف عن العمل، بل أسّستُ عام 2009 «محترف كيف تكتب رواية» بعد أن قرّرت العمل على اكتشاف وتمكين كتّاب شباب من مختلف الدول العربية.
• توقفك عن الكتابة لفترة ليست بالقصيرة تطهّر من آثار عمل سابق، أم تأمل واستشراف لعمل لاحق؟
•• هو الاثنان معاً. كنت قد أصدرتُ ثلاث روايات اختتمتُ بها مشروعاً روائياً كان عنوانه العنف، أو القسوة بالأحرى، هي «باص الأوادِم»، و«يا سلام»، و«لغة السر»، ورأيتُ أن من الضروري أن أتوقف لحين، بانتظار أن يتبلور مشروعي القادم. فأنا لستُ من الذين يرون ضرورة إصدار كتاب كل عام أو ثلاثة، إذا لم يكن هذا سيضيف إلى عملي أو يتقدّم بي خطوة إلى الأمام. أنا لا أحبّذ الإكثار والإفراط في أي شيء. الرواية العربية انفجرت انفجاراً في العقود الأخيرة وهذا أمر محمود في جانب منه بالطبع. لكنّنا للأسف، ما عدنا نستطيع الاحتكام إلى دور النشر لنثق بنوعية ما يُنشر وجودته. أنا لا أتكلم عن الدور كلّها، فهناك دائما استثناءات، لكن ثمة ناشرون لا يأخذون مستوى الكتاب باعتبارهم وقابليته للطبع والنشر، بعد أن حوّلوا الأمر إلى تجارة. «ادفع ألفي دولار، وننشر لك عملك». هذا ما يسمّونه «مساهمة» أو «شراء عدد معيّن من النسخ». وبما أن عدداً كبيراً يطمع إلى «شهرة ربع الساعة» التي تحدّث عنها أندي وارهول، فالكل يريد أن يصبح كاتباً.
• ما مغذياتك القرائية الأوليّة؟ وماذا عن مؤثرات اختيارك مسار الثقافة والإبداع؟
•• لقد كنت في سنيّ مراهقتي الأولى دودة كتب كما يقال. أتوجّه إلى مكتبة المدرسة وأستعير كتباً ما ألبث أن أنهيها بسرعة لأستعير سواها. كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي؛ طه حسين، المنفلوطي، جبران، العقاد، الأدب العالمي المترجم إلى العربية، كامو، شكسبير، دوستويفسكي.. في ما بعد، أصبحت أكثر انتقائية فصرت أشتري كتباً باللغة الفرنسية ودراسات وبحوثاً وسّعت مدار الرؤية ومداها. أعتقد أن هذه السنوات وصولاً إلى سنوات الجامعة، إذ درست المسرح ومن ثم السينما، كانت أكثر مرحلة قرأت فيها. تلك قراءات مؤسِّسة لما سنصبح عليه لاحقا. في ذلك العمر نكون متفرغين للقراءة، أشبه بإسفنجة تتشرّب كل ما يقع عليها. مخيّلة واسعة، وفضول، ورغبة بالمعرفة وباكتشاف العالم... إلخ. الكتب عرّفتني إلى الحياة، أنضجتني وردّت على تساؤلاتي وشكّلت عزاءً لي حين بدأت أكتشف أن الحياة في أساسها معضلة غير قابلة للحلّ.
• ماذا تعني الكتابة للروائية نجوى بركات؟
•• بات من الصعب عليّ أكثر فأكثر الإجابة على هذا السؤال. سابقاً كنت أقول إنها معادل للحياة، وإنها أمر كفعل التنفّس والأكل والمشي. لكن، اليوم، وبعد أن توقفت عنها لوقت، وعدتُ إليها من جديد، باتت الإجابة أكثر غموضاً والتباساً. أحياناً أقول لنفسي، كما يردّد بطلي في روايتي الأخيرة «مستر نون»، إن الصوم عن العبارة أمر مفيد، وإن الكتابة لعنةٌ، نارٌ تأكل أحشاءك باستمرار، لذا لا بأس من التخلّص منها والعيش لصيقاً بالأرض، غير مبالٍ بغدك، كقطّة أو عصفور. بالنسبة إليّ، الكتابة وجع، لكنها أيضاً خلاص، نور ونار، وجمعها هذا التناقض هو ما يجعلها أمراً غير اعتيادي. حين لا أكتب، أو حين لا يسكنني همُّ كتابة مشروع ما، يرافقني إحساس بالنقص، شعور بالذنب، كأني لم أقم بواجبي، أو كأنني أهملتُ أمراً ما يبقى يطاردني همُّه، لكنني في الآن نفسه أدرك أن العالم لن يتبدّل ولن يصيبه سوء إن أنا استقلتُ من الكتابة وانسحبت وغبتُ.
• هل تقاوم نجوى بركات العنف بالكتابة؟ وما جدوى وأثر هذه المقاومة، من خلال التجربة؟
•• لقد شاءت الظروف أن أعرف حرباً أهلية ضارية وأنا في سنيّ مراهقتي الأولى، وهذا أمر لا تمحوه السنوات ويبقى مرافقاً لك حتى مماتك. كيف تنام ملاكاً وتستيقظ وحشاً قادراً على ارتكاب الفظائع؟ هذا سؤال رهيب، لكنه جوهريّ وهو ملاصق للطبيعة البشرية. تاريخ البشرية كله مبني على القتل والعنف، والحضارات كلها تمتلك وجهاً منيراً وآخر قاتماً. منذ قابيل وهابيل، والمجتمعات تعيد إنتاج العنف وتدويره لأنه ملازم للطبيعة البشرية. لكنّ القسوة التي شهدناها في القرن الماضي والحالي، تفوّقت على نفسها. العنف والقسوة أمران مختلفان، القسوة هي العنف المجانيّ، أعني العنف متخلّصاً من كل روادعه الأخلاقية، مؤتمِراً بذاته ولذاته. وهذا ما يشغلني كروائية وما حاولت التعبير عنه في أعمالي.
• ما رأيك بمن يشبّه مضمون أعمالك «يا سلام» و«باص الأوادم» و«لغة السر» بتنبؤات زرقاء اليمامة؟
•• لا أدري إن كانت تلك تنبؤات، لكني بالفعل، من أوائل من كتب عن العنف في الرواية العربية. للكاتب حدْسٌ، هذا مؤكّد، وربما هذا الحدس ما أشعرني -قبل انفجار موجة العنف في العالم العربي- أن ثمّة بركاناً يغلي تحت أقدامنا، وأنه سيقودنا حتماً إلى ما لا تحمد عقباه. لقد قرأت منذ يومين مقالة نقدية للصديق عبده وازن يتناول فيها كتاب «مصائر الرواية» للناقد الأكاديمي السعودي سعد البازعي وفيه يتناول ثيمة العنف والأقلية، وقد تعجّبتُ لكونه لم يأتِ على ذكر أيّ من أعمالي.
• اعتاد القُراء أن يكون بطل عمل الكاتبة سيدة، كيف ترين إمكانية التعبير عن الرجل من خلال تجربة مستر نون؟
•• في تجاربي الأولى، عملت أكثر من مرة على مجموعة شخصيات رئيسة تلتقي في لحظة معينة وتتحرّك في فضاء مشترك، شخصيات مذكّرة ومؤنثة، وإن كان الطاغي عليها هو الرجال؛ لأن الفضاء العام في المجتمعات العربية حيزّ ذكوري أكثر منه أنثوياً. وفي «مستر نون»، بطلي بالفعل رجل، لكننا سنكتشف لاحقاً أنه شخصية في ذهن روائية! الروائي يفترض أن يملك مخيّلة واسعة وحساسية كبيرة تمكنّه من تلبّس أي شخصية وولوج عالمها مهما كان صعباً أو سرّياً. وإلا فما معنى أن تمتلك مخيّلة؟
• من أين يبدأ مشروعك الروائي، وإلى أين تنوين الذهاب به؟
•• أعتقد أنه يبدأ من قلق ما واعتراض، وأنه ماضٍ في ذلك إلى ما لا نهاية. كما أرى الأمور، الداخل والخارج لا يتطابقان، ويسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان. في المسافة هذه، يسكن هاجسي الروائي ومشروعي.
• بماذا تتسم علاقتك بالعالم العربي، وأنت تقيمين في أوروبا، أو العالم الغربي؟ تعيشين بوجدان عربي في فضاء فرنسي.
•• أقمتُ طويلاً في فرنسا، قبل انتهاء الحرب وما بعدها، حتى تعبت. ثم عدتُ إلى لبنان وبقيت فيه 10 سنوات، إلى أن أصابني الإنهاك، فعدت هذا الصيف مرغمة إلى باريس. الأحرى أني هربت. أنا لا أنوي الموت هنا. خطوة وأعود إلى بيروت، وليكن ما يكون، لذا فالأمر ليس مجرد علاقة بالعالم العربي. أنت تحمل الأرضَ لتي ولدتَ عليها أينما ذهبت، تحملها بترابها وناسها وأشجارها؛ أعني أنك، حين تكتب بالعربية، تسكن لغتَك، أو أنّها لغتك تسكنك فيما أنت تسكن العالمَ.
• متى تمنيتِ لو لم تكوني كاتبة؟
•• كل يوم، أنا أتمنى لو أني شجرة.
• في ظل مشروع محترفك الكتابي.. هل الكتابة موهبة فطرية؟ أم إنجاز مكتسب؟
•• هي موهبة حتماً، لكنّ الموهبة تُصقل كأيّ حجر ثمين. نحن العرب لا نقرأ كثيراً، أو أن ما نقرأه غير كافٍ في عصر اختلطت معايير الجودة ومعايير الانتشار. لقد التقيتُ قراءً عرباً يفاخرون بقراءتهم كتاباً واحداً أو كاتباً دون سواه. في محترفي، أختار كتّاباً موهوبين حتماً، لكني أعمل عليهم ومعهم طويلاً، خلال عام، انتهاءً بإصدار أعمالهم في دور نشر محترمة. لقد أنجز المحترف إلى اليوم 23 رواية لكتّاب من مختلف أنحاء الوطن العربي، في أفضل دور النشر العربية، وقد نال بعضها جوائز أدبية رفيعة وأصبحت بعضُ الأسماء معروفة في المشهد الأدبي.
• كيف هي علاقتك بالجوائز؟
•• الجوائز العربية محيّرة. حين بدأت الكتابة، لم تكن موجودة، وقد انتشرت أثناء فترة توقّفي. ما يجدر قوله بهذا الشأن هو أن الكاتب العربي يحتاج عامةً إلى دعم ماديّ، هذه حقيقة، والمطلوب من الحكومات والجهات المعنية على اختلافها أن تتيح له التفرّغ لكتابته ومشاريعه، ولستُ على يقين أن الجوائز تمنحه أهمّ ما يحتاج إليه.
• ما الذي تضيفه ترجمة أعمالك إلى لغات غير العربية؟ ألا تخشين على نصك من الخيانة؟
•• الترجمة الجيدة لا تكون خيانة أبداً، لأنها ترجمة لروح النص، لا لكلماته فقط. والترجمة تضيف إذ تشكّل جسر تواصلٍ مع الآخرين، هذه هي أهميتها الفعلية. أما كل ما يدور حولها من أوهام وادّعاءات، فباطل.
• لمن تقرأين عربياً؟ وهل لفتت انتباهك أعمال سعودية؟
•• أحاول أن أتابع ما يصدر عربياً قدر الإمكان، وأعترف أنني لا أحيط للأسف بكل ما يُكتب. الأعمال السعودية تنال اهتماماً متزايداً والأسماء التي لمعت كثيرة من أمثال غازي القصيبي، محمد علوان، رجاء عالم، عبده خال، تركي الحمد، أميمة الخميس، يوسف المحيميد، بدرية البشر، وآخرين ممّن لا تتسع العجالة هنا لذكرهم.. قرأت مؤخراً رواية «شارع العطايف» لعبدالله بن بخيت وأعجبتني.