من يطالع تراث ابن جرير الطبري المطبوع اليوم، يجد نفسه أمام كم ضخم من الإنتاج العلمي والمعرفي الذي بقي على مر القرون من أهم المصادر العلمية والأصيلة التي لا يستغني عنها أي باحث في التراث الإسلامي، بل ارتبط اسم الطبري بفني التاريخ والتفسير، حتى أصبحت كتبه في هذا الصدد من أهم وألمع الأسماء التي احتلت الصدارة العليا، وتداولها الناس في أصقاع العالم الإسلامي على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.
قدم الطبري في التفسير كتابه «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، الذي اشتهر باسم «تفسير الطبري»، وهو في 30 جزءاً، ويصل في طبعاته الحديثة لأكثر من 20 مجلداً، ويعد هذا الكتاب من أهم كتب التفسير، إن لم يكن أهمها على الإطلاق في «التفسير بالمأثور».
أما كتابه الثاني فهو «تاريخ الرسل والملوك» الذي اشتهر هو الآخر باسم «تاريخ الطبري»، وطبع في عشرة أجزاء، ويعد من أهم المصادر العربية المبكرة في تدوين تاريخ العرب والإسلام، وذروة التأليف التاريخي عند المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، وأحد أهم المصادر الموثوقة للتاريخ الإسلامي، كما أنه مصدر ثري لمعرفة أحوال وأخبار الأمم السابقة منذ بدء الخليقة.
من يطالع هذين الكتابين، تأخذه الدهشة، ويصيبه الانبهار من هذه القدرة الهائلة، وسعة العلم والمعرفة التي تمتع بها هذا العالم الكبير في تأليفه لهذه الموسوعات الضخمة التي ما زالت حتى اليوم نابضة بالعطاء، وحاضرة في المحافل العلمية والرسائل الأكاديمية، والأعجب من ذلك أن كل هذا الإنتاج الضخم هو جهد فردي من عالم بذل وقته وجهده من أجل العلم، ولا ينقضي العجب حين نعلم أن مؤلفاته المطبوعة اليوم، لا تساوي إلا نزراً يسيراً مما وصل إلينا.
ومن لطيف ما يروى عن سيرة الطبري، ما ذكره الذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام» أن أبا جعفر بن جرير قال لأصحابه: «هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة. قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. فقال: إنا لله، ماتت الهمم. فأملاه في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ولما أراد أن يملي التفسير قال لهم كذلك، ثم أملاه بنحو من التاريخ».
ويروى عن الطبري أنه جعل من وقته في يومه جزءاً للتصنيف والكتابة، هو ما بين صلاتي الظهر والعصر، حيث يذكر الخطيب البغدادي في تاريخه: «أنه سمع علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي يقول: إن الطبري واظب على الكتابة أربعين سنة، ويكتب في كل يوم أربعين ورقة، وبحسابها يظهر أن مجموع ما كتبه أزيد من خمسمائة وثمانين ألف ورقة».
ومن عجيب ما تخبرنا به كتب التراجم والأخبار، أن للطبري مصنفات أخرى يصل حجمها إلى آلاف الصفحات أيضاً، وربما يعادل أضعاف كتابيه في التاريخ والتفسير، لكنها في عداد الكتب المفقودة ولم يتبق منها إلا أوراق يسيرة جداً.
من هذه الكتب، كتاب «اختلاف الفقهاء» الذي كان سبباً في محنته مع حنابلة بغداد -كما مر معنا في المقالات السابقة-، ويذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء طرفاً من تاريخ هذا الكتاب، حيث يروي أن اسمه الأصلي هو «اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام»، يقول :«كتابه المشهور بالفضل شرقاً وغرباً، قصد به إلى ذكر أقوال الفقهاء وهم: مالك بن أنس فقيه أهل المدينة بروايتين، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري بروايتين، ثم محمد بن إدريس الشافعي ما حدّث به الربيع بن سليمان عنه، ثم من أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأبو يوسف يعقوب بن محمد الأنصاري وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لهم ثم إبراهيم بن خالد أبو نصر الكلبي.. وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة».
يشير محمد الزحيلي في كتابه «الإمام الطبري.. شيخ المفسرين، وعمدة المؤرخين» أن كتاب اختلاف الفقهاء يساوي في حجمه الأصلي، كتاب التفسير، مما يدل أننا أمام موسوعة ضخمة في علم الخلاف والفقه المقارن، من شخصية فريدة قل أن تجد لها نظير، استطاعت أن تقدم مؤلفات كبرى شاملة للتراث الفقهي، وعلوم القرآن والتفسير، والتاريخ. لكن هذا الكتاب لم يصل إلينا إلا جزء يسير منه، ولا يزال المفقود منه حتى الآن أكثر من تسعين بالمائة، وقد قام المستشرق الألماني فردريك كرن بطباعة جزء يسير منه.
هذا الكتاب أول مؤلفات الطبري، وذكر الهدف من ذلك «ليتذكر به أقوال من يناظره، فهو عرض للآراء، وليس دراسة لها، ثم انتشر الكتاب وطلب منه تلاميذه وأتباعه أن يقرأه عليهم، فقرأه على أصحابه، وعدل فيه كثيراً، وأضاف إليه آراءه الخاصة التي وصل إليها»، ثم ألف بعد ذلك كتابه (لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام)، وهو الذي يُختصر ويُسمَّى (اللطيف)، وفي ذلك كان الطبري يقول: «لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف». وُيذكر أيضاً «أنه كتاب كبير من آلاف الصفحات، وقد قيَّد فيه مذهبَه الفقهيَّ الاجتهاديَّ، والكتاب- كما وصفوه- من أنفس كتبه، ومن أهم مصادر المذاهب وكتب الفقهاء، وتضمن مع المسائل الفقهية التفصيلية مباحثَ أصول الفقه مثل: الإجماع، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والخصوص والعموم، والاجتهاد، والاستحسان وحجيته، وأخبار الآحاد، والمراسيل». (انظر: الطبري ومآثره، لعلي الشبل، والإمام الطبري، لمحمد الزحيلي).
يعلق الحموي على كتاب «اللطيف»، فيقول: «وهو من جياد كتبه، وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه، وكتب الفقهاء، وأفضل أمهات المذاهب، وأسدها تصنيفاً، ومن قرأه وتدبّره، رأي ذلك إن شاء الله... ولا يظن ظان أن قوله: كتاب اللطيف، إنما أراد به صغره، وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه، وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون في نحو ألفين وخمسمائة ورقة».
وينضم كتاب اللطيف والاختلاف لعداد الكتب المفقودة من مؤلفات الطبري، التي تكشف لنا عن حجم الكم الهائل من التراث العربي المفقود، الذي وصل إلينا جزء يسير منه، ورغم ذلك كان هذا الجزء المتبقي منارة لثراء العلوم والمعارف، وعطاء متجدداً حتى اليوم.
قدم الطبري في التفسير كتابه «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، الذي اشتهر باسم «تفسير الطبري»، وهو في 30 جزءاً، ويصل في طبعاته الحديثة لأكثر من 20 مجلداً، ويعد هذا الكتاب من أهم كتب التفسير، إن لم يكن أهمها على الإطلاق في «التفسير بالمأثور».
أما كتابه الثاني فهو «تاريخ الرسل والملوك» الذي اشتهر هو الآخر باسم «تاريخ الطبري»، وطبع في عشرة أجزاء، ويعد من أهم المصادر العربية المبكرة في تدوين تاريخ العرب والإسلام، وذروة التأليف التاريخي عند المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، وأحد أهم المصادر الموثوقة للتاريخ الإسلامي، كما أنه مصدر ثري لمعرفة أحوال وأخبار الأمم السابقة منذ بدء الخليقة.
من يطالع هذين الكتابين، تأخذه الدهشة، ويصيبه الانبهار من هذه القدرة الهائلة، وسعة العلم والمعرفة التي تمتع بها هذا العالم الكبير في تأليفه لهذه الموسوعات الضخمة التي ما زالت حتى اليوم نابضة بالعطاء، وحاضرة في المحافل العلمية والرسائل الأكاديمية، والأعجب من ذلك أن كل هذا الإنتاج الضخم هو جهد فردي من عالم بذل وقته وجهده من أجل العلم، ولا ينقضي العجب حين نعلم أن مؤلفاته المطبوعة اليوم، لا تساوي إلا نزراً يسيراً مما وصل إلينا.
ومن لطيف ما يروى عن سيرة الطبري، ما ذكره الذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام» أن أبا جعفر بن جرير قال لأصحابه: «هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة. قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. فقال: إنا لله، ماتت الهمم. فأملاه في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ولما أراد أن يملي التفسير قال لهم كذلك، ثم أملاه بنحو من التاريخ».
ويروى عن الطبري أنه جعل من وقته في يومه جزءاً للتصنيف والكتابة، هو ما بين صلاتي الظهر والعصر، حيث يذكر الخطيب البغدادي في تاريخه: «أنه سمع علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي يقول: إن الطبري واظب على الكتابة أربعين سنة، ويكتب في كل يوم أربعين ورقة، وبحسابها يظهر أن مجموع ما كتبه أزيد من خمسمائة وثمانين ألف ورقة».
ومن عجيب ما تخبرنا به كتب التراجم والأخبار، أن للطبري مصنفات أخرى يصل حجمها إلى آلاف الصفحات أيضاً، وربما يعادل أضعاف كتابيه في التاريخ والتفسير، لكنها في عداد الكتب المفقودة ولم يتبق منها إلا أوراق يسيرة جداً.
من هذه الكتب، كتاب «اختلاف الفقهاء» الذي كان سبباً في محنته مع حنابلة بغداد -كما مر معنا في المقالات السابقة-، ويذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء طرفاً من تاريخ هذا الكتاب، حيث يروي أن اسمه الأصلي هو «اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام»، يقول :«كتابه المشهور بالفضل شرقاً وغرباً، قصد به إلى ذكر أقوال الفقهاء وهم: مالك بن أنس فقيه أهل المدينة بروايتين، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري بروايتين، ثم محمد بن إدريس الشافعي ما حدّث به الربيع بن سليمان عنه، ثم من أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأبو يوسف يعقوب بن محمد الأنصاري وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لهم ثم إبراهيم بن خالد أبو نصر الكلبي.. وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة».
يشير محمد الزحيلي في كتابه «الإمام الطبري.. شيخ المفسرين، وعمدة المؤرخين» أن كتاب اختلاف الفقهاء يساوي في حجمه الأصلي، كتاب التفسير، مما يدل أننا أمام موسوعة ضخمة في علم الخلاف والفقه المقارن، من شخصية فريدة قل أن تجد لها نظير، استطاعت أن تقدم مؤلفات كبرى شاملة للتراث الفقهي، وعلوم القرآن والتفسير، والتاريخ. لكن هذا الكتاب لم يصل إلينا إلا جزء يسير منه، ولا يزال المفقود منه حتى الآن أكثر من تسعين بالمائة، وقد قام المستشرق الألماني فردريك كرن بطباعة جزء يسير منه.
هذا الكتاب أول مؤلفات الطبري، وذكر الهدف من ذلك «ليتذكر به أقوال من يناظره، فهو عرض للآراء، وليس دراسة لها، ثم انتشر الكتاب وطلب منه تلاميذه وأتباعه أن يقرأه عليهم، فقرأه على أصحابه، وعدل فيه كثيراً، وأضاف إليه آراءه الخاصة التي وصل إليها»، ثم ألف بعد ذلك كتابه (لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام)، وهو الذي يُختصر ويُسمَّى (اللطيف)، وفي ذلك كان الطبري يقول: «لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف». وُيذكر أيضاً «أنه كتاب كبير من آلاف الصفحات، وقد قيَّد فيه مذهبَه الفقهيَّ الاجتهاديَّ، والكتاب- كما وصفوه- من أنفس كتبه، ومن أهم مصادر المذاهب وكتب الفقهاء، وتضمن مع المسائل الفقهية التفصيلية مباحثَ أصول الفقه مثل: الإجماع، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والخصوص والعموم، والاجتهاد، والاستحسان وحجيته، وأخبار الآحاد، والمراسيل». (انظر: الطبري ومآثره، لعلي الشبل، والإمام الطبري، لمحمد الزحيلي).
يعلق الحموي على كتاب «اللطيف»، فيقول: «وهو من جياد كتبه، وهو مجموع مذهبه الذي يعول عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه، وكتب الفقهاء، وأفضل أمهات المذاهب، وأسدها تصنيفاً، ومن قرأه وتدبّره، رأي ذلك إن شاء الله... ولا يظن ظان أن قوله: كتاب اللطيف، إنما أراد به صغره، وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه، وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون في نحو ألفين وخمسمائة ورقة».
وينضم كتاب اللطيف والاختلاف لعداد الكتب المفقودة من مؤلفات الطبري، التي تكشف لنا عن حجم الكم الهائل من التراث العربي المفقود، الذي وصل إلينا جزء يسير منه، ورغم ذلك كان هذا الجزء المتبقي منارة لثراء العلوم والمعارف، وعطاء متجدداً حتى اليوم.